كلمة معالي الشيخ د / صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله ورعاه - إمام وخطيب المسجد الحرام ، وعضو مجلس الشورى
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده : فإن الأجيال في كل عصر بعامة ؛ وفي هذا العصر بخاصة بحاجة ماسة إلى التعرف على الشخصيات البارزة في مجتمعهم ، المعاشة في واقعهم ، الشخصيات التي يقوم عليها - بإذن الله - البناء ، ويرتسم بسيرتها المنهج . يحتاج النشء إلى التعرف عن قرب على هؤلاء الرجال الذين يحملون المسئولية بقوة واقتدار ، وكفاءة واصطبار ، يحملون على عواتقهم أمانة الحفاظ على دين الله ، وتربية عباد الله في جمع عجيب بين الحب لهم والغيرة عليهم منطلقهم في ذلك الدين بكل شموله الإيماني والفكري الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي ، دين الدنيا والآخرة جميعا ، الإيمان والعمل الصالح معا ؛ إنهم علماء المساجد والمنابر ، وشيوخ الميادين والعامة . وصاحب السماحة الإمام العالم العلامة الحبر والبحر والدنا وشيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله وأمد في عمره على طاعته أنموذج من هؤلاء ، علم يتسنم الذروة في الرجال ، ويعلو القمة في الأفذاذ دينا وورعا وعلما وفضلا وكرما وجودا ، ولا أزكي على الله أحدا ، وما شهدنا إلا بما علمنا وعلم البواطن موكول إلى الله وحده فهو أعلم بمن اتقى ، وهو أعلم بمن هو أهدى سبيلا . لقد عاش الشيخ حياة علمية دعوية متوازنة يتوافق فيها الفكر مع العمل ، ويقترن فيها العلم بالسلوك ، حياة تجلي في توازنها الفكر الثاقب ، والعطاء النير ، والإسهام العميق ، والمدد الغزير في ميادين الحياة كافة ، امتداد في العلم والدعوة والتربية والتوجيه ، شمل أصقاعا عريضة من العالم الفسيح من خلال أثره الفكري المقروء والمسموع ومشاركاته الميدانية في المؤتمرات والمجامع والحلقات والمنابر والمجالس واللجان ، رئاسة وأستاذية وعضوية ، إنه رجل شاء الله أن يقع على كاهله ، أعباء جسام في الدعوة والإرشاد والبحث العلمي والإفتاء ، وخدمة قضايا المسلمين كافة . إن العطاء والتوازن والتثبت في حياة الشيخ وسيرته - علما وتعليما ودعوة - جلي بارز من خلال الرصد للقنوات التي صبغت عطاء الشيخ وأطرت أثره في إطار متميز ، ولعل ذلك يتبين من هذه القنوات الثلاث الكبرى : الأولى : الإيمان العميق ، والعقيدة الراسخة في الله ورسوله وكتابه ودين الإسلام ، وأثر ذلك في سيرته ومسيرته ، سلوكا حسنا ، وورعا وزهدا ، وصدقا في اللهجة ، وحبا للناس ، وثقة متبادلة وعطفا ورقة ، وكرما وبذلا. الثانية : التأصيل العلمي المبني على أصلي الدين : الكتاب والسنة فالشيخ يحفظ القرآن كله ويتدبره ، ويحفظ الكثير من السنة ويفقهها ، فهو دائم التلاوة للقرآن بتدبر ، قدير في الاستحضار للسنة بتفهم ، سريع الاستشهاد بها ، ملتزم للاسترشاد بنورهما ، مع دعوته الظاهرة في كل مجلس وناد للأخذ بهما والرجوع إليهما والحث على مداومة قراءتهما ومطالعتهما ، وحفظ المتيسر منهما . الثالثة : روح الاجتهاد والاستنباط المنبثقة من الفقه المتين والدارسة الواعية والفهم العميق والفكر المستنير مع الإحاطة البينة بمقاصد الشريعة وأصولها وقواعدها وضوابطها . ومن يسبر ذلك ويرصده في حياة هذا الإمام يدرك وضوح الطريق عنده ، وانسجامه مع نفسه ، ومن حوله في توافق سوي وسيرة معتدلة ونهج قويم . هذا هو الشيخ الذي يزكو شكره ، ويعلو عند أهل العصر ذكره ، ويعني الأمة أمره . الصنعية عنده واقعة موقعها ، والفضيلة إليه سالكة طريقها ، إن أوجز في الموعظة كان شافيا ، وإن أطنب كان مذكرا ، وإن نبه إلى ملاحظة فهو المؤدب المؤدب ، وإن أسهم في التوجيه فهو المفهم ، واضح البيان ، صادق الخبر ، بحر العلوم ، نزهة المتوسمين ، خصيم الباطل ، نصير الحق ، سراج يستضيء به السالكون ؛ لين العريكة ، أليف مألوف ، يرفق في أعين الناس صغر الدنيا في عينه ، لا يتطلع إلى ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد ، متحكم في سلطان شهوته ، لا تدعوه ريبة ولا يستخفه هوى خارج من سلطان الجهالة ، لا يقدم إلا على غلبة ظن في منفعة ، لا يرى إلا متواضعا ، وإذا جد الجد فهو القوي الغيور ، لا يشارك في مراء ، ولا يلوم إذا وجد للعذر سبيلا ، لم ير متبرما ، ولا متسخطا ولا شاكيا ، ولا متشهيا ، لا يخص نفسه باهتمام دون إخوانه ، واسع الشفاعة ، طويل يد العون . هذه إلماحات من سيرته ، وإشارات إلى ظاهر حاله ، والله ربنا وربه ، وهو حسبنا وحسبه . فعليك أيها النبيل بالأخذ بمجامع المحاسن إن أطقت ، إن عجزت ، فأخذ القليل خير من ترك الجميع ؛ ولله الحجة على خلقه أجمعين . حفظ الله شيخنا ، وألبسه لباس الصحة والعافية ، وأبقاه ذخرا للإسلام وأهله .