إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . . . أما بعد : فهذه نبذة مفيدة ومختصرة ، لحكم مهم من الأحكام التي يحتاجها كل مسلم ومسلمة ، ألا وهو حكم الهدي ، فالهدي واجب من واجبات الحج ، التي لا يتم حج المسلم إلا بها ، فكان من الواجب على المسلم أن يتبصر في أمور دينه ، وأن يسعى جاهداً لمعرفة ما يجهله من أحكام الدين ، التي بالضرورة معرفتها ، لذا ومن واجب الأخوة بين المسلمين ، وأداء للنصح لكل مسلم ، فقد آثرت الكتابة في موضوع الهدي ، وتقريب بعض مسائله للمسلمين لعل الله أن ينفع الجميع بهذا الموضوع ، فأقول : مستعيناً بالله تعالى ، ومتوكلاً عليه : الهدي :لغة : اسم لما يهدى ، أي يبعث وينقل . شرعاً : كل ما يهدى إلى الحرم من نعم وغيرها ، كالطعام واللباس ، تقرباً إلى الله عز وجل. من أي شيء يكون الهدي : وهذا الهدي الذي هو من النعم وغيرها هو الهدي العام في غير النسك أو الإحرام أما هدي النسك والإحرام والأضاحي والعقيقة ، فهي مختصة بالأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام في قوله تعالى:(ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين… إلى قوله تعالى:(ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين …) قال ابن القيم رحمة الله:(ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة هدي ولا أضحية ولا عقيقة من غيرها،وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع الآيات الأربع: إحداها:قوله تعالى:(أحلت لكم بهيمة الأنعام) الثانية:قوله تعالى:(ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم الله من بهيمة الأنعام) والثالثة:قوله تعالى(ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌُ مبين) والرابعة:قوله تعالى(هدياً بالغ الكعبة) فدل على أن الذي يبلغ الكعبة من الهدي هو هذه الأزواج الثمانية،وهذا استنباط علي بن أبي طالب رضي الله عنه. سوق الهدي : لا بد أن يساق الهدي من خارج الحرم ، والأفضل أن يكون من بلد الحاج لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن أخذه من عرفة ، أو من داخل الحرم وأخرجه خارجه ثم دخل به داخل الحرم جاز ذلك . الحكمة من الهدي: 1-التقرب إلى الله تعالى. 2-إظهار الحب لله تعالى. 3-التوسعة والإحسان إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين. 4-تعظيم للبيت الحرام. أنواع الهدي : ينقسم الهدي إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول : هدي التطوع : وهو غير الواجب ، وهو ما يتقرب به الحاج والمعتمر وغيرهما إلى الله تبارك وتعالى ، ويكون بأي شيء . القسم الثاني : هدي المحصر : وهو الهدي الذي يجب على من أحصر عن المسجد الحرام بعدو أو مرض أو حيوان مفترس أو سيل عارم أو ما شابه ذلك ، فهذا إن لم يشترط من قبل فعليه هدي يذبحه مكان الإحصار ويوزع على الفقراء . القسم الثالث : هدي الواجب : وينقسم إلى قسمين : الأول : هدي الشكر : وهو الهدي الواجب على المتمتع والقارن ، فهذا يأكل منه ويهدي ويتصدق ، ووقت ذبحه ، بعد صلاة العيد ، ومكان ذبحه الحرم . الثاني : هدي الجبران : وهو الهدي الواجب بسبب ترك واجب ، أو فعل محظور من محظورات الإحرام ، وهذا لا يأكل منه شيئاً ، بل يجعله للفقراء ، ويذبحه في مكان فعل المحظور . ما يستحب في الهدي : ويستحب لمن أتى مكة أن يهدي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى من حجته مائة بدنه،ويستحب استسمانها،واستحسانها لقوله الله تعالى:(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الأفضل في الهدي : والأفضل في الهدي والأضاحي:الإبل ثم البقر ثم الغنم.لقوله صلى الله عليه وسلم:(من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة،ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة،ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن،ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) فذكر الإبل لمن راح أول ساعة دليل على فضيلتها لأنها أوفر لحماً وأغلى ثمناً،فلا يقدم إلى الله إلا مثل ذلك مما هو أسمن وأعظم وأنفس عند أهله ويجوز للمتطوع أًن يهدي ما أحب من كبير الحيوان أو صغيرة،وغير الحيوان استدلالاً بالحديث السابق،إذ ذكر فيه الدجاجة والبيضة والأفضل بهيمة الأنعام،لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى منها. هذا القربان من بهيمة الأنعام وغيرها إذا كان الهدي هدي تطوع. أما إن كان عليه هدي نسك فلا يكون إلا من بهيمة الأنعام. فائدة: من كان متلبساً بنسك وعليه هدي وقد ساقه فلا يحل له شيء من محظورات الإحرام حتى يبلغ الهدي محله.أما من كان حلالا غير محرم وقد بعث بهدي تطوعا لله تعالى فلا يحرم عليه شيء فيما أحله الله له.فعن عائشة رضي الله عنها قالت:(فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي،ثم أشعرها وقلدها_ أو قلدناها _ ثم بعث بها إلى البيت،وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان حلالاً) . ومعنى أشعرها:أي علماها بإزالة شعر أحد جانبي سنام البدنة أو البقرة،وكشطة حتى يسيل منه الدم،ليعلم الناس أنها مهداه إلى البيت فلا يتعرضوا لها.ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظم البيت العتيق،فإذا لم يصل إليه بنفسه بعث إليه الهدي.وكان إذا بعث الهدي وهو مقيم بالمدينة لا يجتنب الأشياء التي يجتنباه في الإحرام من النسا وغيرها من محظورات الإحرام،بل يبقى حلالاً يحل له كل شيء.فالمهدي لا يكون محرماً ببعث الهدي،لأن الإحرام نية الدخول في النسك،أما المهدي فلم ينوي النسك أصلاً،وإنما بعث بالهدي قربة لله تعالى،وتوسعة للفقراء والمساكين المقيمين بالحرم أو القادمين إليه،فيجوز توكيل من يسوق الهدي إلى الحرم وذبحها وتفريقها أو توزيع الطعام أو اللباس هناك على المحتاجين إلى ذلك. فالهدي مشروع،وهو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وعن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا ًمتجرداً بالعراق_أي لابساً ثياب الإحرام_فسأل الناس عنه،فقالوا:إنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد،قال ربيعة:فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك،فقال:بدعة ورب الكعبة. ركوب الهدي : وإذا ساق الإنسان الهدي إلى الحرم وأحس بالتعب فله أن يركب ما معه من الإبل ما لم يكن في ذلك ضرر عليها.فما أهدي إلى البيت لا ينتفع منه في شيء ما لم تدعوا الحاجة إلى ذلك،لأنه أخرج لوجه الله،فلا يرجع فيه،إلا ما دعت الحاجة والضرورة إليه،فالركوب أو الحلب ما لم يكن في ذلك مضرة،فعن أبي هريرة رضي الله عنه:أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة،فقال اركبها،فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ:(قال في الثانية أو الثالثة:اركبها ويلك)أو(ويحك). قال ابن الملقن اختلف العلماء في جواز ركوب البدنة المهداه مع الاتفاق على تحريم الإضرار بها على مذاهب: أحدهما : يجوز للحاجة فقط،ولا يجوز من غير حاجة وهو قول الشافعي وابن المنذر وجماعة ورواية عن مالك،لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث جابر:(اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً). ثانيها : يجوز من غير حاجة وهو قول عروة ابن الزبير ورواية عن مالك،وقول أحمد وأسامة وأهل الظاهر وبه قال بعض أهل الشافعية لقوله تعالى:(والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ويجاب عن ذلك بأن الإبل لما صارت بدناً وهدياً جاز أن يقول:(جعلناها لكم من شعائر الله،وليس معنى ذلك أن لكم أن تنتفعوا بها من غير حاجة.وقال ابن العربي:(جعلناها لكم من شعائر الله ) وهذا نص في أنها بعض الشعائر . ثالثها : لا يركبها إلا أن لا يجد منه بداً قاله أبو حنيفة،وهو قريب من القول الأول. رابعها : وجوب الركوب كما قدمته لمطلق الأمر به،ولقوله تعالى:(لكم فيها منافع). وقد جاء في تفسير كثير من المفسرين لهذه الآية أن المنافع في الدنيا والآخرة،ففي الدنيا من ركوبها وحلبها والإنتفاع بصوفها وجلدها ما لم تعين للهدي،فإن عينت فلا ينتفع بها حتى تبلغ البيت العتيق،أما في الآخرة فالأجر العظيم من صاحب الجود والكرم فإنها تقع من الله بمكان ويناقش هذا القول بان الآية كما فسرها كثير من المفسرين. أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهو مطلق مقيد بالحديث الصحيح الذي عند مسلم في أن الركوب لا يكون إلا إذا ألجئ إليه. فالصواب إذاً هو القول الأول والله تعالى أعلم . قال الشيخ عبد الله البسام:(جواز ركوب الهدي وحلبه مع الحاجة إلى ذلك وعدم الضرر على الهدي وهذا أعدل المذاهب وفيه تجتمع الأدلة. إعطاء الجزار من الهدي : لا يعطى الجازر منها شيئاً على وجه المعاوضة فلا يقول اذبحها أو انحرها ولك منها كذا وكذا لأنها للفقراء والمساكين قربة لله تعالى فلا يحق لمهديها أن يتصرف بها أو بشيء منها على وجه المعاوضة، وإنما يعطيه صدقة وإهداءً بعد أن يعطيه أجرته من عنده على جزارته. قال البغوي:(أما إذا أعطي أجرته كاملة_أي الجازر_ثم تصدق عليه_إذا كان فقيراً فلا بأس). ودليل المنع في ذلك حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه قال:أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها،وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً وقال:(نحن نعطيه من عندنا).والأجلة : جمع جل : وهو ما يطرح على البعير من كساء ونحوه. وسيأتي مزيد بيان في ذلك في باب الأضحية إن شاء الله تعالى. إشعار الغنم : الغنم تقلد ولا تشعر،لأنها ضعيفة لا تتحمل الإشعار،ولأنه يستتر موضع الإشعار بشعرها وصوفها. فلا تشعر الغنم وغنما تقلد ، والتقليد أن يوضع في عنقها شيئاً تعرف به أنها هدي . متى يتعين الهدي : يتعين الهدي ويصبح واجباً في حقه بإحدى هذه الأمور : 1-أن يقلده إن كان غنماً. 2-أن يشعره إن كان إبلاً أو بقراً،وذلك مع النية بأن يكون هدياً،وقيل إذا لم ينوي. 3- قوله هذا هدي. 4-إذا اشتراه من عرفات وساقه إلى منى. 5-إذا اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم. فإذا تعينت لم يجز له الانتفاع منها بشيء كما بُين ذلك سابقاً إلا بقدر الحاجة الداعية إلى ذلك من غير ضرر على الهدي أو ولده إن كان له ولد،فإذا احتاج إلى أن يشرب من لبن الناقة ولها ولد فلا يشرب إلا ما فضل عن ولدها. فإن كان جز الصوف أو الوبر للهدي أنفع جزه وتصدق به. وإذا ولدت ذبح ولدها معها لأنه تبع لها إن كان بعد تعينها،وإلا فلا يلزمه ذلك. وإذا أراد أن يبدلها بخير منها فله ذلك وفي ذلك خلاف،والصحيح أنه إذا أراد أن يبدلها بخير منها فله ذلك. عطب الهدي ومرضه : إذا عطب الهدي وشارف على الموت فيلزمه ذبحه وغمس نعله في دمه وضرب صفحته بها ليعرفه الفقراء،ولا يأكل منه شيئاً هو ولا رفقته الذين معه سداً للذريعة. أما إذا تركه ولم يذكه حتى مات فإنه يضمنه لأنه حرم الفقراء منه. ولأنه فرط فيه فوجب عليه ضمانه،أما إذا لم يفرط في ذلك فلا شيء عليه.ودليل ذلك حديث ناجيه الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي،وقال :(إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس). وفي رواية:(لا تأكل لا أنت ولا أحد من أصحابك_أو قال_أهل رفقتك). قال الخطابي في معالم السنن:(إنما أمره أن يصبغ نعله في دمه ليعلم المار به أنه هدي فيتجنبه إذا لم يكن محتاجاً ولم يكن مضطراً.وحتى يعرفه الفقراء فيأكلونه. قال مالك ابن أنس:فإن أكل_أي الذي بعث معه الهدي_منها شيء كان عليه البدل. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:(وكان صلى الله عله وسلم إذا أهدى الإبل،قلدها وأشعرها،فيشق صفحة سنامها الأيمن يسيراً حتى يسل الدم.قال الشافعي:والإشعار في الصفحة اليمنى،كذلك أشعر النبي صلى الله عليه وسلم.وكان إذا بعث بهديه ، أمر رسوله إذا أشرف على عطب شيء منه أن ينحره،ثم يصبغ نعله في دمه،ثم يجعله على صفحته ولا يأكل منه هو،ولا أحد من رفقته،ثم يقسم لحمه،ومنعه من هذا الأكل سداً للذريعة فإنه لعله ربما قصر في حفظه ليشارف على العطب فينحره ويأكل منه،فإذا علم أنه لا يأكل منه شيئاً ، اجتهد في حفظه. وأباح صلى الله عليه وسلم لأمته أن يأكلوا من الهدي والأضحية،ويدخروا منها،وقد نهاهم أن يدخروا منها بعد ثلاث _ أي كانوا يأكلون منها لمدة ثلاث ليال فقط أما بعد ذلك فلا _ لدافة دفت عليهم ذلك العام من الناس _ من الضعفاء الذين وردوا عليهم من الأعراب _ فأحب أن يوسعوا عليهم.[ والحديث بكاملة عند مسلم ]. وكان قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام،ثم نسخ ذلك الأمر.فعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع:(أصلح هذا اللحم،قال:فأصلحته،فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة). وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كلوا وتزودوا). الاشتراك في الهدي : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة). وهذا دليل على جواز الاشتراك في الإبل البقر فالواحدة منها تجزيء عن سبعة،وسواء كان الهدي هدي تطوع أو واجباً كهدي التمتع والقران ،أما الشاة الواحدة فلا يجوز الاشتراك فيها وقد نقل النووي الإجماع على ذلك. قال ابن القيم رحمة الله:(وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة،وهدي القران بمنى،وكذلك كان ابن عمر يفعل،ولم ينحر هديه صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل،ولم ينحره قبل يوم العيد،ولا أحد من الصحابة البتة،ولم ينحره أيضاً إلا بعد طلوع الشمس،وبعد الرمي،فهي أربعة أمور مرتبة يوم النحر. وقت ذبح الهدي : الصحيح في ذلك أن وقت ذبح الهدي هو وقت ذبح الأضحية ، فيبدأ وقت الذبح من بعد صلاة العيد أو بقدرها لمن لم يصلي ، ويستمر إلى غروب شمس ليلة الثالث عشر من ذي الحجة ، وكلما بدر بذبحه كان أفضل وانفع للفقراء والمحتاجين ، فالأفضل ذبحه يوم العيد ، ثم اليوم الحادي عشر وهكذا ، وقد قال بعض أهل العلم بجواز ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم العيد ، وهذا قول ضعيف لا دليل عليه ، بل الدليل على عكس ذلك تماماً فإنه صلى الله عليه وسلم لم يذبح هديه قبل يوم العيد ، مع أن الحاجة ماسة وداعية إلى ذبحه ، لأنه قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديث ولولا أن معي الهدي لأحللت " [ رواه البخاري ومسلم ] ، وهذا الحديث دليل على أنه لا يجوز ذبح الهدي قبل يوم العيد وقبل الصلاة ، ولو كان ذلك جائزاً لذبحه النبي صلى الله عليه وسلم وحل من إحرامه ، فلما لم يفعل ذلك علم أن ذبح الهدي قبل صلاة العيد لا يجوز ولا يجزئ . مكان ذبح الهدي : لا يجوز ذبح هدي التمتع والقران إلا داخل الحرم ، ومن ذبحه خارج الحرم وجب عليه إبداله ، فإن لم يستطع صام عشرة أيام ، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وإن شاء صامها جميعاً في بلده جاز ذلك . وإن صام بعضها في الطريق جاز أيضاً . أما هدي المحصر فمحله أو داخل الحرم ، وكذلك الهدي الواجب بسبب فعل محظور أو ترك واجب في محله أو داخل الحرم . وبالنسبة لهدي التمتع والقران والهدي الواجب بسبب ترك واجب فمحله الحرم ولا يجوز ذبحه في غير الحرم ، وهنا ملاحظة مهمة جديرة بالذكر وهي أن بعض الحجاج يدفعون لبعض المؤسسات والشركات قيمة الهدي وتقوم هي بدورها بذبح الهدي في بلاد خارج الحرم ، في بلاد إسلامية أو غير إسلامية ثم تدفع وتوزع بين الفقراء هناك ، ولا شك أن هذا الأمر مخالف للشرع القويم ، مخالف لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالله تبارك وتعالى يقول : " هدياً بالغ الكعبة " [ البقرة ] ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذبح الهدي إلا في حرم مكة ، ولو كان جائزاً ذبحه في الحرم ، لذبح في المدينة لقربها منه ، بل قد أرسل الهدي وقلده وأشعره وأرسله إلى مكة ، وهو بالمدينة ، فدل ذلك على أن الهدي لا يذبح إلا في الحرم ، وهذا ما نص عليه العلماء رحمهم الله ، ولكن لو قدر أنه كان هناك كفاية للمحتاجين في مكة ، وبقي منه شيء يوزع خارج مكة ، فلا بد أن يذبح في مكة ثم يوزع خارج الحرم ولا بأس بذلك ، المهم أن يكون الذبح في الحرم . العيوب المانعة من الاجزاء : هي نفس العيوب المانعة من الاجزاء في الأضحية والعقيقة وهي كما يلي : وقبل أن أذكر العيوب أود أن أذكر الأحاديث المانعة من الإجزاء فمن الأحاديث ما يلي : 1_ في حديث البراء بن عازب وفيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الجذع من المعز ، وقال لأبي بردة : ( اذبحها ولا تصلح لغيره ) . 2_ وعن علي رضي الله عنه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب القرن والأذن " . 3_ وعن البراء بن عازب قال " قال رسول اله صلى الله عليه وسلم أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والكسير التي لا تنقي " . 4_حديث يزيد ذو مصر " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء " . 5_ عن أبي سعيد قال " اشتريت كبشاً أُضحي به فعدا الذئب فأخذ الألية ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ضح به " . وهذا دليل على أن العيب بعد التعيين لا يضر . 6_ وعن علي رضي الله عنه قال " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأُذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء ولا ثرماء " . 7_ وعن أبي أُمامة بن سهل قال " كناّ نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون " . 8_ وعن أبي سعيد قال " ضحىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشٍ أقرن فحيل ، يأكل في سواد ، ويمشي في سواد ، وينظر في سواد " . 9_ عن أبي رافع قال " ضحىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوأين خصيين ". 10_ وعن عائشة رضي الله عنها قالت " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجوأين " . وأبين الآن إن شاء الله تعالى العيوب المانعة من الاجزاء : 1_ العوراء البين عورها : وهي التي انحسفت عينها فإن كانت العين قائمة أجزأت ولو لم تبصر أو يكون في العين بياضاً بيناً يدل دلالة بينة على عورها . . 2_ العمياء : وهي أشد من العوراء فمن باب أولى ألاّ تجزئ ، وذكر النووي الإجماع على ذلك في الجموع ، ولأن العمياء لا تستطيع المشي مع رفيقاتها فلا تستطيع المشاركة في العلف . . 3_ مقطوعة اللسان : فلا تُجزيء لأنها ناقصة الخلقة ، وكذلك ما ذهب من لسانها مقدار كثير . . 4_ الجدعاء : وهي مقطوعة الأنف . . 5_ المريضة البين مرضها : لأن المرض يمنعها من الأكل ويفسد لحمها ويهزل جسمها . 6_ الجرباء : وهي من باب أولى بالنسبة للمريضة البين مرضها . 7_ العرجاء البين عرجها : وهي التي لا تقدر على المشي مع جنسها الصحيح إلى المراعي . 8_ الكسيرة : وهي من باب أولى ، ومقطوعة الرجل واليد والتي لا رجل لها ولا يد ، فكل ذلك لا يجزئ . 9_ العجفاء : وهي الهزيلة التي لا مخ فيها ، وهي الهزيلة التي لا تنقي ، لأنه لا لحم فيها وإنما هي عظام مجتمعة. 10_ مقطوعة الألية أو أكثرها : لأن ذلك أبلغ في الإخلال بالمقصود ، أماّ إذا ذهب أقل من النصف فتجزيء مع الكراهة إلاّ إذا تعيبت بعد التعيين ، لما جاء في حديث أبي سعيد السابق وهو الحديث رقم ( 5 ) في هذه النقطة ، أماّ إذا كانت بلا ألية من خلقتها فإنها تجزيء بلا كراهة . . 11_ المبشومة حتى تثلط : لأن البشم عارض خطير كالمرض البين . . 12_ ما كانت والدة : أي التي في حالة ولادة حتى تلد وتنجو لأن ذلك خطر قد يودي بحياتها . 13_ ما أصابها سبب الموت : كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، لأنها أولى بعدم الإجزاء من المريضة البين مرضها . . 14_ الجلالة : وهي التي تأكل العذرة ، حتىّ تحبس ويطيب لحمها . فائدة مهمة : ما ذكر سابقاً مماّ لا يُجزئ في الأضحية يشمل الهدي الواجب والتطوع ودم المتعة والقران والعقيقة ، فكل ما لا يُجزئ في الأضحية لا يُجزئ في ذبائح القرب . . العيوب المكروهة مع صحة الإجزاء بها : يقول ابن القيم رحمه الله " وكان من هديه صلى الله عليه وسلم اختيار الأضحية ، واستحسانها ، وسلامتها من العيوب ، ونهى _ نهي كراهة_ أن يضحي بها ، ومن هذه العيوب المكروهة ما يلي : 1_ عضباء الأذُن والقرن : وهي مقطوعة الأذُن ومكسورة القرن ، النصف فما زاد . 2_ المقابلة : وهي التي قُطع مقدم أذنها عرضاً . 3_ المدابرة : وهي التي قُطع مؤخر أذنها عرضاً . 4_ الشرقاء : التي شُقت أذنها طولاً . 5_ الخرقاء : التي خُرقت أذنها . 6_ المصفرة : التي قُطعت أذنها حتى يبدو صماخها . 7_ المستأصلة : التي استأصل قرنها من أصله . 8_ البخقاء : التي بُخقت عينها فذهب بصرها وبقيت عينها بحالها . 9_ المشيعة : وهي التي لا تتبع الغنم إلاّ بمن يشيعها فيسوقها لتلحق ، وذلك لضعفها وعجفها . 10_ البتراء : من الإبل والبقر والمعز وهي التي قطع نصف ذنبها فأكثر . 11_ ما قُطع ذكره وأنثياه معاً . . 12_ مقطوع الذكر فقط . . 13_ ما سقط بعض أسنانه ، ولو كانت الثنايا أو الرباعيات ، فإن فقد بأصل الخلقة لم تكره . 14_ ما قُطع شيء من حلمات ثديها : فإن فقد بأصل الخلقة لم تكره ، وإن توقف لبنها مع سلامة ثديها فلا بأس . . فائدة مهمة : ما كان ناقصاً بأصل الخلقة فيجزئ ما عدا المذكور في حديث البراء بن عازب ، فلا يُجزئ لورود النص فيه . فيُجزئ ما يلي : 1_ الجماء : التي لم يُخلق لها قرن . 2_ الصمعاء : صغيرة الأذن . 3_ البتراء : التي لا ذنب لها خلقة . 4_ التي لا ألية لها بأصل الخلقة . 5_ الخصي : لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحىّ به ، ولأن الإخصاء يزيد في سمنه وطيب لحمه . فائدة : لا يمنع الإجزاء أي عيب حدث أثناء الذبح ، كأن أصابت الشفرة _ آلة الذبح _ عين المذبوح فقلعتها ، أو تعاصى فألقاه الذابح بعنف وقوة ، فكسر رجله أو غلاف قرنه ونحوه . . وقال ابن قدامة " إذا عالج ذبحها فقلعت السكين عينها أجزأت ، استحساناً . ولنا أنه عيب أحدثه بها قبل الذبح ، فلم تجزئه كما لو كان قبل معالجة الذبح " . وأماّ إذا ذبحها فوجد فيها مرضاً ولم يعلم به إلاّ بعد الذبح ،فقال ابن حزم رحمه الله " إن لم يكن اشترط السلامة فله الرجوع بما بين قيمتها حيّة صحيحة وبين قيمتها معيبة ، أما إن كان اشترط السلامة ثم ظهرت بعد الذبح معيبة فيضمنها البائع ويسترد المشتري الثمن " . تقسيم لحم الهدي : إن كان الهدي هدي شكران وهو ما يجب على المتمتع والقارن فالسنة أن يقسم ثلاثة أقسام ، قسم يأكله ، وقسم يهديه ، وقسم يتصدق به على الفقراء والمحتاجين ، ولا بد من التصدق فإن لم يتصدق وجب عليه شراء ما يكفي فقير ويعطيه إياه لقوله تعالى : " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " . وإن كان الهدي عن ترك واجب أو فعل محظور ، فلا يأكل منه شيئاً بل يجعله كله للفقراء . طريقة ذبح الهدي : إن كان الهدي إبلاً فالسنة أن تنحر وهي قائمة معقولة يدها اليسرى ، لقول جابر رضي الله عنه قال : " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها " ، وعن زياد بن جبير قال : " رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ، فنحرها ، فقال : ابعثها قياماً مقيدة ، سنة محمد صلى الله عليه وسلم " ، قال ابن دقيق العيد : فيه دليل على استحباب نحر الإبل من قيام ، ويشير إليه قوله تعالى : " فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها " ، وقيل معنى صواف : أي قائمة على ثلاثة قوائم . ووجبت جنوبها : أي سقطت من قيام . الخاتمة كانت تلك جملة من أحكام الهدي ، سهلة ميسرة ، مختصرة بسيطة ، مستنبطة من بطون أمهات الكتب المطولة ، جمعتها ، وأضفت عليها ما تدعو الحاجة إليه ، مما يتطلبه الوضع الحاضر ، في ظل غياب طلب العلم ، والإقبال على قراءة ما لا ينفع من الكتب ، فآثرت أن أكتب موضوعاً مختصراً ، وسهلاً للقارئ الكريم ، ليجد مبتغاه فيه ، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم ، أن يجعل التوفيق حليفي ، والصواب طريقي ، وأن يجنبني وجميع المسلمين ، مضلات الفتن ، وسوء المحن ، وأن يرد عنا كيد الشيطان ، وتوهيمه ، ونفخه ونفثه ، إنه جواد كريم ، وبالإجابة جدير . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .