تمهيد عام:
لقد تخبط العقل المسلم في القرنين الأخيرين في مسائل هي في الأصل زائفة كلياً ولا تمت بصلة إلى منظومة أفكاره الخاصة التي تتوافق عناصرها مع بعضها وتحل إشكالاتها من داخلها.
إنها شبكة عنكبوت ضخمة يراها المسلم هائلة لا مخرج منها لأنه هو ضعيف فاقد الفاعلية فاقد الثقة بنفسه، ولو أنه تحول إلى وضع الفاعلية الحضارية من جديد لأدرك أن كل هذه الإشكاليات المفروضة عليه من خارجه تستحيل إلى غبار وهباء بل ستظهر على أنها إما سوء فهم من الآخر أو سوء نية،وستبدو شبكة العنكبوت التي جعلته الإشكاليات الزائفة يتخبط فيها إذن على حقيقتها: إنها ليست أكثر من بيت عنكبوت وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت!.
من هذه الإشكاليات الزائفة التي ظهرت في العصر الحديث إشكالية "الحجاب"، ولعل كل من فرغ نفسه لقراءة متمعنة في تطور المفاهيم التي شكلت الثقافة العربية المعاصرة سيهوله أن يرى كيف تراكمت مفاهيم مغلوطة تناطح المنطق، مفاهيم فرضت نفسها ليس على خصوم الإسلام فقط بل على أنصاره المفترضين أيضا،ً وإنني لآمل أن قارئي العزيز غير المتعجل سوف يرى في السطور اللاحقة من هذا المقال مثالاً على ما ذكرته الآن وهو المثال المتعلق بهذه الإشكالية الزائفة المفروضة التي سموها "مشكلة الحجاب".
لعل مسألة الحجاب هي أوضح عرض من أعراض مرض عدم الانسجام في مكونات البنية الثقافية العربية المعاصرة، والمشاكل المقترنة بقضية الحجاب تكاد تلخص كل مأساة الوضع المقلقل لهذه الثقافة في العالم.إنها ثقافة تتعارض عناصرها المكونة وتتحارب حرباً داخلية مستمرة ليس على الصعيد السياسي فقط بل حتى على الصعيد النفسي الفردي، إن مكونات هذه الثقافة تشكو من الازدواجية والتعارض،إذ أن قيمها الجمالية تعارض قيمها الأخلاقية،والمميز الجوهري لهذه الثقافة هو انقسامها الفريد إلى ثقافتين:واحدة سائدة هي ثقافة الغالبية الأهلية وواحدة مسيطرة هي ثقافة النخبة المتملكة لزمام السلطة.ولا تظهر ازدواجية هذه الثقافة في مثال أوضح من مثال الحجاب.
كانت حلقة من برنامج تلفزيوني (حلقة خاصة من برنامج "الحياة حلوة" في قناة "اقرأ" الفضائية قدمها الأستاذ جاسم مطوع بعنوان "بنات لبنان"-الجزء الثاني*) مجرد مناسبة وجدتها لمناقشة مفاهيم مغلوطة شائعة تتعلق بالحجاب سمعتها من فتيات حسنات النية ناصرن الحجاب كموقف عقدي مبدئي في سبيله رضين بشتى الإزعاجات بل أنواع التمييز ضدهن، وهن بهذا مستحقات لكل تقدير، وردد هذه المفاهيم أيضاً مشاركون آخرون في البرنامج.
1- ظهور إشكالية "الحجاب" في العصر الحديث:
لم تظهر إشكالية حجاب المرأة قبل العصر الحديث، ولم تكن هذه الإشكالية طبيعية،وخالطها كثير من الزيف، وحشر بها الإسلام حشراً. لنلاحظ أن دعاة "تحرير المرأة" عندنا بدءاً من قاسم أمين واجهوا وضعاً خاصاً للمرأة هو وضعها كما خلفه عصر الانحطاط، وما رافقه من انهيار اجتماعي عام للرجل والمرأة معاً، وفيه ابتعد المجتمع المسلم ببناه السياسية والاجتماعية عن مقاصد الشريعة الإسلامية، ولكن المعركة التي دارت بين "المجددين" و"المحافظين" آنذاك كان الإسلام بعيداً عنها في كثير من الحالات.
فأما "المجددون" فلم يبنوا تجديدهم في الحقيقة على مسعى داخلي لإصلاح الوضع الاجتماعي المنحرف على قاعدة نهضوية أصيلة تعيد للإسلام كل بهاءه الأصيل وسعة أفقه وتجربته العظيمة، بل بنوا دعوتهم على قاعدة الانبهار بالتجربة الغربية.
وأما خصومهم الذين افترض بهم الدفاع عن الإسلام فقد بنوا دفاعهم على الأغلب على مفهومهم هم للإسلام كما وصل إليه التطور النازل للمجتمع الإسلامي في عصور الانحطاط.
وما دافع عنه هؤلاء كان وضع المرأة لا كما كان في عصور الإسلام الأولى: وضع المرأة التي تستطيع أن تكون عالمة ومجاهدة وقائدة رأي عام،وضع خديجة وعائشة وفاطمة وزينب وخولة ونسيبة والخنساء والفارعة بنت طريف وغزالة الحرورية!، بل كان مثلهم الأعلى وضع المرأة الأمية الجاهلة التي لا نفع منها لمجتمعها ولا حتى لعائلتها، الوضع الذي أوصلتها إليه ظروف العصور المتأخرة القاسية، عصور الخمود الحضاري والاستبداد والطغيان وانفلات الجنود في طرقات المدن بلا وازع(هذا الوضع الأخير يفسر تحول حارات المدن إلى قلاع وصعوبات ظهور المرأة خارج منزلها، إلى آخره.. مما نشهد بقايا من علاماته في حارات مدننا القديمة الضيقة التي كانت تسد في الليل،فانعدام الأمن كان له تأثيره المدمر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية).
سأذكر للقارئ هنا أن قاسم أمين لم يركز دعوته على مطلب نزع "حجاب المرأة" بمعنى الحجاب الذي استجد بعد عهده، بل ركزها على مطلب خروج المرأة من البيت إلى المدرسة والمجتمع .
وخصومه سموا هذه الدعوة "دعوة إلى السفور" وإن كان مؤيدو الدعوة أيضاً لم يمانعوا في مصطلح "السفور" أيضاً بل كانت في مصر هناك مجلة اسمها "السفور" .
يستعمل مصطلح "الحجاب" في أيامنا هذه بأحد معان ثلاثة: 1- غطاء الرأس، 2- لباس معين لكل الجسد والرأس، 3- حالة شاملة للمرأة تحتجب فيها المرأة في بيتها وتنعزل عزلة مطلقة عن بعض القطاعات الاجتماعية.
حين أقول إن إشكالية "الحجاب" إشكالية حديثة أعني أن المجتمع الإسلامي قبل غزو القيم الغربية الذي جاء به العصر الحديث ما كان مضطراً "لابتكار" هذه الإشكالية فهي جاءت حصراً على أرضية وضعية نشأت حديثاُ مع الغزو الثقافي القيمي الذاتي (سميته غزواً ذاتياً لأنه لم يثبت لي ولا أظنه يثبت لأحد من الباحثين أن الاستعمار الغربي فرض بالقوة إلغاء الحجاب بل كان العامل الرئيسي التقليد المنبهر المستلب لشرائح ثقافية اجتماعية قائدة عندنا).
وقبل عصر الغزو هذا كان للمرأة المسلمة أوضاع مختلفة باختلاف الزمان (اختلف وضع المرأة بين عصر الصحابة والعصر الأموي والعصر العباسي وعصور الانحطاط) واختلاف المكان (اختلف وضع المرأة بين الريف والمدينة والبادية واختلف أيضاً بعض الاختلاف مع اختلاف الشعوب الإسلامية في تقاليدها المحلية) ولكن في جميع الحالات كان هناك معيار شرعي لثياب المرأة وثياب الرجل يلتزم بديهياً (وهو المعيار المعروف الذي يوجب أن لا يكون الثوب يشف أو يصف).
هذا المعيار (وهذا من البديهيات المنسية في عصرنا) لم يكن يعني زياً محدداً "موحداً" كأزياء الجنود للمرأة وللرجل، فهو لم يمنع من وجود أزياء مختلفة (صرنا الآن نسميها "تقليدية") بين الشعوب الإسلامية المختلفة والشرائح المختلفة في كل شعب (عندنا في بلاد الشام كان هناك زي للبدو وزي لفلاحي المناطق يختلف من منطقة لأخرى وزي للمدن)، فلا معنى في الحقيقة للخطأ الشائع الذي يزعم أن زي المرأة المسلمة لا يجوز أن يكون إلا على شكل واحد هو مثلاً ما يسمى "الجلباب"، وهو زي مبتكر لا يتجاوز عمره بضعة عقود، ولا علاقة له ضرورية بالجلابيب المذكورة في القرآن،وهو مجرد زي جائز يفي بالمعيار الشرعي للزي الإسلامي ولكنه "جائز" فحسب وهو ليس "إلزامياً" بحال من الأحوال!
ولا يوجد لا نص قرآني ولا نص من السنة يفرض على المرأة أن ترتدي زياً محدداً في عرض البلاد الإسلامية وطولها!فشروط الزي الشرعي لا تستلزم التفصيلة نفسها على طريقة واحدة كأزياء الجيش! وفي اعتقادي أن أي منصف سيرى أن لباس المرأة الحورانية مثلاً الذي لا تزال ترتديه النساء في جنوب بلاد الشام من كبيرات السن كان لباساً إسلامياً لا غبار عليه وفيه جمالية خاصة وبصمة أصيلة جلبتها تلك المنطقة من مناطق عالم الإسلام كأنها "غرزة" خاصة في السجادة الإسلامية الخالدة! ، ولا تتعارض الجمالية مع الإسلام بالضرورة!، ولا أعرف من أين جاء المحدثون بهذه الفكرة التي تزعم أن الإسلام يشجع على قبح الثياب! ما أبعد الفارق بين مفهومي "الثياب المحتشمة" و"الثياب القبيحة" وبسبب الدمج بين هذين المفهومين نشأت هذه الظاهرة المحزنة التي سأتكلم عنها بعد قليل وهي ظاهرة التذمر من الحجاب عند المحجبات وعده قيداً أو بأحسن الحالات تضحية كبيرة تقوم بها المرأة، وفيه شخصية مميزة، وكذلك لباس المرأة الشركسية إلى آخره، فهذه الأزياء كانت منظومات متكاملة متناسبة مع الاعتبارات جميعها: الاعتبار الشرعي والاعتبار العملي المتعلق بالمناخ والعمل والاعتبار الجمالي والاعتبار الثقافي الذي يميز كل ثقافة محلية عن الأخرى.إن الأزياء المحلية التي صرنا نسميها الآن "أزياء تقليدية" للرجال والنساء كانت هي نسخة المنطقة الخاصة من الزي الإسلامي، بحيث يفي بالمتطلبات الشرعية لزي المسلم والمسلمة ويحمل بصمة الذوق المحلي ونكهته الجمالية الخاصة!
وبخلاف العصر الحديث كان هناك تقاليد صارمة موجهة للجنسين كليهما فيما يتعلق بموضوع ما يجوز ظهوره وما لا يجوز ظهوره من الجسم وهي في مجملها طبعاً لا تنزل عن الحد الأدنى المطلوب شرعاً للستر ولكنها قد تزيد عليه وهذا لا يخص النساء فقط بل يخص الرجال أيضاً، ولعلي أذكر للقارئ هنا ذلك الخلاف الطريف الذي يضرب في كتب الفقه القديمة مثلاً على اختلاف الأحكام في الزمان والمكان وهو اختلاف المعايير لمفهوم "المروءة" (الذي يطلب مثلاً للشاهد أو القاضي) بين الشام والمغرب، فقد قيل أن كشف الرأس عند أهل الشام كان كافياً للحكم على الرجل بعدم المروءة لأن تقاليد القوم كانت على هذا! على حين أن كشف الرأس ما كان يخل بالمروءة في المغرب لأن القوم هناك جروا على هذا.
فالعصر الحديث جاءنا بمفهوم "الحجاب" كلباس خاص يميز المرأة المسلمة،واستعمل المفهوم من قبل خصوم الشريعة والمشنعون عليها وناصرهم ضيقوا الأفق الذين يحسبون أنفسهم أنصارها للزعم أن الإسلام يخص المرأة حصراً بزي يميزها، والحقيقة أن كلا المرأة والرجل لزيه شروط شرعية لا يجوز له الخروج عليها! وفي هذا المفهوم من العيوب ما أراه يغيب عن عيون أنصار الحجاب من الجنسين، وهذه العيوب ستتجلى في الفقرات اللاحقة حين أناقش بعض أقوال المشاركين في حلقة برنامج "الحياة حلوة" المذكورة ولكنني سأذكر هنا واحدة من هذه العيوب الخطيرة:
لقد أقر المسلمون في البلاد التي قبل رجالها استيراد اللباس الغربي لأول مرة بنوع من المعايير المزدوجة تعامل المرأة بما لا تعامل به الرجل فحين لبس الرجل اللباس الغربي (الذي هو للعلم لا يتناسب مائة بالمائة مع المتطلبات الشرعية للباس الرجل أيضاً!) فإنه "حرم" المرأة من أن تحتذي حذوه فتقلد لباس المرأة الغربي! .
هذه النقطة أراها في غاية الأهمية وإني لأدعو القارئ العزيز إلى التمعن فيها ملياً:
حين صار اللباس الغربي عندنا يعتبر هو "الطبيعي" وهو "المعياري" فإن هذا تضمن بصورة منطقية لا محيد عنها أن كل لباس غير غربي هو "غير طبيعي" وهو بالتالي "شاذ" و "خارج عن المألوف"!. ومن هنا تنظر البلاد التي تبنى رجالها اللباس الغربي ببعض الاستغراب إلى بلاد أخرى حوفظ فيها على "اللباس التقليدي" كبلاد الخليج وليبيا والسودان وهذه النظرة هي عينها ينظر بها إلى المرأة التي خرجت على "المألوف" أي الزي الغربي فارتدت الحجاب .
قال المثل المعروف: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" وهذا المثل الذي نضربه هذه الأيام كثيراً في ميدان السياسة يمكن لنا في اعتقادي أن نضربه في مجال آخر هو مجال الحجاب. إننا حين تنازلنا عن لباسنا التقليدي كرجال سهّلنا اضطهاد المرأة التي ترفض السير وفق "مألوف" اللباس الغربي!
لقد أصبح نظام الثياب عندنا نظاماً هجيناً يعكس هجانة كل نظامنا الفكري والاجتماعي والسياسي والمرأة المسلمة كانت أبرز ضحية من ضحايا هذا الوضع الهجين.
وبسبب التمييز في المعاملة بين المرأة والرجل في موضوع الأزياء، حيث وحدها المرأة منعت من التطابق التام مع المعيار الغربي، ظهر عند المرأة الشعور بأنها "مستهدفة" وأنها قيدت بقيد حين طلب منها الحجاب، وهذا ما سهل أيضاً (وهذا ما لا يذكر أيضاً في النقاشات حول هذا الموضوع) للغربيين أن لا يروا في الحجاب إلا تمييزاً ضد المرأة ما دامت المرأة لوحدها ارتكبت "وقاحة" مخالفتهم في الزي! ولو كان رجال المسلمين حافظوا على أزيائهم التقليدية لصار اضطهاد الزي الإسلامي بتشكيلاته العديدة (التي ذكرتها قبل قليل) أصعب، ففي هذه الحالة لا يوجه الاضطهاد إلى أفراد من جنس واحد بل إلى شعوب كاملة! ولهذا لم يعجبني تماماً جواب المسلم الذي أجاب دكتورة غربية على اتهامها للإسلام باضطهاد المرأة حين فرض عليها قيد الحجاب وهو الجواب الذي أعجب معد برنامج "الحياة حلوة" الأستاذ مطوع،قال المسلم للدكتورة المذكورة: ألست حين تذهبين إلى السهرة يطلب منك منظموا السهرة فستان سهرة محدداً؟وكذلك حدد الله للمرأة التي تريد الذهاب إلى الجنة "ثوب سهرة" للجنة هو الحجاب! لم يعجبني الجواب كل الإعجاب لأنه تأكيد لفكرة أن المرأة لوحدها دون الرجل هي التي خضعت في الإسلام لقواعد تحدد لها زيها!
2- الحجاب "العادة" و "العبادة" ، هل من تناقض بينهما؟
في البرنامج المذكور أعلاه ذكر المشاركون مراراً باحتقار "من ترتدي الحجاب كعادة لا كعبادة"، ووضع العادة في موضع التناقض مع العبادة خطأ شائع فادح يدلني وأقولها بكل أسف عل سطحية مفاهيم كثير من المتدينين في عصرنا.
لأذكر هؤلاء بداية أن أفضل أشكال السلوك الحسن ما انقلب إلى عادة! ومخالفة العادة أصعب بكثير كما هو معلوم من مخالفة ما ليس بعادة! ومن المفيد للتوضيح هنا ذكر النساء من أمهاتنا وجداتنا اللواتي كان تغيير الزي عندهن بزي غربي أمراً مستحيلاً، لأذكر أن "عادتهن" تلك لم تكن متناقضة مع معتقداتهن الدينية بل كانت تعبر عن أن هذه المعتقدات منغرزة عميقاً في اللاشعور. وفي الحقيقة لا يتحقق نجاح من يدعو المجتمع إلى سلوك معين تحققاً نهائياً حتى يتحول هذا السلوك إلى "عادة" !
"العادة" يا سادة يمكن لنا من الناحية النفسية أن نرى فيها نمط حياة محمياً بروابط انفعالية وعاطفية قوية جداً يصعب قطعها، فليس السؤال الصحيح هو: "كيف نقضي على العادة ونحولها إلى عبادة؟"، وطرح القضية على هذا النحو يحمل رائحة احتقار المجتمع عند بعض الدعاة التي حذر العبد الفقير منها مراراً، ومثلاً أعيد القارئ إلى مقال لي نشر في العدد 1444 من مجلة "المجتمع" الكويتية بعنوان "إجحاف بعض الدعاة بحق المجتمعات الإسلامية"، بل السؤال هو على العكس: "كيف نحصن العادات الإسلامية في المجتمع فكرياً ونفسياً بحيث يضاف إليها عنصر الدفاع الفكري العقدي الشعوري الواعي؟". وما دامت القضية تطرح على هذا النحو فسأقول لهؤلاء الأخوة: إن امرأة "متعودة" على لباسها الإسلامي ومقتنعة به هي أبعد بكثير جداً من إمكانية الارتداد عن هذا اللباس من امرأة مقتنعة به ولكنها غير متعودة عليه!
لقد شنت هجمات كثيرة على العادات والتقاليد في القرن الماضي ولو قرأتم هذه الهجمات بعناية لرأيتم أن معظمها كان يهدف في الحقيقة إلى اجتثاث تلك الروابط العاطفية والانفعالية اللاشعورية المتينة التي "تموضعت" فيها العقيدة الإسلامية و"تجسدت" على شكل مؤسسات اجتماعية وعلاقات بين الأفراد وأنماط سلوكية، ومساهمة الدعاة الإسلاميين المتهورة غير المتبصرة في الهجوم المعمم بلا تحديد وتعيين دقيق على العادات والتقاليد ما كان من شأنها إلا أن تحرم هذه النواة الصلبة للعقيدة الإسلامية المتجسدة من غطائها الفكري ودفاعها النظري! لقد اتخذت بعض العادات والتقاليد المناقضة لنص الشريعة وروحها مقاصدها ذريعة لهجوم شامل على المجتمع الأهلي زلزلت طابع هذا المجتمع المنبني أساساً على قاعدة تاريخية مما أسميته "الإسلام المتموضع أو المتجسد"،ولم يسأل في بعض الحالات من ساهم في الهجوم نفسه عما إذا كان في الحقيقة سيصل إلى الهجوم على الإسلام نفسه بوصفه من "العادات" و"التقاليد"!
3- الحجاب ... أهو "جميل" أم "قبيح"؟
من الأفكار الشائعة، ولكنها هذه المرة مضمرة لا يجرؤ أحد أن يعلن عنها إلا،ربما، بعض خصوم الحجاب، أما أنصاره فهم مقتنعون بها ولكن لا يعلنونها، فكرة تقول: إن الحجاب يقبّح المرأة (بتشديد الباء:أي يجعلها قبيحة) ولكنه فرض من الله عليها أن تمتثل له ولو كان فيه هذه المشقة العظيمة التي هي القبول بزي قبيح كما أن المسلم يقبل بصوم رمضان حتى ولو كان فيه مشقة ما دامت محتملة لا تهدد الحياة أو الصحة!
سأقول بداية أن هذا الاعتقاد يناقض بوضوح نصوصاً ثابتة من القرآن والسنة تؤكد أن جمال المظهر أمر مستحب فهو من الفطرة والإسلام دين الفطرة!
فكيف نقبل عقلاً أن يأتي فرض يتناقض مع هذا التوجه الفطري؟ ولأنتقل الآن إلى تفسير الظاهرة النفسية- الاجتماعية التي ظهرت في العصر الحديث وهي استقباح الأزياء الإسلامية.
إن زياً محدداً بحد ذاته لا يحمل صفات جمالية جوهرية فهذه الصفات يضفيها عليه المجتمع، والثقافة المسيطرة هي التي تقدم النماذج التي ستعد "جمالاً" وتلك التي ستعد "قبحاً".
لو تخيلنا وضعاً تكون فيه المذيعات والممثلات والنساء الناجحات في المجتمع القادرات على إثارة إعجاب المواطنة العادية محجبات فإننا سوف نشهد تحول الحجاب إلى موضة كما أن عدم الحجاب هو الموضة في مجتمع كل النماذج التي تقدم فيه على أنها معيار للجمال غير محجبة.
والقارئ الذي سيسألني: "من أين لك أن المحجبات يرين الحجاب قبيحاً؟" سأجيبه أن دليلي على ذلك هو سلوك هؤلاء المحجبات حين يوجدن في بيئة نسائية خالصة، فالمشاهد أن غالبية منهن يسارعن إلى نزع الحجاب ويجرين تحولاً في مظهرهن بحيث يصبح مطابقاً بنسبة تطابق تصل إلى مائة بالمائة النموذج المسيطر "للمرأة الجميلة" وهو ببساطة النموذج الذي تعرضه السينما والتلفزيون والدعايات، وهذا يدل بمنتهى الوضوح في نظري على أن هؤلاء النسوة لا يعتبرن أنفسهن جميلات بالحجاب، وسأعود هنا لأذكر بما كان عليه وضع نساء "حجاب العادة" المحتقرات عند بعض أخواتنا وإخواننا، فقد كان الزي التقليدي كما نسميه الآن الذي يمكن أن ترتديه المرأة في عرس مثلاً هو أيضاً "زي محجب" إن أردنا استعمال هذا المصطلح الذي لم تكن تلك النسوة يعرفنه!
لأعد الآن لموضوع غطاء الرأس الذي هو ليس جزءاً رئيسياً من اللباس الغربي المعاصر(القبعة لا تشغل فيه جزءاً مهماً) ومن هنا يبدو غطاء الرأس لمثل هذا اللباس جزءاً زائداً لا ضرورة له ،بل هو بالأحرى "تشويه"!
في الزي التقليدي الذي كانت ترتديه المرأة في حوران أو السويداء أو إدلب أو المرأة الشركسية(ذكرت نماذج أعرفها) كان غطاء الرأس جزءاً جوهرياً من اللباس لا يكمل اللباس بدونه، و"التشويه" في هذا النوع من الزي يكون بفقدان هذا الجزء الجوهري!
وقد يبدو هذا القول لمن تعود على عد منظومة اللباس الغربية "بديهية" غريباً ولكنني أذكر القارئ بمنظومة أزياء لم تزل موجودة بالفعل:منظومة أزياء المرأة الهندية والسيريلانكية التي تحتوي على غطاء الرأس كجزء جوهري ،ناهيك عن لباس الراهبات الغربيات.
ولكنني سأذكر مثالاً هو بعد أقرب للقارئ العربي: إنه مثال أزياء الرجال!
في مناطق الفلاحين في بلاد الشام (حوران وفلسطين) كانت الحطة والعقال جزءاً جوهرياً من لباس الرجل لا يخرج بدونه،ولو ذهب إلى محفل عام فإنه سيحس بأنه شوه (بل أهين) إن أكره على خلع غطاء رأسه!
فليس عد غطاء الرأس إذن تشويهاً أمراً بديهياً وهو ليس كذلك إلا لأن منظومة الزي التي أخذناها لا غطاء رأس فيها!
المعيار الجمالي الحقيقي إذاً، وهذه هي الفكرة الجوهرية لهذه الفقرة، في مجتمعنا القائم هو بالذات المعيار الغربي المستورد، إنه المعيار المستبطن حتى في قسم كبير من قطاع النساء المحجبات، وهذا بالفعل خطر هائل على الحجاب، إذ سيظل الحجاب على كف عفريت كما يقال طالما ظلت مرتدياته مقتنعات بأنه في الحقيقة ليس زياً جميلاً، وإنما هو يرتدى طالما لا يمكن ارتداء "الزي الجميل"!.
لنلاحظ هنا كيف أن "المجتمع الإسلامي" هو أكثر بكثيرمن مجرد مجتمع تسوده قناعات معينة! ليس المجتمع الإسلامي هو فقط المجتمع الذي أفراده مقتنعون بالإسلام! إنه المجتمع الذي معاييره الجمالية هي أيضاً معايير مأخوذة من داخله. وفي الحقيقة إن ما تقدم من قول ليس مجرد تحليل نظري لا توجد له تطبيقات عملية، فلأذكر هنا أمثلة واقعية من المجتمعات الموجودة: ألا نشاهد مجتمعات الهند وسيريلانكا وباكستان والسودان والصومال وأقطار أفريقية أخرى التي تحافظ نسوتها على ثيابهن التقليدية! أليس المعيار الجمالي في هذه المجتمعات إذاً رغم كل العولمة وغزو الثقافة الغربية ما زال داخلياً؟
فأن يحوز مجتمع على معيار جمالي داخلي هو إذاً أمر غير مستحيل! المثال الثاني الذي سأضربه هو بعض القنوات الفضائية التي ترتدي مذيعاتها الحجاب كما في بعض القنوات الخليجية (الشارقة وغيرها) وقناة "المنار" اللبنانية، ولا أشك في أن هذه المذيعات قادرات بالفعل على خلق نموذج معاكس للنموذج السائد تقترن فيه صفات النجاح العملي والذكاء والحشمة بالمعيار الجمالي البديل!
4- الحجاب والمسيحية العربية:
من المعتقدات الشائعة التي صارت في زماننا تعد بديهية أن الحجاب في بلادنا لا يخص إلا المرأة المسلمة وأن "الوضع الطبيعي" للمرأة المسيحية هو أن لا تكون محجبة.
وكما في أماكن عديدة جداً من كتابات العبد الفقير كاتب هذه السطور، سأعود هنا أيضاً إلى "المجتمع التقليدي" لأفحص هذه الفكرة إن كانت صحيحة أم لا!
سأعود إلى هذه المنطقة التي ذكرتها قبل قليل، وهي ريف جنوب بلاد الشام "حوران"، البلد العربي العريق بلد الغساسنة، وفي قرى حوران عاش المسلمون والمسيحيون سوية إلى الآن ويستطيع القارئ لحد الآن أن يزور هذه القرى ليرى النساء كبيرة السن،المسلمات والمسيحيات معاً، يرتدين الزي الحوراني الجميل الذي يجمع الأصالة والشخصية المحلية المميزة والحشمة المتطابقة تماماً مع المتطلبات الشرعية للباس الإسلامي.
المفيد هنا أن نرى كيف "تطور" لباس المرأة الحديثة في حوران:
لقد تطور بالفعل وللمرة الأولى في التاريخ على أسس الانتماء الديني ولكنه تطور مؤسف جداً في نظري وليتأمل القارئ فيما جرى:
أما المرأة المسلمة التي غزي مجتمعها بنمط الزي الغربي فتركت زيها التقليدي الذي وصفناه وقلنا إنه هو الإبداع المحلي المتميز للهوية العقدية الاجتماعية الإسلامية، وبدلاً من هذا الزي التقليدي نشأ زي هجين يحاول أن يرضي متطلبات متعارضة: الحشمة و التقارب مع السمات الشكلية للثياب الغربية. وعند المتدينات الملتزمات تم تبني الزي الحديث الذي سمي "الجلباب" والذي لا يقدم من ناحية متطلبات الشريعة الإسلامية أي شيء يزيد على ذلك اللباس العريق الأصيل للمنطقة.
وأما المرأة المسيحية الجديدة فتبنت الزي الغربي بتعديلات أقل من تعديلات المسلمة على هذا الزي، ليس لأنها اقتنعت بأن مسيحيتها لا تتعارض مع التغيير الثقافي الشامل باتجاه التبني غير المشروط للقيم الغربية، بل لأن المسيحيين العرب أهملوا وعدوا خطأ نصيرين طبيعيين للقيم الغربية بجيدها وسيئها ،ولا شك أن ثمة دوافع انتهازية تشجع المسيحي ،كما تشجع المسلم أيضاً، أن يتبع حكمة الفئران فيغادر السفينة الغارقة إلى السفينة الطافية! (ولحسن الحظ حتى في أسوأ الحالات ظلت بقايا من القيم الأصيلة للحضارة الإسلامية موجودة فليس من السهل اقتلاعها بقرار) ،ولكن المسيحية بحد ذاتها لا علاقة لها بالخلاعة المميزة للأزياء الغربية الحديثة،بل المسيحي المتدين هو أيضاً ضد هذه الخلاعة .
الحضارة الإسلامية كانت حضارة أسسها الإسلام وقادها ولكنه بتسامحه الفريد وسعة أفقه التي لا مثيل لها استطاع أن يستوعب الأديان الأخرى، وهكذا نجد علماء وفلاسفة المسيحية والصابئة بل واليهود كعناصر مشاركة في بناء صرح هذه الحضارة العظيم، وباستثناء الشعائر الدينية كان سلوك أبناء تلك الأديان منظماً تلقائياً وفق القواعد التي بني عليها المجتمع المسلم، وهذا بالمناسبة ليس غريباً فهو من سنن الحضارات، ولننظر مثلاً إلى المجتمع الغربي كيف تتكيف الأجيال الجديدة فيه من المهاجرين الذين جاؤوا من ثقافات مختلفة مع سلوكياته ولغته وعقليته، بحيث أن المسلم أو البوذي أو السيخي الذي تربى في هذا المجتمع لا يماثل في العقلية أخاه في الدين في المجتمع الأصلي!
لذلك سأقول إن تبني المسيحيين العرب للقيم الغربية تم مبدئياً وفق نفس القوانين التي تبنى فيها المسلمون تلك القيم!، ولم يكن المسيحيون العرب منذ الأزل مغتربين في القيم عن مجتمعهم كما تخيلت مثلاً تلك التي اتصلت ببرنامج "الحياة حلوة" من لبنان وقالت إنه في لبنان توجد حضارتان ولا نستطيع نحن المسلمين أن نقنع "الحضارة الأخرى" (أي المسيحيين!) بتبني سلوك خاص بالمسلمين هو الحجاب! إن هذه الفكرة التي تبدو بديهية للغاية للعرب المعاصرين هي فكرة في غاية الخطأ والزيف، إذ لا توجد "أزياء مسيحية"، والمسيحيون العرب لا يسيرون في أزيائهم الحالية وفق متطلبات الدين المسيحي بل يسيرون مثلهم مثل قطاع كبير من المسلمين على ما يتطلبه الزي الغربي، وهذا الزي الأخير لم يقتنع المنتمون إلى الثقافات الأخرى به على أسس دينية (بالمناسبة إن كنا نريد الحديث عن تأثير للدين المسيحي على الأزياء فسنلاحظ أن هذا التأثير خلافاً للأفكار السطحية السائدة يقرب هذه الأزياء من الأزياء الإسلامية كما نرى بشكل واضح في أزياء الرهبان والراهبات!) ولا شك انه ما من مسيحي متدين كما قلت سيرضى عن طابع العري الذي تتميز به بصورة متزايدة أزياء المرأة الغربية التي يتم الترويج لها من قبل دور الأزياء ووسائل الإعلام وأعتقد أن هذه المسألة بالذات هي نقطة التقاء مهمة في الحوار الإسلامي المسيحي، سواء منه الحوار الإسلامي المسيحي العربي أم الحوار الإسلامي المسيحي الغربي الذي يؤيده كاتب هذه السطور ويدعو إليه.
هامش
* لا يخفى أن العنوان "بنات لبنان" بعيد عن التوفيق، وفيه إيحاءات غير مستحبة وإثارة لإحن إقليمية جاهلية بين أقاليم الأمة كنا نتمنى لو تجنبها المعدون للحلقة واختاروا اسماً آخر!