الفصل التاسع أعقبت حادثة المحجر تلك فترة هادئة، لكني كنت أشعر أننا لم نحقق القدر الواجب من النجاح والتقدم في ملاحقة الأربعة الكبار، فمنذ اتصالنا بهم ارتكبوا جريمتين و خطفوا هاليدي، وكانوا على شفا قتلي أنا و بوارو، ولم نستطع أن نسجل إلا نقطة واحدة في هذه اللعبة الخطرة. . وحين صارحت بوارو بما في نفسي قال: - هم يضحكون حتى هذا الوقت يا هيستنغز، هذا صحيح، لكنّ المثل الإنجليزي: ((المهم من يضحك أخيراً؟)) يصدق فيهم، أليس كذلك؟ يجب أن تعلم أننا لا نواجه مجرماً سهلاً، بل نواجه أعظم أدمغة في الشرق والغرب! لم أكن أرغب سماع هذه الإجابة، كنت فقط أحاول استدراج بوارو من أجل الإفصاح عن بعض خطواته الـلاحقة في تعقب الخصوم، لكنني فشلت؛ لأنه قابلني بعادته المعروفة: التكتم الشديد في كل ما يريد مستقبلاً، وتركني في جهل مطبق كما يحصل دائماً! لقد ثارت لديَّ شكوك حول اتصالات محتملة يجـريها مع الاستخبارات السرية في الهند و الصين و روسيا، وعرفت من صورة اندفاعه في تجميد نفسه دائماً أنه كان يتقدم في لعبته المفضّلة: اكتشاف عقلية عدوّه! تخلى بوارو عن عمله الخاص كله، ورفض عروضاً ضخمة كما أعلم صراحة، بل كان كثيراً ما يتخلى عن قضايا يشرع في التحقيق فيها بعدما يتبين له أنْ لا صلة لها بنشاط الأربعة الكبار. الرابح الكبير من هذا الموقف هو المفتش جاب الذي اكتسب شهرة كبيرة لا نستطيع إنكارها من قدرته على حل كثير من المعضلات التي يعود الفضل في نجاحه فيها إلى تلميح بوارو الذكي. في المقابل كان جاب يمد بوارو بكثير من الأخبار اللازمة في قضاياه، وعندما عُيّن مسؤولاً في القضيّة التي سمّتها الصحف ((لغز الياسمين الأصفر)) طلب من بوارو أن يحضر لينظر فيها إن كان يهمه ذلك. على أثر هذه الرسالة وجدنا أنفسنا وحدنا في مقصورة قطار ينعطف بعيداً عن دخان لندن وغبارها متجهاً إلى بلدة ماركت هانْد فورد الصغيرة في مقاطعة وِرْشِسْتَرْ شَيَرْ حيث مكان اللغز. سألني بوارو و هو يتكّئ على جدار المقصورة: - ما قولك في المسألة يا هيستنغز؟ لم أسرع في الجواب، بل حاولت أن أكون حذراً وعمدت إلى كلمة أساسها العموم: - كل شيء يبدو معقّداً! فقال بمرح: نعم، أليس كذلك؟ - اندفاعنا بهذه السرعة يشير إلى اعتقادك أن وفاة السيد باينتر كانت نتيجة لجريمة قتل لا انتحاراً ولا حدثاً عابراً. . - لا، لا يا هيستنغز، أنت تسيء فهمي، هبْ أن هذا صحيح فلابد من كشف كثير من المُلبسات والظروف الغامضة. - هذا ما عنيته عندما قلت بأن كل شيء يبدو معقداً. - إذاً دعنا نستعرض حقائق القصة بهدوء ومنهجية، أعد سردها عليّ يا هيستنغز بوضوح وترتيب. بدأتُ أسرد أحداث القصة بنظام و منهجية قدر استطاعتي: - نبدأ بالسيد باينتر: رجل في الخامسة و الخمسين، غني مثقف كثير الأسفار، لكنه ضاق في سنينه الأخيرة بالسفر فعمد إلى الاستقرار بعد أن اشترى بيتاً صغيراً في وِرْشستر شَيَرْ قرب ماركت هاند فورد وأراد العكوف على الكتابة، لكنه أرسل إلى ابن أخيه الأصغر يشير عليه أن يأتي ليسكن معه في كروفت لاندز. فرح ابن أخيه بهذا الرأي، وكان فناناً مفلساً، وعاش مع عمه حوالي سبعة أشهر إلى أن حدثت المأساة. بوارو- بهمس-: أسلوبك روائي جذاب كأنك تقرأ من كتاب! حاولت أن أكمل القصة بحماس و جِدْ متجاهلاً كلمة بوارو: - لدى باينتر طقم من ستة خدم في كروفت لاندز زيادة على خادمه الصيني الخاص آه لِنْغ. همس بوارو مستغرقاً: الخادم الخاص الصيني آه لِنْغ . . . - يوم الثلاثاء من الأسبوع الأخير اشتكى السيد باينتر ألماً معوياً بعد العشاء فأرسل أحد خدمه ليحضر الطبيب، وعندما حضر الطبيب استقبله السيد باينتـر في مكتبه رافضاً أن يذهب إلى السرير، ولم يعرف أحد ما جرى بينهما من حديث، لكن الطبيب كوينتين طلب أن يرى مدبرة المنزل، وذكر أنه أعطى السيد باينتر إبرة تحت الجلد لأن قلبه في ضعف شديد، وأوصى بألا يزعجه أحد، ثم بدأ بأسئلة كثيرة عن الخدم: متى عملوا هنا؟ ومن أين جاؤوا؟ . . . إلخ. أجابت مدبرة المنزل أسئلته قدر استطاعتها، وكانت تعتريها الحيرة والدهشة من مغزى هذه الأسئلة. وفي اليوم التالي حدث شيء مرعب، فبينما كانت إحدى الخادمات تتجول في أطراف المنزل إذ شمت رائحة لحم محترق مقززة، وحين بحثت عن مصدر الرائحة عرفت أنها من مكتب سيدها، حاولت فتح الباب لكنها وجدته مقفلاً من الداخل، وبمساعدة جيرالد و الرجل الصيني تمّ اقتحام المكتب، ليجد القوم أنفسهم أمام منظر رهيب: لقد سقط السيد باينتر في موقد الغاز و قد احترق رأسه و وجهه حتى ليكاد يستحيل التعرف إليه! في تلك اللحظة لم يَقَعْ أيّ اشتباه، وإن لم يكن بدٌّ من لومٍ فأولى الناس باللوم هو الدكتور كوينتين الذي حقن مريضه مخدراً وتركه في هذه الحال الخطيرة. ثم بعد ذلك تم كشف شيء يثير الفضول: كان على الأرض عند الكرسي الذي كان يجلس عليه الرجل العجوز صحيفة ملقاة يبدو أنها قد انزلقت عن ركبتيه وقد كتب عليها بخط يد كبير ضعيف بضع كلمات ووجد إصبع السبابة في اليد اليمنى للضحية ملطخاً بالحبر، ولا بد أن الضحية كان في حال ضعف شديدة فلم يَقْوَ على الإمساك بالقلم فعمد إلى سبـابته يضعها في الحبر وكتب هاتين الكلمتين على سطح الصحيفـة التي كانت بين يديه، والكلمتان واضحتان تماماً: ((ياسمين أصفر))! لوحظ أن جدار المنزل كان ينمو عليه الياسمين الأصفر، وهذا دعانا أن نقول بأن رسالة الاحتضار ذات علاقة بهذا النبات، مما يوضح أن عقل العجوز كان يخرف، لكن الصحف جعلت من الحادث قصة مثيرة وأسمتها ((لغز الياسمين الأصفر)) وإنْ لم تَبْدُ حقيقة في هذه الأهمية. قال بوارو: تقول بأنها غير هامة؟ حسناً، إذا كنت تظن أنها غير هامة فهي كذلك. نظرت إليه بارتياب شديد، فقـد عودني على التهكم المـرير ولكني لم أقرأ السخرية في عينيه، وأكملت الأحداث: - وبعدها بدأت فصول تحقيق القضية والبحث فيها. . - أدرك أنك هنا بدأت تلعق شفتيك. . - كان هناك شعور كبير بأن المتهم هو الدكتور كوينتين أولاً؛ فهو لم يكن الطبيب المعتمد، بل كان طبيباً طارئاً بدل الدكتور بوليثو الذي كان يقضي إجازة بعيداً. وهناك إحساس أن الإهمال هو سبب المأساة الأول، لكن أقوال الدكتور كانت مختصرة ومثيرة، فقد كان السيد باينتر يشعر بوعكة صحية خفيفة منذ وصوله إلى كروفت لاند، وأشرف على علاجه الدكتور بوليثو، وعندما رآه الدكتور كوينتين أول مرة كان متحيّراً تجاه بعض الأعراض، و لدى انفراده بالسيّد باينتر أطلعه على أمر غريب، فهو لم يكن يشعر بأي مرض على الإطلاق، إلاّ أن طعم الكاري الذي أكله على العشاء كان في غاية الغرابة، لدرجة أنه اضطر- وقد استبدّ به الشك- أن يختلق بعض الأعذار ليصرف آه لنغ بضع دقائق تمكّن خلالها من سكب محتويات صحنه في السلطانية. وعلى الرغم من قوله أنه لم يشعر بالمرض، لاحظ الطبيب أن السيد باينتر كان يعاني من أثر الصدمة فقرّر إعطاءه إبرة سترايكـنين. وتوقفت عن سرد أحداث القصة قليلاً قبل أن أختتم معلّقاً: - أعتقد أن في ذلك تمام القضيّة، ولا يبقى غير الإشارة إلى النقطة الأساسية في الموضوع، وهي أن الكاري الذي لم يؤكل قد أُخضِع للتحليل فعثر فيه على كمية من الأفيون تكفي لقتل رجلين! وسكتّ، فسأل بوارو بهدوء: - وما رأيك يا هيستنغز؟ - من الصعب القول بأنه حادث وكذلك محاولة سُمّه في الليلة السابقة ربما تكون مصادفة. - لكنك لا تظن ذلك. . . إنك تعتقد أنها جريمة قتل. - ألا تعتقد أنت ذلك أيضاً؟ - نحن، يا صديقي هيستنغز، نفكر بطريقة مختلفة، أنا لا أحاول أن أقرر أحد حلّين مختلفين: إما القتل أو القدر، سيأتي ذلك بعد أن نحلّ لغز الياسمين الأصفر، انظر هناك، شيء ما عند الكلمتين! - تقصد الخطين اللذين عن اليمين؟ لا أظنهما مهمين. . - ربما هذا لك وحدك، دعنا ننتقل من لغز الياسمين الأصفر إلى لغز التوابل الهندية. - السؤال: من الذي سممه؟ ولماذا؟ عندي مئة سؤال تحتاج جواباً، الذي أعد الطعام هو آه لنغ لكن لماذا يرغب في قتل سيده؟ هل هو عضو في جمعية سرية صينية ربما يكون اسمها جمعية الياسمين الأصفر؟ ثم هناك جيرالد باينتر! هز بوارو رأسه و قال: - نعم، جيرالد باينتر وريث عمه، ثم إنه أكل عشاءه خارجاً ذلك اليوم. - ربما كان مطّلعاً على الأمر فحرص أن يأكل عشاءه في الخارج لكي لا يأكل الوجبة. شعرت أن تفسيري أشغل بوارو فنظر إليّ نظرة احترام أكثر من قبل و حاولت الاسمرار في نظريتي: - عاد متأخراً ورأى النور في مكتب عمه فعلم أن خطته فشلت فدفع الرجل العجوز في موقد الغاز. - السيد باينتر كان في صحة جيدة وما كان يمكن أن يسمح بأن يُحرق حتى الموت دون أن يبدي مقاومة، هذا الرأي غير راشد. - أظن أننا اقتربنا من الحل، دعنا نرى رأيك في المسألة. انتفخ بوارو مغروراً وألقى نحوي ابتسامة ثم قال: - هب أنها جريمة قتل، فإن السؤال هو: لماذا اختار القاتل هذه الطريقة ليقتله؟ ربما يكون الجواب: من أجل إخفاء الهوية، لقد احترق الوجه حتى لا يمكنك معرفته. هل تكون جثّة رجل آخر؟ لكن الجواب الراجح هو النفي. ثم هناك أشياء أخرى تحتاج تحقيقاً وبحثاً، لكن يجب ألا أسمح لهاجس الكبار الأربعة أن يسيطر على عقلي، ومن الخطر أن يجعل الإنسان نفسه أسيراً لفكرة واحدة، ولقد تمعنت بالخطين المرسومين فوجدتهما بداية الرقم ((4)). علا صوتي بضحكة سخرية قائلاً: - لله درك يا بوارو! - أليس ذلك سخيفاً؟ إنني أرى الأربعة الكبار في كل مكان. . ها هو جاب قادم إلينا. . الفصل العاشر كان مفتش سكوتلاند يارد يقف على الرصيف , و حيانا بشدة عندما قدمنا إليه , و بدت على محياه بسمة عريضة ثم قال: - حسنا يا سيد بوارو , لقد أيقنت أنك ستقحم نفسك في هذا اللغز المحير , انه لغز من الطراز الأول , أليس كذلك ؟ ثم انطلقت بنا سيارة جاب تنهب الأرض نحو كروفت لاندز كان البيت أبيض جميلا تحيط به الأشجار و النباتات المتعرشة و فيها الياسمين الأصفر اللامع وكنت أشعر بظلال من الكآبة تخيم على المنزل , و كان صمت الأشجار موحشا , و الورود تتمايل بحزن كأنما ترثي صاحب المنزل وكان الياسمين الأصفر يشد العيون ؛ لأن اسمه كان عنوان اللغز .. يبدو أن الرجل كان ذاهلا حين كتب هذا , إنها كلمات لا معنى لها و لا تفيد شيئا ابتسم بوارو و قال : - ما الذي تراه يا سيد جاب ؟ حادث أم جريمة ؟ بدا المفتش مرتبكا محرجا أمام سؤال بوارو : - إذا نفينا أثر تلك التوابل الهندية و لم يثبت أنها هي السبب في الوفاة فإني أميل إلى الرأي القائل بأنه حادث ؛ لأني أستبعد أسلوب القتل بوضع رأس رجل حي في النار : ألا ترى أنه كان سيملأ البيت صارخا .. قال بوارو يحدث نفسه : - آه لقد كنت أحمق , أحمق ثلاث مرات , انك أذكى مني يا جاب ! فوجئ جاب بهذا المديح .. كان بوارو دائما يمدح نفسه و يسخر من غيره , و احمر وجه جاب و كانت شفتاه تتلعثم بكلمات غير مفهومة تشير إلى الريبة و الشكوك في نفسه في صدق بوارو عند مدحه دخلنا المنزل متجهين عبر ردهاته إلى الغرفة التي حدثت فيها المأساة : مكتب السيد باينتر , كانت غرفة واسعة , جدرانها تنوء بحمل الرفوف الملأى بالكتب العتيقة نظر بوارو عبر الشباك إلى حديقة خلفية فيها حصباء , ثم سأل : - هل كان مزلاج الشباك مفتوحا ؟ - يبدو أن القضية كلها هنا ؛ لأن الطبيب حين خرج أغلق الباب خلفه , و في صباح اليوم التالي وجد مقفلا من الداخل , من الذي أقفله ؟ هل هو السيد باينتر نفسه ؟ آه لنغ أكد أن الشباك كان مغلقا بالمزلاج , و الدكتور كوينتين قال بأنه كان يشك أن الشباك كان مغلقا لكن ليس بالمزلاج , لكنه لم يتأكد , ولو تأكد لأدى ذلك إلى خلل خطير ! فإذا كانت جريمة قتل فلا بد أن يدخل القاتل من الباب أو الشباك , و إذا كان الشباك فمن الأرجح أن الفاعل شخص من الخارج , و ربما فتحوا النافذة على مصراعيها حين كسروا الباب , و الخادمة التي فعلت هذا تقول بأن النافذة لم تكن مقفلة بالمزلاج , لكنها شاهدة سيئة جدا : لا تتذكر إلا ما يطلب منها أن تتذكره - و ماذا عن المفتاح ؟ - وجد على الأرض بين حطام الباب , و قد يكون سقط من القفل عند الاقتحام ,و ربما أسقطه شخص ما حين دخل , أو يكون دخل من تحت الباب من الخارج - يبدو أن كل شيء عندك ((قد يكون )) كان بوارو يبحث عن نقطة وسط الركام , و كان وجهه عابسا مقطبا لأنه لم يجد ما يريد , ثم قال : - إنني أدور في ظلام دامس , كلما لمحت ومضة سرعان ما تنطفئ ! جاب- بتجهم - : جيرالد الصغير لديه باعث قوي , أستطيع أن أقول بأنه كان متوحشا متهورا , الفنانون – كما تعرف – لا خلق لهم ! لم يبد بوارو اكتراثا بهجوم جاب القاسي على الفنانين , لكنه ابتسم ابتسامة ذات مغزى كأنه عرف ما في نفس المفتش و قال له : - يا جاب الطيب , هل تظن أنك تستطيع أن تدر الرماد في عيني ؟ إنني على يقين أن أفكارك تتجه بالشك نحو الرجل الصيني لكنك داهية , تريد أن أساعدك و أنت تخادعني ! انفجر جاب ضاحكا : - هكذا أنت دائما يا سيد بوارو , نعم أعترف أني أراهن على الشاب الصيني فهو الذي عبث بالكاري , و إذا كان قد حاول التخلص منه مرة فقد يحاول مرة أخرى - لكن السؤال هو : هل حاول ذلك حقا ؟ - الذي يؤرقني هو الباعث , لعله انتقام همجي لا باعث له ! - سؤال آخر : هل هناك أثر للسرقة ؟ هل اختفت أشياء ثمينة ؟ جواهر , أموال , أوراق ؟ - كلا , أعني .. ليس تماما ! أصغيت بانتباه شديد , وكذلك بوارو . و أكمل جاب موضحا : - أقصد لم تحصل سرقة , لكن العجوز كان يكتب كتابا ما , لقد عرفنا عنه هذا الصباح حين وصلت رسالة من الناشرين يسألون عن المخطوطة , حاولت البحث عنها بمساعدة باينتر الصغير فلم نجد شيئا , ربما يكون قد خبأها في مكان ما .. لمعت عينا بوارو بالضوء الأخضر الذي كنت أعرفه جيدا و سأل : - ماذا كان يسمى ؟ أعني .. هذا الكتاب ؟ - كما أذكر أن اسمه : (( اليد الخفية في الصين )) صفر بوارو و قد أخذته النشوة , ثم قال بسرعة : - دعني أر الرجل الصيني آه لينغ أرسل جاب في طلب الصيني , فجاء يجر قدميه متثاقلا و ضفيرته تتأرجح على ظهره , كان وجهه جامدا لا تلمح في أثر للعاطفة , خاطبه بوارو : - آه لينغ . هل أنت آسف لموت سيدك ؟ أجاب بلغة إنكليزية ركيكة : - طبعا إني آسف جدا , انه رجل طيب ! - هل تعرف من قتله ؟ - لا , ولو كنت أعرف لأخبرت الشرطة استمرت الأسئلة والأجوبة و الوجه الجامد نفسه لم يتغير , و تحدث آه لينغ عن الكاري الذي طبخه بنفسه , و أوضح أن الطاهي لم يكن له يد بذلك و لم تلمسه أي يد إلا يده هو , و كنت أتساءل : هل كان يعرف أين سيقوده اعترافه ؟ , و قد أبدى دهشته هو أيضا من فتح النافذة , و أخيرا صرفه بوارو قائلا : - هذا يكفي يا آه لينغ و لكنه ناداه حين وصل إلى الباب : - وهل تعرف شيئا عن الياسمين الأصفر ؟ - لا ,و ماذا يجب أن أعرف ؟ - و لا عن الإشارة التي كتبت تحتها ؟ سأله بوارو وهو يميل برأسه نحو الطاولة و قد لمحت عيناه شيئا مكتوبا وسط الغبار المتراكم عليها , فقد كتب بوضوح رقم ((4)) ! أصاب الرجل الصيني رعب لمحه في وجهه كأنه أصيب برعشة كهربائية , ثم عاد جامد الوجه مرة أخرى و تراجع وهو يكرر إنكاره الشديد ذهب جاب يبحث عن باينتر الصغير و تركنا وحدنا , صرخ بوارو : - الأربعة الكبار مرة أخرى يا هيستنغز , باينتر كان جوالا كثير السفر , و بلا ريب كانت لديه المعلومات الخطيرة التي تخص الزعيم و العقل المدبر لمجموعة الأربعة الكبار لي شانغ ين ! - و لكن كيف ؟ ومن ؟ - صه , هاهم قادمون .. كان جيرالد باينتر شابا لطيفا ضعيف الجسم , تزين وجهه لحية بنية لطيفة , و كان يلبس ربطة عنق غريبة , أجاب عن أسئلة بوارو باستعداد تام .. أوضح قائلا : - أكلت العشاء في الخارج مع بعض جيراننا من بيت ويشرليز - متى عدت إلى البيت ؟ - حوالي الساعة الحادية عشر , معي مفتاح المزلاج , جميع الخدم كانوا قد ذهبوا للنوم , و ظننت أن عمي نام أيضا . أذكر أنني لمحت ذاك المتسول الصيني صاحب القدم الطرية آه لينغ وهو يتحرك بخفة حول زاوية القاعة , لكنني أظن أنني كنت مخطئا - هل تذكر آخر مرة رأيت فيها عمك , أقصد قبل أن تأتي لتعيش عنده ؟ - آه ! لم أره منذ كنت طفلا في العاشرة عندما تشاجر مع أبي ! - لكنه استطاع أن يجدك مرة أخرى ببعض الصعوبة , أليس كذلك ؟ - بلى , و قد رأيت أن إعلان المحامي في الجريدة عن طريق الحظ ! لم يسأله بوارو أسئلة أخرى , ثم انطلقنا نحو الطبيب كوينتين فكانت روايته هي نفسها دون إضافة تذكر , فقال : - يا ليتني أستطيع أن أذكر شيئا عن النافذة , و من الخطورة التفكير في الماضي , فقد يقنع المرء نفسه بوجود أشياء لم تكن موجودة قط .. هذه ناحية نفسية , أليس كذلك يا سيد ؟ لقد قرأت عن أساليبك و أنا معجب بك كثيرا . أستطيع أن أؤكد أن الرجل الصيني هو الذي وضع الأفيون في الطعام , و لكنه لن يعترف و لن نعرف نحن أبدا لماذا , لكن وضع رجل في النار لا يليق بشخصية رجلنا الصيني .. هذا ما يبدو لي ! كان جاب يجري مراقبة حثيثة لكلا الشخصين منذ رؤية الجثة , وحاولت أن أقدم رأيي في بعض جوانب القضية , فقلت : - أظن أن جيرالد باينتر لا صلة له بالجريمة سخر بوارو و قال - أنت دائما تعرف أكثر مما أعرف , وهذه هي المصيبة ضحكت قائلا : - أيها الثعلب العجوز, لن تتغير أبدا ! - حتى أكون أمينا يا صديقي فان القضية أصبحت واضحة تماما ما عدا كلمتين : (( الياسمين الأصفر )) , و إني أظن أن هذين الشخصين لا يملكان قدرة على ارتكاب الجريمة معا , عليك أن تقرر : من الذي يكذب ؟.. كنا نمشي في الطريق , و فجأة اندفع بوارو من جانبي إلى مكتبة مجاورة ثم خرج منها بعد بضع دقائق وهو يحمل طردا , و ما لبث أن انضم إلينا جاب و مضينا نبحث عن مأوى في أحد الفنادق و عندما استيقظت في صباح اليوم التالي كان الوقت متأخرا , و نزلت إلى غرفة الجلوس , فوجدت بوارو يذرع الغرفة ذهابا و إيابا بوجه عابس قلق , و حين رآني صاح وهو يلوح بيده : - لا تتكلم معي , اصمت , حتى أتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام , و أن الرجل قد اعتقل . إن من يكتب رسالة احتضار , يجب أن يكتب شيئا مهما جدا : الياسمين الأصفر , هل تعني شيئا ؟ يجب أن يكون كذلك ثم أخرج كتابا صغيرا و قال : هذا الكتاب أخبرني .. اسمع : - الياسمين الأصفر : جلسيميني راديكس : مركب جلسيميني قلوي , سم فعال مثل الكونين , الجلسميوم عقار مسكن فعال للجهاز العصبي المركزي , فإذا أخذت منه جرعات كبيرة تسبب الدوار و تضعف القوة العضلية , الموت يكون بسبب شلل مركز التنفس هل تذكر يا هيستنغز منذ البداية حين أبدى جاب ملاحظته في دفع رجل حي في النار ؟ علمت بعدها أن الرجل الذي دفع إلى النار كان ميتا ! - لماذا ؟ لماذا ؟ - يا صديقي إذا أردت أن تقتل رجل بالرصاص و طعنته بعد الموت و ضربته على رأسه لكان واضحا أن ذلك تم بعد الوفاة , لكن حين يحترق الرأس حتى يصبح رمادا فلا أحد يستطيع تبين سبب الوفاة الصحيح . و الرجل الذي نجا من سم أثناء العشاء لا يجوز أن يتم تسميمه بعد ذلك فورا , من الذي يكذب ؟ هذا هو السؤال .. قررت أن أصدق آه لينغ - ماذا ؟ هل جننت ؟ - هل أنت ذاهل يا هيستنغز ؟ آه لينغ يعرف وجود الأربعة الكبار , كان هذا واضحا , لكنه لم يكن يعرف درجة ارتباط تلك الجريمة بهم حتى هذه اللحظة , لو كان القاتل هو لاستطاع أن يظل جامدا بوجهه بصورة تامة , و لذلك قررت أن أصدقه و ركزت شكوكي على جيرالد باينتر . لقد بدا لي أن رقم ((4)) قد وجد أن التمثل بشخصية ابن الأخ المفقود منذ سنين سهل جدا ! - ماذا ؟ رقم ((4)) ؟ - لا يا هيستنغز , حين قرأت مسألة الياسمين الأصفر و ثبت الحقيقة أمام عيني في الحال - كما تفعل دائما .. إنها لا تثب أمام عيني أنا لأنك لا تعمل خلاياك الرمادية , من الذي كانت له فرصة اعبث بالكاري الهندي ؟ - آه لينغ ولا أحد غيره - لا أحد ؟ و ماذا عن الطبيب ؟ - لقد كان هذا فيما بعد - فيما بعد , نعم , فعندما ثارت الشكوك في وجبة الكاري الهندي لم يأكل الرجل العجوز منها , و حفظها ليعطيها طبيبه المعالج , و تم استدعاؤه في الحال . الدكتور كوينتين يصل و يتولى أمر الكاري , ثم يعطي مريضه حقنة من الستركنين , و في الحقيقة هي من الياسمين الأصفر , و حين يبدأ فعل الدواء بالسريان يغادر بعد فتح مزلاج النافذة , ثم يعود عن طريق الشباك و يجد المخطوطة و يدفع السيد باينتر في النار انه لم يلتفت إلى الصحيفة التي سقطت على الأرض من بين يدي الضحية . لقد عرف باينتر أي دواء أعطي له , و جاهد لكي يتهم الأربعة الكبار بقتله . من السهل على الدكتور كوينتين أن يخلط الأفيون بالكاري و يقدمه للفحص , و في أثناء روايته يذكر مسألة الستركنين عرضا حتى إذا ما تم كشف موضع الإبرة تحت الجلد يكون السبب معروفا سابقا , و في الحال ينقسم الاشتباه بين كونه حادثا و كونه ذنب الرجل الصيني آه لينغ بسبب الكاري الهندي - لكن هل يكون الدكتور كوينتين هو رقم ((4)) ؟ - أجل يجوز بلا شك يوجد طبيب حقيقي اسمه كوينتين و ربما يكون في مكان ما في الخارج , لقد تنكر رقم ((4)) في شخصيته ببساطة , و التنسيق الذي تم مع الدكتور بولثيو من أجل العمل طيلة فترة الجازة تم تنفيذه كله عن طريق المراسلة .. في تلك اللحظة دخل جاب ووجهه محمر جدا .. صرخ بوارو : - هل أمسكت الرجل ؟ - لا , لقد عاد بولثيو من إجازته هذا الصباح و تبين أنه قد استدعي ببرقية لا أحد يدري من ذا أرسلها .. الرجل الآخر غادر الليلة الماضية لكننا سنمسك به هز بوارو رأسه باستخفاف و حزن وهو يقول : - لا أظن ذلك ! .. ثم رسم بيده رقم ((4)) على الطاولة بخط كبير بطريقة لا شعورية .. الفصل الحادي عشر في إحدى الأمسيات الهادئة كنت مع بوارو نأكل العشاء في مطعم صغير في سوهو عندما انضم إلينا المفتش جاب فجأة , و كان لقاء وديا حارا, فقد مضى وقت طويل لم نلتق به , منذ مسألة الياسمين الأصفر قبل حوالي شهر , فقال بوارو موبخا : - ما هذه الجفوة يا جاب ؟ لقد مضت فترة طويلة دون أن نراك أو نسمع عنك شيئا - لقد كنت في منطقة الشمال طوال الفترة المنصرمة .. ما أخبار الأربعة الكبار ؟ مازالوا يزدادون قوة , أليس كذلك ؟ - أدرك أنك تحاول السخرية يا جاب الصغير , لكن الأربعة الكبار موجودون .. - ها , لا أشك في ذلك , لكنهم ليسوا محور الكون كما تزعم - أنت نخطئ يا عزيزي , إنني أظن أن أعظم قوة للشيطان في العالم اليوم هي الأربعة الكبار , إلى أي نهاية يسيرون و ماذا يخططون ؟ لا أحد يعلم , و لكن ليس هناك منظمة إجرامية تضاهي هذه المنظمة , على رأسها أذكى دماغ في الشرق , و مليونير أمريكي , و عالمة فرنسية , أما الرابع .. تداركه جاب : أعرف ذلك , أعرفه جيدا , لقد أصبح هاجسك الذي لا يفارقك , دعنا نتحدث في شيء آخر , هل تهتم بالشطرنج ؟ - لقد لعبته مرات معدودة , نعم - هل رأيت ذلك الحدث أمس ؟ مباراة بين أشهر لاعبين في العالم تنتهي نهاية محزنة مثيرة : لقد مات أحدهما أثناء اللعبة - قرأت الخبر في الصحيفة : البطل الروسي كان أحد اللاعبين , أما الآخر صاحب الحظ السيء فهو الأمريكي جيلمور ويلسون ! - تماما , سافرونوف هزم روبستين و تربع على عرش بطولة روسيا قبل بضع سنوات , و أصبح ويلسون بطلا ثانيا .. - إنها قضية مثيرة حقا , لكن يبدو أن لك اهتماما خاصا بهذا ضحك جاب مرتبكا من ذكاء بوارو .. - لقد أصبت يا سيد بوارو , إنني أغرق في حيرة شديدة حقا ! ويلسون كان سليما معافى , ليس عليه علامة من علامات مرض القلب , وفاته لا يجوز تفسيرها بهذه السهولة قلت معلقا : - هل تظن أن سافرونوف قد أبعده عن الطريق ؟ لم يكترث كثيرا لسؤالي و قال : - ربما , لكني لا أظن أن اللاعب الروسي يمكن أن يقتل رجلا من أجل ألا يهزم في لعبة الشطرنج بوارو : إذن ما هي فكرتك باختصار ؟ من الذي سمم ويلسون و لماذا ؟ أنت تشك قطعا بالسم - توقف القلب فجأة يعني أنه توقف عن الخفقان , هكذا يقول الطبيب , لكن تأويل الحدث لا يرضي أحدا حتى الطبيب نفسه - متى تشرح الجثة ؟ - الليلة , ربما سنكتشف بعض الأسرار , لقد كانت وفاة ويلسون مفاجأة غير عادية إذ بدا طوال الوقت طبيعيا , و سقط فجأة و هو يأخذ حجرا ليحركه اعترضه بوارو : - هناك أنواع قليلة من السموم يمكن أن تعمل بهذه الطريقة - هذا صحيح , هذا ما سيكشفه التشريح . لكن , من الذي يريد إبعاد ويلسون عن الطريق ؟ انه رجل مسكين و متواضع و لطيف , لقد جاء هنا للتو من الولايات المتحدة و لا أظن أن له في العالم أعداء - أظنك تحوم حول فكرة معين - فكرة تسيطر علي : إن السم لم يكن يقصد به ويلسون , بل الرجل الآخر - سافرونوف ؟ - نعم هناك خصومة قديمة و عنيدة بينه و بين البلشفيين منذ اندلاع الثورة , و قد أشيع أنه قتل , لكنه في الحقيقة نفي إلى سيبيريا ثلاث سنين في ظروف قاسية يصعب تصديقها , حتى تغيرت أحواله و تبدلت أوصافه , ابيض شعره و تهدل منكباه و عندما هرب أخيرا و لجأ إلى إنكلترا صعب حتى على أصحابه القدامى أن يتعرفوا عليه . وهو منذ ذلك الحين لا يغادر بيته إلا قليلا و قد آثر اعتزال الناس مع بنت أخيه سونيا و خادم روسي في شقته متوارية على طريق ويستمنستر , كأنه مازال مرعوبا يلاحقه الخوف من خصومة الأقدمين , و هذا سبب رفضه المتكرر للمباراة التي ألح عليه ويلسون لخوضها متحديا , ولو لا الحملة الصحفية المثيرة التي فسرت الرفض أنه منافاة للروح الرياضية لما استسلم سافرونوف بهذه السهولة .. إنني مقتنع أن ويلسون قتل خطأ ! - ألا ينتفع شخص بموت سافرونوف ؟ - حسنا , ابنة أخيه وارثه الوحيد , لقد حصل مؤخرا على ثروة ضخمة تركتها له مدام جوسبوجا التي كانت زوجة لتاجر سكير كبير في ظل النظام القديم و يبدو أن علاقة ما كانت قائمة بينها و بين سافرونوف - أين حدثت المباراة ؟ - في بيت سافرونوف الخاص ؛ لأنه كان مريضا كما قلت لك - و هل شاهدها عدد كبير من الناس ؟ - اثنا عشر شخصا على الأقل هز بوارو رأسه بحركة معبرة ثم قال : - كم أنت مسكين يا جاب , إن عملك صعب جدا ! - إذا تأكد لدي أن السم كان هو السبب أستطيع أن أقول : إنني سأنجح - على ضوء افتراضك بأن سافرونوف هو المقصود , هل خطر لك أن القاتل سيحاول مرة أخرى ؟ - قطعا يا سيد , هناك رجلان يراقبان بيت سافرونوف دوما .. فقال بوارو بنبرة فيها معنى الاستخفاف : - هذا سيكون مفيدا لو أن الزائر يحمل قنبلة تحت إبطه .. - أظن أنك أصبحت مهتما بالقضية , ما رأيك أن تذهب معي إلى المشرحة لمشاهدة جثة ويلسون قبل البدء بتشريحها فربما ظهر لك دليل ما .. وافق بوارو , و لقد بدا لي أنه أصبح مأسورا تماما بالقضية الجديدة , فقد مضى وقت طويل دون أن يهتم بقضية بعيدة الصلة عن الأربعة الكبار و نشاطهم , و لقد شعرت بسرور لرؤية بوارو يرجع تدريجيا لنشاطه الأول و حين نظرنا إلى الجسد المسجى لم نلحظ أي أثر غريب ما عدا الندبة التي ظهرت على أصابع يده اليسرى , و لقد أوضح الطبيب أنه حرق و ليس جرحا انتقل بوارو إلى الاهتمام بمحتوى جيوبه و قد نثرها أمامنا أحد رجال الشرطة , و لم يكن فيها سوى منديل و مفاتيح و دفتر ملاحظات و بعض الرسائل غير الهامة , لكن وجد شيئا بسيطا أثاره , فقد أمسك باثنين من حجارة الشطرنج و صاح منفعلا : - بيدق .. فيل .. هل كان هذا في جيبه ؟ - لا , كان يمسك به بيده , و بصعوبة بالغة تم استخراجه من بين أصابعه المتشنجة تشنجا قويا , يجب إرجاعه للدكتور سافرونوف , انه جزء من طقم جميل منحوت من العاج ! - اسمح لي أن أعيدها أنا إلى السيد سافرونوف و لعل ذلك يكون عذرا كي أزوره صرخ جاب مستبشرا : - إذن تريد الغرق في لجة هذه القضية كما أرى ؟ - نعم لقد طاب لي البحث في هذه المعضلة , لقد استطعت إثارة اهتمامي يا سيد جاب ثم عاد بوارو متجها إلى الجثة و سأل : - هل لك أن تعلمني أكثر عن الضحية ؟ - لا أظن , لم يبق شيء - و لا حتى أنه أعسر ؟ - انك ساحر يا بوارو , كيف عرفت ؟ لقد كان أعسر حقا , و هل لهذا صلة بالحادث ؟ - ربما لم يكن لهذا الأمر بالحادث أي علاقة في صباح اليوم التالي كنا نشق طريقنا إلى شقة سافرونوف في ويستمنستر , و قلت متأملا : - سونيا دافيلوف , انه اسم رائع سمع بوارو حديثي , ألقى علي نظرة بائسة ثم قال : - أنت هكذا دائما , رومانسي تماما , لكن حظك سيكون سعيدا إذا ظهر أن سونيا دافيلوف هي صاحبتنا الكونتيسة فيراروساكوف و حين سمعت الاسم أصابتني هزة عنيفة و اكفهر وجهي و أعادتني الذاكرة إلى أشد فترات الحرج في حياتي , لكن بوارو تدارك بسرعة : - لا , لا يا هيستنغز , إنما هي نكتة .. لا أظن أن أصابع الأربعة الكبار وصلت بنا إلى هنا .. فتح الباب خادم ذو وجه متجهم كأنما نحت من خشب لا انفعال فيه و لا يكاد يبدي استجابة لأي مؤثر قدم بوارو بطاقة كتب عليها جاب بضع كلمات تعريفية , و بعدها تم اقتيادنا نحو غرفة المجلس . كانت غرفة واسعة منخفضة , على جدرانها ستائر فخمة , و تملأ زواياها تحف ثمينة , و الأرض مفروشة بالسجاد الفارسي الرائع اتجهت نحو إحدى التحف أتفحصها , و قد كانت ذات قيمة غالية و حين استدرت نحو بوارو لأحدثه وجدته منبطحا على الأرض و أصابعه تعبث بسجادة فارسية , و عيناه تمعنان النظر باهتمام بالغ , فخطر لي أن السجادة جميلة تلفت النظر حتى تحوز على هذا الاهتمام , فقلت : - هل هي قطعة نادرة ؟ - السجادة ؟ إنها قطعة رائعة و لكني أبحث عن شيء آخر .. إبرة كبيرة أدخلت عمدا في وسطها . الإبرة ليست هنا الآن و لكن الثقب الذي أحدثته واضح جدا ! صوت امرأة من خلفنا جعلني أدور بسرعة نحوها بينما قفز هو على قدميه برشاقة , كانت هي تقف في مدخل الغرفة و عيناها علينا , كانت متوسطة الطول و ذات شعر أسود قصير , يبدو أنها لا تتقن الإنكليزية تماما : - عمي حريص و أخشى أنه لن يستطيع مقابلتكم - هذا شيء مؤسف , هل تتلطفين بإجابتنا بعض الأسئلة ؟ أنت الآنسة دافيلوف , أليس كذلك ؟ - بلى , أنا سونيا دافيلوف , ما الذي تريد معرفته ؟ - إني أتابع التحقيق في الحادث المحزن الذي أدى إلى وفاة السيد ويلسون , هلا أخبرتنا عن الحادث ؟ - لقد مات بسبب توقف قلبه أثناء اللعب في المباراة - هيأة التحقيق غير متأكدة من هذا السبب كما يبدو يا آنسة ارتعدت الفتاة و بدرت منها حركة تنبئ برعبها و صرخت : - إذن لقد كان إيفان محقا , إنها الحقيقة , يا الهي ! - من هو إيفان ؟ و ما هي الحقيقة ؟ - إيفان هو الذي فتح لكم الباب , لقد أخبرني أن جيلمور لم يمت موتا طبيعيا , بل مات مسموما , ولم هذا المقصود - لم يكن هو المقصود ؟ - أجل كان المقصود هو عمي ! - لكن من الذي يريد سم عمك ؟ - لا أعرف إنني أعيش في ظلام , و عمي لا يثق بي و ربما يكون هذا طبيعيا , لأنه لم يرني إلا و أنا طفلة صغيرة , و جئت الآن لأعيش معه في لندن , و كل ما أعرفه أنه يعيش في رعب دائم , انه يخاف شيئا ما , إن روسيا مليئة بالجمعيات السرية , و لقد سمعت مرة إحدى مكالماته .. و مالت برأسها نحو بوارو و همست : - هل سمعت شيئا عن جمعية تسمى (( الأربعة الكبار ))؟ جحظت عينا بوارو و ارتجف من هول المفاجأة : - ماذا ؟ هل تعرفين الأربعة الكبار يا آنسة ؟ - إذن هي جمعية موجودة , لقد سمعت إشارة عنها و سألت عمي بعد ذلك أر رجلا خائفا مثله : شحب لونه و ارتجف عندما سمع هذا الاسم , لقد كان يخاف منهم خوفا عظيما , إني متأكدة من ذلك .. لا بد أن ويلسون قتل خطأ همس بوارو : - الأربعة الكبار , دائما الأربعة الكبار .. إنها مصادفة مذهلة حقا , إن عمك مازال في خطر , و يجب أن أنقذه . أعيدي علي الآن سرد أحداث الواقعة , أريني رقعة الشطرنج و كيف كان يجلس الرجلان و أين , أريني كل شيء اتجهت إلى جانب من الغرفة و أحضرت طاولة صغيرة بدا سطحها رائعا مرصعا بمربعات من الفضة و اللون الأسود على هيئة رقعة شطرنج : - أرسلت هذه إلى عمي هدية قبل بضعة أسابيع مع رجاء حثيث أن يستعملها في المباراة القادمة التي كان سيلعبها .. كانت في وسط الغرفة هكذا تفحص بوارو رقعة الشطرنج بصورة مبالغة : من الأطراف إلى الأسفل , ورأيت في ذلك بعض المبالغة . لم يسألها أي سؤال من الأسئلة التي كنت أشعر بأهميتها في التحقيق , و شعرت أن أسئلته عديمة الجدوى و لا مغزى لها , و أيقنت أن ذكر الأربعة الكبار جعله يفقد توازنه العقلي ! لم يسألها عن المشروبات التي قدمت و لا عن الأطعمة و لا سأل عن أشخاص الحاضرين , تنحنحت بتكلف و أنا أسأله : - ألا تظن يا بوارو هذه المرة .. تداركني بوارو بعجرفة قائلا وهو يشير بيده نحوي : - لا تظنن يا صديقي و اترك الاستنتاجات لي .. يا آنسة , هل يستحيل تماما رؤية عمك ولو لبضع دقائق ؟ ابتسمت ابتسامة باهتة ثم قالت : - انه سيراك , نعم , إن دوري أن أقابل جميع الغرباء أولا قبل المقابلة لأسباب أنت تعلمها .. و اختفت في الغرفة المجاورة بعض الوقت ونحن نسمع صوت الهمس , ثم عادت لتقودنا إلى سافرونوف كان رجلا مهيبا يستلقي على أريكته , طويلا هزيلا ذا حواجب كثة متهدلة على عينيه و لحية بيضاء ووجه بدت عليه علامات الضنك و القسوة التي خلفها الزمان , و كان رأسه طويلا انه لاعب شطرنج عظيم , فلا بد أن له دماغا كبيرا واسعا يملأ هذا الرأس الضخم انحنى بوارو ثم قال : - سيدي , هل لي أن أتحدث إليك قليلا على انفراد ؟ التفت نحو ابنة أخيه : - اتركينا قليلا يا سونيا - والآن يا سيدي , هل لديك شيء ما تود أن تقوله ؟ - دكتور سافرونوف , لقد حصلت للتو على ثروة ضخمة فمن سيرثك ؟ - لقد كتبت وصية أترك فيها كل شيء لابنة أخي سونيا - لكنك لم ترها منذ فترة طويلة , منذ أن كانت طفلة , و أظن أنه من السهل أن تنتحل أي فتاة هذه الشخصية تفاجأ سافرونوف بهذا الرأي و لكنه لم يعلق فقال بوارو مواصلا : - يكفي أن أعطيك إشارة فقط , هذا ما أريده , لكن هل لك أن تصف لعبة الشطرنج ذاك المساء ؟ - كيف تريد أن أصفها لك ؟ - حسنا , إنني لا ألعب الشطرنج لكنني أفهم أن هناك عدة طرق معتادة للبدء أو الافتتاح كما تسمونها ابتسم سافرونوف ابتسامة خفيفة : - ها , نعم , ابتدأ ويلسون بطريقة لوبيز إحدى أسلم البدايات التي يستخدمها اللاعبون بطريقة متكررة في المباريات - كم مضى على اللعبة عندما حدثت المأساة ؟ - لقد حدث ما حدث بعد النقلة الثالثة أو الرابعة , عندما وقع ويلسون فوق الطاولة بشكل مفاجئ نهض بوارو لكي يغادر و سأل بغير اكتراث : - هل أكل أو شرب شيئا ؟ - بعض الصودا , على ما أعتقد تريث بوارو على عتبة البيت و هو يهم بالخروج ثم سأل : - هل تعرف من يسكن تحتك ؟ - السير تشارلز كينغويل عضو البرلمان , لقد استأجرها مفروشة مؤخرا - أشكرك يا دكتور دلفنا إلى الشارع و قد أطلت علينا شمس الشتاء من بين الغيوم بوهج بارد فانفجرت في بوارو : - حسنا ... في الحقيقة يا بوارو لا أظن أنك أبليت بلاء حسنا هذه المرة , و لقد ظهر لي أن أسئلتك كانت غير مناسبة - هل تعتقد ذلك يا هيستنغز ؟ ماذا كنت أنت ستسأل ؟ حاولت أن أفكر بصياغة سؤال , و أوضحت مخططي لبوارو و هو ينصت إلي باهتمام مريب حتى وصولنا إلى البيت تقريبا حيث علق ببرود : - سؤال بارع جدا لكنه غير لازم - غير لازم , و هل .. ؟ فتح الباب و دلف إلى داخل الغرفة و التقط رسالة كانت على الأرض - إنها من جاب كما توقعت . رسالة مختصرة تفيد بأنه لم يجد آثار السم .. و هكذا ترى أن أسئلتك التي وددت لو طرحتها لا لزوم لها - هل كنت تخمن هذه النتيجة من قبل ؟ - عندما تعمل بنجاح لا يسمى هذا تخمينا - هل تريد أن نتجادل في أمور تافهة ؟ هل تنبأت بهذا ؟ - نعم - لماذا ؟ أخذ بوارو حجر الفيل الأبيض من جيبه ثم رفعه بين أصابعه , فصرخت فيه منفعلا : - لم لم تعده للدكتور سافرونوف ؟ - أنت مخطئ في ظنك يا صديقي ! ذلك الفيل مازال في جيبي الأيسر أما هذا فهو فيل اللعبة الآخر و قد أخذته من علبة الأحجار و أنا أتفحصها .. حتى الآن لم أفهم حركات بوارو هذا , و سألته متحيرا : - و لكن لماذا أخذت الحجر الآخر ؟ - قطعا من أجل أن أقارن بينهما , انهما يبدوان متشابهين تماما , و لكن يجب عدم التسرع بالاستنتاج . علي بميزاني الصغير لو سمحت و بعد أن وزن الفيلين بعناية التفت إلي ووجهه يشع بفرحة الظفر : - نعم , نعم , هذا صحيح , من المستحيل خداع هيركيول بوارو ثم أسرع نحو الهاتف : - هل هذا هو جاب ؟ هيركيول بوارو يتكلم , راقب الخادم إيفان لا تدعه يهرب , احذر أن يفلت من يديك مهما كان الثمن .. كما أقول لك .. ثم التفت إلي قائلا : حتى الآن أراك لم تفهم الحقيقة يا هيستنغز , انتبه سأشرح لك : إن ويلسون لم يقتل بالسم , بل قتل بالصعقة الكهربائية , خيط معدني رفيع يمر في منتصف هذا الحجر , و لقد أعدت الطاولة من قبل ووضعت بعناية فوق مكان ما على الأرض , و عندما وضع الفيل فوق إحدى المربعات الفضية انتقل التيار الكهربائي إلى جسم ويلسون و قتله على الفور , لقد كانت الطاولة خاصة معدة لهذا الغرض بعناية الطاولة التي تفحصتها كانت نسخة أخرى مشابهة , لقد استبدلت , و بقي الحرق هو العلامة الوحيدة على يد ويلسون اليسرى .. ألا تذكر أنه أعسر ؟ ! إن الأمر قد تم في البيت الأسفل , لكن أحد الشركاء – على الأقل – كان في بيت سافرونوف . الفتاة جندي للأربعة الكبار , تعمل كي ترث أموال سافرونوف - و إيفان ؟ - أشك بقوة أن إيفان ما هو إلا رقم ((4)) : الشهير بأنه شخصية تقدر أن تمثل أي دور ببراعة و سهولة تذكرت أدوار سابقة : حارس في المصحة العقلية , الجزار , الطبيب اللطيف , كلهم رجل واحد لكنهم لا يشبه أحدهم الآخر . ثم قلت في النهاية : إن ذلك مذهل .. كل شيء كان معدا , و لعل سافرونوف أحس بالخطر مما دفعه إلى التهرب من المباراة نظر بوارو إلي نظرة عميقة , ثم أخذ يجوب الغرفة ذهابا و إيابا , و فجأة التفت نحوي و سألني : - هل لديك كتاب عن الشطرنج يا صديقي ؟ حاولت أن أبحث له عن الكتاب , و بعد أن وجدته سلمته له فأمسك به و غاص في كرسيه الضخم يقرأه بعد حوالي ربع ساعة رن الهاتف , كانت مكالمة من جاب , قال : لقد غادر إيفان الشقة وهو يحمل رزمة كبيرة , قفز إلى سيارة تنتظره , و بدأت المطاردة كان يحاول تضليل متعقبيه , و في النهاية عندما ظن أنه نجح سار بسيارته نحو بيت كبير في هامستيد , البيت كان محاصرا .. سردت المكالمة على مسمع بوارو , حدق إلي ذاهلا مما جرى , ثم فتح الكتاب عند طريقة لوبيز في الافتتاح و قال : - انظر .. 1p-k4 , P-k4;2 Kt-kb3,k-qb3;3 B-kt5 لقد كانت النقلة الثالثة إلى المربع الأبيض هي التي قتلت ويلسون , هل ينبئك هذا بشيء يا هيستنغز ؟ لم أفهم مراد بوارو فصمت حائرا .. و انطلق هو شارحا نظريته : - هناك دائما طريقتان للنظر في الأمور . افترض يا هيستنغز أنك سمعت – و أنت جالس على هذا الكرسي – صوت الباب الأمامي و قد فتح و أغلق فماذا تستنتج ؟ - لا بد أن شخصا قد خرج .. هذا ما سيتبادر إلى ذهني - هذا أحد الاحتمالين فقط , و الاحتمال الآخر ليس أقل شأنا : ربما كان ذلك الشخص قد دخل , أرأيت : على نفس المقدمة بني استنتاجان يناقض أحدهما الآخر و لكنك إذا سرت في الاتجاه الخاطئ فلا بد أن يظهر لك تناقض ما يدلك على أنك في الطريق غير الصحيح قلت : و ماذا يعني ذلك يا بوارو ؟ قفز بوارو على قدميه فجأة ثم صرخ بعنف : - هذا يعني أني كنت غبيا ثلاث مرات , هيا أسرع إلى شقة سافرونوف لعلنا نصل في الوقت المناسب انطلقت بنا سيارة أجرة مسرعة و لم يجب بوارو عن أسئلتي الكثيرة . صعدنا الدرج مسرعين , لم يكن هناك جواب على قرع الجرس و طرق الباب مرارا , و عندما ألقينا السمع سمعنا صوت أنين مكتوم ينبعث من الداخل كان حارس العمارة يملك مفتاحا , و بصعوبة أقنعناه بفتح الباب , دلفنا مسرعين فإذا رائحة الكلوروفورم ووجدنا سونيا دافيلوف مكممة و مقيدة و محشوة قطنية مشبعة بالكلور تسد أنفها أسرع بوارو لينقذها , و اتصل بالطبيب الذي وصل بسرعة و تولى العناية بها , ثم جرى تفتيش الشقة و لم نجد الدكتور سافرونوف , فقلت : - ما معنى هذا ؟ - هذا يعني أننا ظننا الظن الخاطئ منذ البداية ... لقد كنا أمام استنتاجين متساويين فاخترنا الاستنتاج الخاطئ .. ألا تذكر استنتاجك بشأن الباب الذي فتح و أغلق ؟ كان يمكن لأي واحدة أن تنتحل شخصية سونيا دافيلوف لأن عمها لم يرها منذ سنوات طويلة - نعم , و ماذا في ذلك ؟ - حسنا .. العكس صحيح . أيضا يمكن لأي واحد أن ينتحل شخصية العم - ماذا ؟ - لقد مات سافرونوف فعلا عند اندلاع الثورة , أما الرجل الذي زعم أنه تحمل المشاق و هرب , الرجل الذي (( تغير كثيرا حتى فشل أصدقاؤه في التعرف إليه )) , الرجل الذي زعم أنه حصل على ثروة ضخمة .. - من كان هذا الرجل ؟ - رقم ((4)) , لقد كان خائفا عندما أخبرته سونيا أنها استمعت إلى إحدى مكالماته , مرة أخرى استطاع الانزلاق من بين أصابعي . لقد أيقن أنني سأسير في الطريق الصحيح حتى النهاية , لقد استطاع تحويل السندات ورقا نقديا , ثم فر بها بعد أن قام بمحاولة حبس سونيا دافيلوف و بعد أن أرسل إيفان الأمين في مطاردة تصرف عنه الانتباه - لكن من الذي حاول قتله ؟ - لا أحد , ويلسون كان الضحية المقصودة منذ البداية , و رقم ((4)) لم يكن يعرف مبادئ اللعبة , من أجل هذا كان يرفض المباراة , و لقد حاول جاهدا الإفلات منها , و حين فشل وضع نهاية مأساوية لويلسون المسكين ويلسون كان مولعا بطريقة لوبيز , و لذلك خطط رقم ((4)) لموته في الحركة الثالثة قبل أن يتورط في أي صعوبات دفاعية حاولت أن أناقش بوارو بصلابة و حزم : - و لكن ألا توجد طريقة لتجنب المباراة دون اللجوء إلى القتل كأن يزعم بأن الطبيب منعه من اللعب مثلا ؟ - بلى يا هيستنغز , لديه طرق أسهل , لكنك لا تفكر بعقل رقم ((4 )) – المدمر – الذي لا يحرص أن يتجنب إزهاق الأرواح , بل ما كان يشغله أن يمثل دور اللاعب الكبير , فليس غريبا أنه قد حاول مراقبة اللاعبين , وزار عدة مباريات ليقلد الجلسة , و تقطيبة الحركات الاستعراضية , وهو نفسه يضحك ؛ لأنه لم يكن يتقن غير حركتين أو ثلاث حركات , هذه هي نفسية رقم ((4)) , و هذا هو أسلوب تفكيره هززت رأسي استهجانا .. - حسنا , أعتقد أنك محق , لكني لا أفهم كيف يغامر شخص هذه المغامرة و يخاطر بحياته في حين يستطيع تحقيق ما يريد بطريقة أسهل ضحك بوارو ضحكة خفيفة وهو يقول : - و أين تكمن المخاطرة ؟ هل كان يمكن لجاب أن يحل اللغز ؟ رقم ((4)) يثق بنفسه و لا يتعرض للمخاطرة إلا في حال أن يخطئ خطأ ********************************ا - و ما هو الخطأ ال******************************** ؟ - لقد غفل يا صاحبي عن الخلايا الرمادية , خلايا هيركيول بوارو هززت رأسي و ناجيت نفسي : بوارو ذو مناقب حسنة كثيرة لكن التواضع ليس واحدا منها الفصل الثاني عشر كان الضباب يلف لندن في يوم شتاء قارس من أيام شهر كانون الثاني عندما كنا نجلس متقاربين عند الموقد , كنت أحس أن بوارو يرمقني بنظرات متتابعة , و كانت بسمة ساخرة على شفتيه , حاولت جاهدا أن أفهمها فلم أستطع , خاطبته : - أرجو أن تزداد ثقة بقدراتي يا سيد بوارو - لا عليك , إنما أرجع ذاكرتي إلى الماضي قليلا حين قدمت إلي في منتصف الصيف الماضي , و قد أخبرتني يومئذ أنك تود قضاء إجازتك معي و هي شهران على أبعد حد - لكني لا أذكر إن كنت ذكرت مدة معينة - لقد ذكرت ذلك حقا يا صديقي , لكن لماذا غيرت خطتك ؟ - هذا صحيح , لكن هل خطر ببالك أنني سأدع بوارو يصارع هذا الأخطبوط العملاق الأربعة الكبار و أمضي ؟ - ظننت هذا , و لقد أنست بصحبتك الكريمة , لكن ماذا ستقول زوجتك سندريلا الصغيرة كما يحلو لك تسميتها ؟ - هي لا تدرك ما يجري هنا لكنها تفهم دوري و لن تقبل أن أدير ظهري لصديق - نعم , أعلم هذا , إنها زوجة وفية , لكن رحلتنا يا صاحبي رحلة طويلة هززت رأسي و أنا أشعر ببعض الإحباط , و يكاد اليأس يسري في أعماقي رويدا رويدا , ثم حاولت التعبير عن مشاعري بتساؤلات : - لقد مضى على هذا الصراع نحو ستة أشهر , و سؤالي : أين نحن الآن ؟ إنني أحسب يا بوارو دائما أن علينا أن نفعل الكثير - حماسك يعجبني يا صديقي , لكن ماذا تريدني أن أفعل ؟ هذا السؤال يدعو إلى الحيرة , و جوابه ليس سهلا , لكني حاولت الإصرار بعناد , و لذلك بادرت إلى إجابة متزنة تحمل بعض جوانب القوة .. - علينا أن نبادر نحن بالهجوم و لا ننتظرهم , و أظن أن ما أنجزناه في الحقبة الفائتة شيء قليل - ما تم إنجازه أكبر مما تظن يا هيستنغز , كشفنا هوية رقم ((2)) و رقم ((3)) و عرفنا الكثير عن نفسية و أسلوب رقم ((4)) . . . ربما لم يحن الوقت الذي أستطيع فيه توجيه التهمة للسيد ريلاند أو مدام أوليفير , لكن أناسا كبار قد وقعت في نفوسهم شكوك فيهما , مثل اللورد ألدينجتون الذي عرف شيئا كثيرا عن الأربعة الكبار إن الأربعة الكبار لا زالوا يستطيعون السير , لكن كشافا كبيرا يلاحقهم و يفضح أفعالهم - و ماذا عن رقم ((4)) ؟ - ألم أقل لك بأننا بدأنا نفهم أسلوبه و كيف يفكر ؟ يمكن أن تسخر من هذا الكلام , لكن تتبع شخصية ما و معرفة ماذا سيفعل تماما في كل الظروف مفتاح النجاح , و في حين أزداد معرفة بدوره فإنني أسعى ألا يعرف عني شيئا , هو في الشمس و نحن تحت الظل , و هو في كل يوم يزدادون خشية مني و خوفا - على كل حال فانهم الآن قد ابتعدوا عنا , وصار الخطر عنك بعيدا و الطريق خلو من الكمائن - كلا , بل هذا السكون يدهشني لا سيما أن عندهم طريقين واضحين لينالونا , و أعتقد جازما أن شيئا قد تبين لهم , لا أدري , هل فهمت قصدي ؟ حاولت أن أجيبه – إذ لم أفهم كلامه – جوبا تهكميا - هل هي آلة جهنمية من نوع غريب لم تعرف بعد ؟ نفد صبر بوارو , و ظهر ذلك من صوته الحاد الذي أحدثه بلسانه : - حسنا , إني محتاج إلى نزهة في الخارج على الرغم من برودة الطقس , أظن أنك تريد قراءة الكتب مثل (( مستقبل الأرجنتين )) و (( مرآة المجتمع )) و (( تكاثر الماشية )) و (( دليل اللون القرمزي )) كان كتاب اللون القرمزي يستحوذ على اهتمامي فرجاني بوارو أن أضع الكتب في مواضعها و أن أقضي على هذه الفوضى العارمة في البيت خرج بوارو بعد أن أبديت له اعتذاري بلطف , و تركني في متعتي التي لم يقاطعها أحد في كتابي المختار , و مع ذلك أعترف أنني كنت نصف نائم عندما سمعت طرقا على الباب فإذا السيدة بيرسون تقول: - برقية لك يا كابتن .. و امتدت يدي على الظرف و فتحته من غير اهتمام . كانت الرقية من برونسين مدير مزرعة الماشية التي أملكها في أمريكا الجنوبية , و كانت على النحو التالي : (( اختفت السيدة هيستنغز أمس , يخشى أن عصابة تسمي نفسها : (( الأربعة الكبار )) قد اختطفتها , أبلغنا الشرطة برقيا لكن لم يظهر أي أثر حتى الآن ! برونسين)) تراجعت إلى الخلف ووقعت في المقعد الكبير مصعوقا أعاود قراءة البرقية مرة بعد مرة , زوجتي الآن مخطوفة و بأيدي هذه المنظمة الإجرامية .. ماذا أفعل ؟ أين أنت يا بوارو ؟ من الضروري قدوم بوارو الآن , انه يقدر على هزيمتهم , سوف أنتظر قدومه قبل أن أحاول القيام بأي فعل , لكن سندريلا الآن في قبضة الأربعة الكبار . . الباب يطرق مرة أخرى , السيدة بيرسون من جديد : - رسالة يا كابتين , أحضرها رجل صيني بربري يقف أسفل الدرج الرسالة كانت قصيرة : (( إن أردت رؤية زوجتك فقم مع حامل هذه الورقة من فورك , لا تترك رسالة لصديقك و إلا فإنها سوف تعاني أذى كثيرا )) يا ويلي ! ماذا سأفعل ؟ لا وقت للتفكير , يجب أن أطيع , سندريلا في قبضة الكبار الأشرار , يجب أن أقوم مع هذا الرجل حيث يقودني , ذاك فخ و مصيدة , نعم , انه الأسر الأكيد و الموت المحتمل , لكن ليس لي من الأمر بد , يجب أن لا أتردد و كيف أذهب و لم أترك لبوارو كلمة واحدة حتى يبحث عني ؟ و ترددت أن أكتب أية كلمة , شعرت أن للأربعة الكبار قوة خارقة يستطيعون أن يعرفوا كل صغيرة و كبيرة , و سهل على الرجل الصيني أن يصعد و يتأكد بنفسه , لقد التزمت أوامرهم , ربما تكون الخادمة ال********************************ة جنديا لهم ! و مع ذلك قررت أن أترك البرقية لعل بوارو إذا اطلع عليها يدرك تفصيل ما جرى لبست قبعتي و انطلقت مهرولا خارج الباب حيث كان الرجل الصيني ينتظر .. رجل طويل ذو وجه صارم , ثوبه بال لكنه حسن , انحنى لي و ألقى التحية , كان يتقن الإنكليزية : - أنت الكابتن هيستنغز ؟ - نعم - أعطني الرسالة أرجوك لقد تنبأت بطلبه فسلمته القصاصة من دون تردد . . - اليوم وردتك برقية , ووصلتك الآن من أمريكا الجنوبية , أليس كذلك ؟ هنا أدركت عظمة قدرتهم على التجسس و المتابعة , و لا ينفع الإنكار , قد علموا كل شيء ! - بلى وردتني برقية حقا . . - هلا ذهبت و أحضرتها الآن ؟ شعرت بالحنق و الضيق يطوق عنقي , ركضت على الدرج مرة أخرى , خطر ببالي أن أفضي للسيدة بيرسون التي تقف أعلى الدرج , لكن الخادمة الصغيرة كانت تقف قربها عبرت المجلس بعدما ترددت في إخبارها , و عدلت عن الفكرة , أخذت البرقية , ثم جاءتني فكرة . . أترك علامة يفهمها بوارو , أخذت أربعة كتب من الخزانة و نثرتها على الأرض , سوف يعرف أن ذلك شيء غير عادي , عندما يتذكر محاضرته المقتضبة قبل خروجه عن ضرورة الترتيب . ثم عمدت إلى مجراف الفحم فملأته و نثرت أربع فحمات في الموقد و دعوت الله أن يوفق بوارو لمعرفة هذا الرمز ! و تدحرجت على الدرج مسرعا , و أخذ الرجل الصيني البرقية , قرأها ثم أودعها في جيبه و أشار بحركة من رأسه أن أتبعه .. قادني في طريق طويلة مملة , ركبنا القطار مرة و الحافلة مرة أخرى ثم في سيارة أجرة , و كانت الطريق إلى الشرق دائما , حتى اقتربنا من أحواض السفن فعلمت أني ذاهب إلى قلب الحي الصيني بدأ الرعب يسري في , و شعرت بالخوف أكثر عندما توقف مرشدي بعد لف و دوران في الممرات و زقاق عند بيت خرب متهاو طرق الباب أربعا , ففتح الباب في الحال رجل صيني آخر , أذن لنا بالدخول . هنا شعرت أن إغلاق الباب خلفي كان نعيا لآخر آمالي في هذه الحياة . . . هاأنا ذا في الأسر قادني رجل صيني آخر عبر درجات متهاوية نحو الأسفل , إلى قبو مليء ببراميل خشبية فارغة تفوح منها رائحة التوابل الشرقية أحسست بجو الشرق الغريب يحيط بي , أزاح الرجل بضعة براميل فظهرت فتحة أرضية لنفق مظلم , أمرني بالدخول , كان ممرا ضيقا مظلما موحشا يؤدي إلى قبو آخر ! تقدمني الرجل و ضرب على الجدار أربعا ففتح شق من الحائط , و دخلنا في ممر قصير يؤدي إلى قاعة مدهشة كأنها قطعة من قصر من قصور ألف ليلة و ليلة ! غرفة منخفضة جدرانها مكسوة بالحرير الشرقي , و الأرض مفروشة بالسجاد الثمين , مضاءة بصورة باهرة يعبق الجو فيها بالعطور الشرقية , و كان فيها بضع أرائك رائعة من صنع الصين ! جاء الصوت من خلف الستارة : هل حضر ضيفنا الكريم ؟ أجاب الدليل : - يا صاحب السعادة انه هنا - دعه يدخل فتحت الستارة فظهرت أريكة ضخمة ذات وسائد , قد جلس عليها رجل عظيم طويل , يلبس ثيابا مطرزة جميلة , و قد استطالت أظفاره بشكل ملفت للنظر . قال وهو يشير بيده : - اجلس يا كابتن هيستنغز , تسرني رؤيتك , أشكرك على قدومك فورا و تلبية طلبي - من أنت ؟ هل أنت لي شانغ ين ؟ - في الحقيقة لا . أنا واحد من أبسط خدمه ليس غير . إنني أفعل ما يأمرني كما يفعل عماله الكثيرون المنتشرون في كل مكان كما في أمريكا الجنوبية مثلا انتفضت من مكاني و صرخت : - أين هي ؟ ماذا فعلتم بها ؟ - هي في مكان آمن لم يصبها أذى حتى هذه اللحظة كانت ابتسامته الخبيثة تثير رعشة في , و أدركت أنني أواجه شيطانا فصرخت : - ماذا تريد ؟ المال ؟ - عزيزي الكابتن هيستنغز .. ليست لدينا مخططات للاستيلاء على مدخراتك القليلة فاطمئن , انك لم تصب الهدف , و أظن أن صاحبك لم يكن ليوافقك هذا الرأي - أظن أنك أردت أن أقع في شركك و قد بجحت , هاأنا ذا جئتك و عيني مفتوحة , افعل بي ما تشاء و اتركها , إنها لا تعرف شيئا بتاتا , و لن يكون وجودها نافعا , قد أمسكتما لتمسك بي و تحقق لك ذلك شعرت أن الرجل يرقب حركاتي بدقة بعينيه الصغيرتين و هو يربت على خديه : - لقد ذهبت بعيدا جدا , المشكلة لم تحل يا كابتن .. إن القبض عليك ليس هدفنا يقينا , بل نريد صاحبك السيد هيركيول بوارو أطلقت ضحكة سخرية و قلت له : - لن تستطيعوا لكنه استمر متجاهلا تعليقي : - أرى أن تكتب رسالة إلى صديقك بوارو تقنعه بالمجيء هنا للانضمام إليك سريعا قلت غاضبا : - لن أفعل الرفض عاقبته لا ترضيك - عليك اللعنة - قد يكون مصيرك الموت غالبت رعشة غريبة سرت في جسدي و أجبته متصبرا : - تهديداتك لن تخيفني , و يحسن أن توفرها لأمثالك من الصينيين الجبناء - إنني جاد يا كابتن .. للمرة الأخيرة : هل ستكتب هذه الورقة ؟ - لن أفعل ومن فوره صفق الرجل بيديه تصفيقا رفيقا , فإذا باثنين من الخدم انشقت الأرض عنهما ينقضان علي و يقيدان ذراعي قبل أن يسحباني إلى إحدى زوايا الغرفة حيث انهارت الأرض من تحتي . بقيت معلقا من يدي و جسمي مدلى في الشق المظلم أسمع تحتي صوت تلاطم المياه . و سمعت الصوت الهادئ للرجل الجالس على الأريكة : - النهر . . فكر ثانية يا كابتن . سوف ينتهي أمرك في ثوان لا غير ! أعترف أنني لست من أشجع الرجال , و أعترف أن الخوف و الرعب سيطرا علي , و أيقنت أنني أعيش لحظاتي الأخيرة , و لم أملك تهدئة صوتي المرتعش و أنا أرد عليه : - لآخر مرة . . لا . اذهب إلى الجحيم ! و أغلقت عيني – بغير إرادة مني – و دعوت دعاء قصيرا