حدثني صديقي "الفاضي" قائلاً : أيا صاحبي ! ، اعلم أن دروس الزمان ليس لها مثيل ، والمستفيد من تاريخه في عصرنا : قليل ، فالعزيز ما لم يذق عزةً في داخله : ذليل ، والقبح – مهما اشتد شينه - في عين صاحبه : جميل ، واعلم أن زمانك هذا فيه من العجب العجاب ، ما لم يخطر ببال أحد من ذوي الألباب ، وسيسجل التاريخ تاريخكم في ورق من ذباب ، فالله المستعان وعلى الله يتكل الأصحاب ! في زمانكم : تذبحون الوقت بسكين من ذهب ، وتمرحون على عزيز عمر قد ذهب ، يا للعجب ! ، في زمانكم : انتهى عصر القلم ، وابتدأ عصر القدم ، وانطوى عهد الكتب ، واستوى عهد الطرب ، يا للعجب ! ، في زمانكم : في الكم زادت العلوم ، وفي الكيف قلت الفهوم ، وأصبح العام من أهل الخصوص ، والخاص من أهل العموم ، يا للعجب ! ، في زمانكم : هيبة الدين : أنوارها خبت ، وصولة الجهل : نيرانها صلت ، وأصبح الدين مطية الدنيء ، والصادق الناصح في عرفكم قميء ، يا للعجب ! ، في زمانكم : زاد عباد البلاط ، وتم تسويق الاختلاط ، وقل تحقيق المناط ، وأمسى القادة في مقاعد الاحتياط ، يا للعجب ! ، في زمانكم : أصبح من جينات شعبكم : جين الاستعمار ، بل وتمادى بعضكم وورث : جين الاستحمار ، يا للعجب ! ، في زمانكم : حجاب نسائكم يحتاج إلى حجاب ، وفساد عقولكم وأجسادكم أدخلتموه من الباب ، يا للعجب ! في زمانكم : تبدعون في نشر الفضيحة ، وتأنفون من سماع النصيحة ، يا للعجب ! وتحدث صاحبي ساعة أو ساعتين ، في كل مرة يزيد الطين قلة أو قلتين ، وبعدما انتهى من الحديث ، واستقصى مساوئ العصر الحديث ؛ قلتُ له : هلم أواضعك الرأي ، وتسمع مني القول دون لأي ، فقال : هات ما في جعبتك ، وشنف الأسماع برؤيتك ، فقلت : قد رأيتُ ما ذكرتَ ، وعايشتُ ما علمتَ ، ولكن ! ، ما تم ذكره هو جزء من الرسم ، ولن تعرف حقيقة الشيء بمجرد معرفة الاسم ، نعم : السوء في العباد ؛ واللبس والخلط والجهل : في ازدياد ، ولكن ؛ كم في عصرنا من جمال ، وكم فيه للنجاح من مثال ، وكم في علمائه من جبال ، وطرائق المجد ميسورة لمن ألقى السمع ورام الكمال ! ، في الأمة خير كثير ، ولما يجيء بعد الشر المستطير ، لا أنكر عليك الضيق والكدر ، ولكن ما تقوله هو من القضاء والقدر ، ونحن وإن اتفقنا معك في الكلمة ؛ إلا أننا نختلف معك في الوجهة ، فالتحسر والتعنيف والتبكيت والتثريب والتوبيخ فقط : لا يأتي بخير ، والتصويب والتصحيح والتوجيه والتعديل والنصيحة : من حقوق الغير ، ومن اعتمد على نفسه ضل ، ومن لم يرَ إلا حقه زل ، ومن لم يتدرب : كل ، ومن اعتزل الناس : مل ، ومن اغتر بعمله : ذل ، ومن استكثر جهده : قل ، وأما من استعان واعتمد وتوكل وتوجه وسأل وعمل لله : فلا ضل ولا زل ولا كل ولا مل ولا ذل ولا قل! ، ومن كان ذا همة رفيعة علية عالية ، فقطوف الكمالات البشرية من يديه دانية ، وما عليه إلا أن يجتهد ويصبر في هذه الدنيا الفانية ، وعند الآخرة سيحمد الرجل السرى ، وسيجد ثواب صنيعه وما جرى ! ، فحاول أن تكون حجر بناء ؛ لا معول هدم ، وافتح الطرق ولا تكن من أهل الردم ، وانظر للأمور من زوايا مختلفة ومتعددة ، واجعل مجالات الرأي في عقلك متجددة ، جعلنا الله وإياك -ومن يقرأ- مفاتيح للخير ومغاليق للشر ، وجنبنا وإياك -ومن يقرأ- الضر ومن به ضر . عندها رمقني صاحبي بنظرة وقال : أسأل الله أن يصلح القلوب والأحوال ! فكحلت عينه بابتسامة وتمتمتُ بقول : آمين .