الحج ميدان عظيم يتدرب فيه الحجاج على خلق رفيع، ومدرسة مثالية يتحلي فيها المسلمون بأدب بديع، وميدان فسيح يتطلع المرء من ورائه إلى نيل مقام عظيم، ينال به المرء أشرف وسام؛ تمنحه وتُقَلِده إياه جامعة الحج الربانية إن هو تحلى به، ولزم غرزه، ذلك هو خلق الصبر.
فمن خلال الحج يعرف العبد موقعه من هذا الخلق الكريم، وما أحوج أن يسعى الحاج جاهداً ليعيش مقام الصبر واقعاً في حجته، وحدثاً ملموساً ما دام في منسكه، لأنه يحتاجه مواقف كثيرة:
- فمن مشاق السفر التي يتحملها الحاج في سبيل الوصول إلى البيت العتيق، إلى ما يلاقيه من كمد عند فراق الأهل والأولاد والبلاد، إلى مشاهد الزحام الخانقة، وما يواجهه من إرهاق وتعب ونصب حال، وتحمله إيذاء الآخرين حيث يجد في أيام الحج من يرمي به يمنة، وآخر يلويه يسرة، وثالث يرشقه بعبارات جارحة، ورابع يتطفل على خصوصياته، وخامس...، وكذا العناء جراء قلَّة النوم، وكثرة التنقل بين المشاعر ونحوه...، كل ذلك يتطلب من الحاج أن يتذرع بخلق الصبر، ويبقيه شعاره في موسم الحج؛ ليتمكن من قطع مراحله بنفس راضية، مسلمة بقضاء الله وقدره، فإذا غاب عنه فما أسرع الخور، وما أقل الأثر، وما أكثر التبرم والضجر.
ولك أن تتأمل هذا الموقف من نبيك صلى الله عليه وسلم في الحج وهو يربي أمته، ويدفعها إلى التزام هذا الخلق الرفيع يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع زجراً شديداً، وضرباً، وصوتاً للإبل فقال: ((أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع)) رواه البخاري برقم (1587) ومسلم برقم (1282)، والإيضاع يعني: الإسراع، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيها الناس، السكينة السكينة)) رواه مسلم برقم (3009) قال ابن المنذر: وإنما أراد بالسكينة في وقت الزحام[1]، ويشير ابن حجر رحمه الله في الفتح إلى هذا المعنى فيقول: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالسكينة)) أي: في السير، والمراد السير برفق، وعدم مزاحمة... وإنما خص الراكب لأنه أسرع من الماشي"
[2].
فتأمل رحمك الله كيف أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يغتنم لحظة تنقل الناس بين المشاعر ليحضَّ أمته على التزام السكينة، والرفق في الحج الذي هو ثمرة التخلق بالصبر؛ وبعيد على من فقد هذا الخلق أن يلزم السكينة والرفق، وهذا كله إنما هو لدفع ما لا تحمد عقباه من مضايقة الحجيج في سيرهم, أو إرهاقهم بالمزاحمة, ومدعاة إلى الرأفة بالضعفة وكبار السن، وهذا هو عين مقصود البر من الحج، فإنه لا يتحقق بالإسراع والعجلة والحطم، وإنما بالسكينة والإخبات والصبر، ولهذا فإن ابن رجب رحمه الله لما تكلم عن أنواع البر عدَّ الصبر في الحج من جملتها فقال رحمه الله: "أنواع البر ستة من استكملها فقد استكمل البر:
أولها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة.
ثانيها: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب.
ثالثها: إقام الصلاة.
رابعها: إيتاء الزكاة.
خامسها: الوفاء بالعهد.
سادسها: الصبر على البأساء والضراء وحين البأس.."، ثم قال: "وكلها يحتاج الحاج إليها، فإنه لا يصح ولا يكمل حجه، ويكون مبروراً بدونها"
[3].
ومما يؤكد على علاقة الحج بالبر، والبر بالصبر ما ذكره الإمام النخعي رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإنه لما رأى سرعة الناس في الإفاضة من عرفة وجمع قال: "والله إني لأعلم أن البر ليس برفعها أذرعها (يقصد الإبل)، ولكن البر شيء تصبر عليه القلوب"
[4].
أيها المبارك:
إن للعبد إذا تجمَّل بسلاح الصبر؛ عظيم الأجر، ووافر الفضل، دلَّت على ذلك النصوص، فكُن من أهل الخصوص، فقد أحاط الله الصابرين بكنفه ومعيته فقال سبحانه: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(سورة الأنفال:46)، وعلَّق به الفلاح فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة آل عمران: 200)، وأخبر عن محبته لأهله {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (سورة آل عمران:146)، وأفاض على أهله بعظيم فضله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(سورة الزمر:10)، وجعل منتهى الإكرام أن بوأهم غاية الإنعام {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}(سورة المؤمنون:111)، ودواليك دواليك.
وهذه الآيات وإن كانت تَصْدُقُ على مقامات الصبر الثلاث التي عناها العلماء بقولهم: "لابد للعبد من أمر يفعله، ونهى يجتنبه، وقدر يصبر عليه"[5]؛ إلا أننا عنينا في مقالتنا هذه الأخير منها؛ ألا وهو الصبر على أقدار الله التي يصيب الحاج غالباً شيئاً منها، فإنه ينبغي أن يكون حصن المؤمن الذي يأنس إليه، وساقُ إيمانه الذي يستند ويعتمد عليه، "فلا إيمان لمن لا صبر له" كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه
[6].
وليسعك أيها الحاج دعوة النبي صلى الله عليه وسلم يوم قال: ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً أعظم ولا أوسع من الصبر)) رواه البخاري برقم (1400).
والحج محطة لاختبار نفسك، تعرف من خلاله مقياس جَلَدِكَ وصبرك في تحملك إخوانك والناس من حولك.
وتأكد يا عبد الله:
أنه لا بد لك من الصبر إما اختياراً، وإما اضطراراً؛ ذلك أنك عرضة لكثير من الابتلاءات والمتاعب، والمشاق والمصاعب، فإذا لم تتعوَّدِ الصبر عليها؛ وقعت صريع الأحداث قال الغزالي رحمه الله: "اعلم أن الصبر من خواص الإنسان، ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة، أما في البهائم فلنقصانها، وأما في الملائكة فلكمالها"
[7].
وخير عيش أدركه السعداء إنما نالوه بصبرهم، وما ارتقوا أعلى المنازل إلا لما أعملوه في حياتهم يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا الصبر"، وقال: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً"
[8]، وصدق من قال:
والصبرُ مثل اسمه مر مذاقتـه لكن عواقبه أحلى من العسل
وكما يقول ابن القيم رحمه الله عليه أن للعبد فيما أصابه من جهة الناس مقامات:
"مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءةً.
المقام الثاني: مقام الصبر إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.
المقام الثالث: مقام الرضا وهو أعلى من مقام الصبر.
المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد البلية نعمة، فيشكر المبتلى عليها.
المقام الخامس: العفو والصفح.
والمقام السادس: سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام.
والمقام السابع: مقام الإحسان إلى المسيء، ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله، فإن فات العبد هذا المقام العالي فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها"
[9].
فيا رعاك الله:
لقد قصدت بيت الله الحرام؛ فلا أقل من أن تتحلى بالصبر، وتتجمل برحابة الصدر "فإنه كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده" كما قال الحسن البصري رحمه الله.
فلا تتأفف ولا تتذمر، ولا تدفع من حولك، وعليك بالرفق والسكينة، واستعذب الصبر في سبيل الأجر، واستحضر أن ما تلقاه من عنت ومشقة إنما هو سنَّة جارية أولاً، وثانياً: فإن أجرك على قدر نصبك.
فيا أيها المسلمون: هذا هو الحج يعلمنا الصبر، ويربينا على هذا الخلق الجليل، فليكن لنا منه أوفر الحظ والنصيب، وليبقى زادنا فيما نستقبله من أيام العمر القصير والمديد.
وتذكر أيها الحاج {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (سورة يوسف: 83)، {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (سورة النحل: 126).
وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع مناسك
[1] شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/350).
[2] فتح الباري لابن حجر (5/344).
[3] لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي (332).
[4] شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/350).
[5] فيض القدير للمناوي (4/234).
[6] شعب الإيمان للبيهقي (7/124).
[7] مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي (1/671).
[8] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/19).
[9] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/53).