الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
فلقد شرع الله الشعائر والعبادات لحكم عظيمة، ومصالح عديدة، لا ليضيق بها على الناس، ولا ليجعل عليهم في الدين من حرج.
ولكل عبادة في الإسلام حكم بالغة يظهر بعضها بالنص عليها، أو بأدنى تدبر، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين الموفقين في الاستجلاء والاستنباط.
والحكمة الجامعة في العبادات هي تزكية النفوس، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتصفيتها من الكدرات، وتحريرها من رق الشهوات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية؛ لتكون رقاً للإنسان، بدلاً من أن تسترقه.
وفي كل فريضة من فرائص الإسلام امتحان لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته. هذا وإن للحج أسرارًا بديعة، وحكماً متنوعة، وبركات متعددة، ومنافع مشهودة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة.
فمن أسرار الحج ومنافعه ما يلي:
1- تحقيق العبودية لله، فكمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً لها ازداد كماله، وعلت درجته.
وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي؛ ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطّيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاضع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
ومعنى ذلك أنني خاضع لك، منقاد لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً، دونما إكراه أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه - منذ فارق أهله - مقبل على ربه، متجرد عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله - عز وجل - إذ هو كمال العبد وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تمحى عن العبد آثار الذنوب وظلمتها؛ فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج- فملأت عبودية الله قلوبهم، وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون وما يذرون - صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية.
2- إقامة ذكر الله - عز وجل -، فالذكر هو المقصود الأعظم للعبادات؛ فما شرعت العبادات إلا لأجله، وما تقرب المتقربون بمثله.
ويتجلى هذا المعنى في الحج غاية التجلي، فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله.
قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} [البقرة : 198].
3- ارتباط المسلمين بقبلتهم، التي يولّون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم.
وفي هذا الارتباط سر بديع؛ إذ يصرف وجوههم عن التوجه إلى غرب كافر، أو شرق ملحد؛ فتبقى لهم عزتهم وكرامتهم.
4-أن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القربات: إذ يجتمع في الحج من العبادات مالا يجتمع في غيره؛ فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تفعل في الحج وغير الحج.
وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج.
5- الحج وسيلة عظمى لحط السيئات، ورفعة الدرجات:
فالحج يهدم ما كان قبله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه : «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» [رواه مسلم].
والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله». قيل : ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» [رواه البخاري].
والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال؛ أفلا نجاهد؟ قال: «لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور» [رواه البخاري].
والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة» [رواه مسلم].
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري ومسلم].
6- هياج الذكريات الجميلة: ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة العزيزة على قلب كل مسلم، وما أكثر تلك الذكريات! وما أجمل ترددها على الذهن!
فالحاج - على سبيل المثال - يتذكر أبانا إبراهيم الخليل - عليه السلام- فيتذكر توحيده لربه،وهجرته في سبيله، وكمال عبوديته، وتقديمه محبة ربه على محبة نفسه.
ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات والمقامات العالية.
ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى أثارها إلى يومنا الحاضر.
ويتذكر الحآج ما كان من أمر أمنا هاجر - عليها السلام- فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة بحثاً عن ماء تشربه، لتدر باللبن على وليدها إسماعيل، ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية، وركنًا من أركان الحج.
ويتذكر أبانا إسماعيل - عليه السلام- فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه؛ إذ أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه؛ فما كان من إسماعيل إلا أن قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي صلى الله عليه وسلم ففيها ولد وشب عن الطوق، وفيها تنزل عليه الوحي، ومنها شع نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات.
ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.
وتذكر الصحابة رضي الله عنهم وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين.
ويتذكر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس، وأنه مبارك وهدى للعالمين.
بلدة عظــــمى وفـي آثارهــــا أنفع الذكـــــرى لقوم يعقلون
شب في بطحائها خير الورى وشـــــبا في أفقها أسمح دين
فهذه الذكريات الجميلة تربط المؤمن بأكرم رباط، و تبعث في نفسه حب أسلافه الكرام، والحرص على اتباع آثارهم، والسير على منوالهم.
ثم إنّ الحآج إذا عاد من رحلة حجه حمل معه أغلى الذكريات، وأعزها على نفسه، فتظل نفسه متلهفة للعودة إلى تلك البقاع المباركة.
ورحم الله الإمام الصنعاني إذ يقول في قصيدته الطويلة في ذكرى الحج ومنافعه:
أيا عذبات البان من أيمن الحمــى رعى الله عيشاً في رباك قطعنــــاه
سرقناه من شرخ الشباب وروقــه فلما سرقناه الـــصفا منه سرقنـــــاه
وعادت جيوش البين يقدمها القطا فبدد شمــــلاً في الحجاز نظمنـــاه
ونحـن لجــيـــران المحصـب جيــرة نوفـي لهـم عهـد الــوداد ونرعـــــــاه
فهاتيك أيام الحــــــــياة وغيرهــا مــمات فيـا ليـت النـوى مـا شهدنـــاه
فيا ليت عنا أغمض البيــن طرفــه ويــا ليت وقتـــاً للــفـراق فقدنــــــــاه
وترجع أيــام المحصــب مــن مـــنى ويبــدو ثـــراه للعــــيــون وحصبـــــاه
وتســرح فيــه العيـس بيـن ثمامـــه وتستنشـق الأرواح نشـر خزامــــاه
نــــحن إلـى تلك الـربـوع تشوقًـــا ففيــها لنـا عــــــهد وعقــد عقدنــــاه
ورب برانا مــا نســينا عهودكـم وما كــان مــن ربــع ســواكـم سلونــــاه
ففــي ربعهــم لله بيـــــــت مبــارك إليـه قلـــوب الخـلق تهـوي وتهــــواه
يطـــوف بـه الجـاني فيغفـر ذنبــــه ويسقـــط عنـه جـرمـه وخطـــايــــــاه
فكــم لـذة كــم فرحــــــــة لطـوافـــه فلله مــا أحلـى الطـواف وأهنـــــــاه
نطــوف كـأنا فـي الجنـــان وطيبـــه ولا هـــم لا غـــــــم فـــذاك نفينـــــاه
فيــا شوقنــا نحــو الطــواف وطيبـــه فــذلك شــــوق لا يحــاط بمعنــــــاه
فمــن لــــم يذقــه لــم يذق قط لـــذة فـذقــه تـذق يا صاح ما قد أُذِقْنــــاه
إلى آخر ما قاله من قصيدته الطويلة الرائعة.
أيها الحاج الكريم، أسأل الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأن يعيد علينا وعليك وعلى أمة الإسلام من بركات الحج.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد