قليلة هى الانتخابات التى يكون نجمها الأول من غير المرشحين فيها. وهذه هى حال الانتخابات الرئاسية البرازيلية، التى أُجريت دورتها الأولى قبل أيام، وينتظر الناخبون الدورة الحاسمة يوم 31 أكتوبر الجارى.
فنجم هذه الانتخابات هو الرئيس المنتهية ولايته الثانية لولا دا سيلفا، الذى حقق إنجازا عظيما وضع بلاده ضمن القوى الكبرى الصاعدة (مع الهند والصين)، ونقلها من وضع أسوأ مما كانت فيه مصر بداية عام 2003 - عندما تولى هو الرئاسة - إلى آفاق النهضة والتقدم.
تولى دا سيلفا السلطة فى بلد مثقل بفقر أشد وأوسع نطاقاً من البؤس الذى يعيش فيه ما يقرب من نصف المصريين بكل فداحته، فضلاً عن بقايا ديون بدا سدادها ذات يوم مستحيلاً. ولكنه سيترك الحكم بعد أيام وقد سددت البرازيل ديونها كاملة ووفرت احتياطياً كبيرا. كما صارت ثامن قوة اقتصادية فى عالم اليوم وأحد أكثر بلاده ديمقراطية.
وأى دليل على هذه الديمقراطية أكثر من رفض الرئيس، صاحب كل هذا الفضل، دعوات ومطالبات لتعديل الدستور لكى يتمكن من الترشح لفترة ثالثة. فقد أصر دا سيلفا على احترام شعبه الذى عمل من أجله، وليس فقط على الالتزام بأحكام الدستور.
وليس هذا غريباً أو كثيراً عليه. وهو الذى ناضل ضد الديكتاتورية السابقة واعتُقل أكثر من مرة، مثلما تصدى للفساد ونهب ثروات البلاد وخاض نضالاً اجتماعياً ضارياً ضد الجوع والفقر والاستغلال.
ولذلك، فعندما انتُخب رئيسا للبلاد، شرع فى تطوير السياسة الاجتماعية، التى بدأها سلفه فرناندو كاردوسو. وبدلاً من محاباة رجال المال والأعمال وترك البلد وأرضه لقمة سائغة لهم، نجح فى إقناعهم بالمشاركة فى سياسته الاجتماعية ودعمها.
ولذلك، فليس غريباً أن يحقق البرازيليون كل هذا التفوق، بينما نحن فى خيبتنا قابعون. فقد اخترقوا، هناك، سقوفاً لا يبدو فى الأفق أننا يمكن أن نصل إلى ما هو أدنى منها. وما كان لهم أن يفعلوا ذلك إلا نتيجة إدراك ضرورة الإصلاح.
جاء الرئيس دا سيلفا بسياسة ليتنا نتعلم منها لأنها تقوم على مزيج بارع من احترام قواعد السوق والالتزام ببرامج اجتماعية للحد من الفقر الذى كان قد بلغ مستوى قياسياً فى البرازيل.
ونجحت هذه السياسة فى تقليل فجوة الدخول بنسبة 6 فى المائة سنويا على مدى السنوات الماضية. وبموجب هذا الإنجاز، أصبح الدخل التراكمى لأصحاب الدخول المتدنية (أسفل الهرم الاجتماعى) يقفز بمعدلات متزايدة. واستفاد من هذه السياسة نحو 45 مليون برازيلى. ودخلت البرازيل للمرة الأولى فى تاريخها ضمن البلاد التى تتوسع فيها الطبقة الوسطى وتنتعش، إذ بلغت نسبتها نحو 52 فى المائة من السكان عام 2008. كما حققت قفزة كبيرة فى قطاع الاقتصاد الجديد، الذى مازال يحبو فى مصر، بل يبدو فى بعض الأحيان كما لو أنه مصاب بشلل الأطفال.
وهكذا، فعبر سياسة اقتصادية - اجتماعية متوازنة، وتنوع مجالات الاقتصاد ودخول عصر الثورة الصناعية الثالثة، وممارسة ديمقراطية حرة، تخرجت البرازيل بجدارة وتفوق من «مدرسة الدول النامية»، التى مازلنا نحن فى مرحلتها الابتدائية نرسب عاماً وننجح عاماً آخر بصعوبة، لا لشىء إلا لأننا نفعل عكس ما حدث هناك على المستويين السياسى والاقتصادى - الاجتماعى.
وإذا علمنا أن البرازيليين انتخبوا دا سيلفا مرتين دون أن يسألوا عن «مؤهلاته»، بل عن سياسته وبرنامجه، لابد أن نتأمل مدى تهافت الدعاوى المتعلقة بوضع ضوابط لضمان أن يكون المرشحون للرئاسة «مؤهلين» للمنصب الرفيع. كان رئيس البرازيل هذا عاملاً فى صناعة الصلب وميكانيكى سيارات، بل عمل ماسح أحذية و«بائع خضار» أيضاً.
ولكنه انخرط فى النضال السياسى والاجتماعى، وعرف جيداً أين يوجد المرض وكيف يمكن معالجته. وهذا هو المطلوب فى أى مرشح للرئاسة: أن يكون سياسياً قادماً من قلب المجتمع قبل كل شىء.