اقترب موعد الحج لهذا العام، واقتربت معه الكثير من الملفات التي لا تُفتح إلا في الحج، ولا يتمّ مناقشتها إلا أثناء الموسم، ولعل من أهمها ما يتعلق ببعض الفتاوى، و مستجدّات الحج ونوازله الفقهية كأحكام الرمي قبل الزوال، وبعض محظورات الإحرام المعاصرة، والتقديم والتأخير في ترتيب بعض المناسك وغيرها من المسائل التي تزداد مع تطور الوسائل وتشابك الحياة المعاصرة. وكما نلحظ التطوّر الكبير في خدمة الحجيج، واليُسر في بلوغ الحج والوصول إليه مهما بعُدت الشُقَّة. نلحظ كذلك التزايد المطّرد لأعداد الحجيج، وما ينجم عنه من تزاحم عنيف ومضايقة شديدة أثناء تأدية المناسك. مما أدّى إلى تغيّر اجتهاد كثير من العلماء والمفتين في كثير من المسائل، ومخالفة المشهور من المذاهب تخفيفاً على الناس من الضيق والحرج، والعمل بفقه التيسير في أحكام الحج ونوازله المستجدّة. وكم سيحصل للناس من شدّه وكرب، وربما موت وهلاك لو تمسّك أولئك الفقهاء بأقوال أئمتهم، أو أفتَوْا بها دون اعتبار لتغير الأحوال والظروف واختلاف الأزمنة والمجتمعات. فرَمْي الجمار في أيام التشريق يبدأ من زوال الشمس حتى الغروب، وعلى رأي الجمهور من الفقهاء لا يجزئ الرمي بعد الغروب.. ومع ذلك اختار كثير من المحققين وجِهات الافتاء، جواز الرمي ليلاً مراعاة للسّعة والتيسير على الحجاج من الشدّة والزحام. ولعل الداعي يتأكد لمعاودة النظر في حكم الرمي قبل الزوال وخصوصاً للمتعجّل في اليوم الثاني من أيام التشريق؛ لما ترتب على الرمي بعد الزوال في السنوات الماضية من ضيق وحرج شديدين. ولا يخفى أن القاعدة في أعمال الحج كما أنها قائمة على العمل بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في "خذوا عني مناسككم"، فإنها قائمة أيضاً على رفع الحرج واليسر كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "افعل ولا حرج"، وقد أفتى بالجواز في هذه المسالة بعض الأئمة من التابعين، وهو مذهب الأحناف وقول بعض الفقهاء المعاصرين. إن فقه التيسير لا يعني المروق من الدين، أو الانحلال والتفريط في العمل بأحكام الشرع الحنيف، بل هو منهج علمٍ، ومدرسة فقهٍ، وطريق فُتيا وحياةٍ أمثل للمسلمين. فالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين إذا لم يُصادم نصاً صريحاً أو إجماعاً معتَبَراً، وكان متفقاً مع أصول الشرع الكلية، ومقاصده العامة مراعياً تبدّل الأزمان والأماكن وتغيّر الظروف والأحوال؛ فهذا مما ينبغي العمل به، وجريان الفُتْيا عليه، فأزمان المحن والشدائد ليست كأزمان السعة والاستقرار، وأحوال الخائفين ليست كأحوال الآمنين، ومن وقع في ضرورةٍ أو حاجةٍ ليس حاله كحال من هو في السّعة والطمأنينة. وهذا ما كان معروفاً من هديه -صلى الله عليه وسلم- ووصيته المتكررة لأصحابه:" يسّرا ولا تُعَسّرا وبشّرا ولا تُنفّرا": لهذا جاء في وصفه كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) يقول عمر بن إسحاق: " لمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر لمن سبقني منهم فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشدّداً منهم" وقال سفيان بن عيينة عن معمر: "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من الثقة فأما التشديد فيحسنه كلّ أحد". والقاعدة الكبرى في الباب تنص على أن المشقة تجلب التيسير .. فهل مشقة الحج المعاصر تجلب التيسير في فقهنا المعاصر؟!