الأدب والفن والثقافة وقاية من التطرف

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : الدكتور حسان المالح | المصدر : hayatnafs.com

مما لاشك فيه أن ظاهرة التطرف والعنف لها أسبابها العديدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية .. والنفسية أيضاً . ولاتوجد حلول كاملة ونهائية لمثل هذه الظاهرات .. ولكن يمكن السعي إلى التخفيف منها والسيطرة عليها وتعديلها ..
ومن المعروف أن الاهتمامات الأدبية والفنية والثقافية تدل على وجود صفات خاصة في الشخصية .. ومنها حساسية عامة وعواطف متميزة وتذوق للجمال واهتمام بالتفكير والمنطق..  وكل ذلك يتعارض مع العنف والشر وإيذاء الآخرين .. وبالتالي فإن تنمية هذه الاهتمامات والذي يرتبط بجوانب أساسية في تكوين الشخصية ، يمكن له أن يساهم في الوقاية من التطرف ..
ويبدو أن النزعات العدوانية والعنفية التي يمتلكها البشر يمكن تهذيبها وتصعيدها والسيطرة عليها بدرجات متفاوتة .. ويتعلم الطفل الصغير أن يضبط غضبه تجاه إخوته وأخواته ، وأن يوجه طاقاته وانفعالاته المتنوعة نحو اللعب والقفز وتعلم المهارات المتنوعة .. وهو يتعلم من خلال التربية ومن مسيرة حياته بمراحلها المتتالية كيف يضبط نفسه بشكل ناجح ، وكيف يوجه طاقاته وانفعالاته ورغباته البدائية نحو أهداف ورغبات إيجابية ومفيدة له وللآخرين .
وتمارس الجهات التربوية والاجتماعية بدءاً بالأسرة والمدرسة ثم المجتمع الكبير .. جهوداً كبيرة ومستمرة في " تأهيل الطفل " ومحاولة تعديل سلوكه وتصرفاته ورغباته كي تتلاءم مع البيئة المحيطة وعاداتها وتقاليدها وأفكارها ..
وبالطبع تلعب الثقافة والفنون والآداب دوراً اجتماعياً وتربوياً هاماً في جميع المجتمعات .. مما يعطي هذه المجتمعات تميزاً وتماسكاً وخصوصية .
ومن الممكن توجيه الثقافة والفنون والآداب لما يخدم مجتمعاً معيناً ووفقاً لمصالحه وتركيبته .. ولكن تبقى طبيعة الفكر والفن والأدب ذات استقلالية نسبية عن طبيعة المجتمع وظروفه وتكوينه .. وتبقى في جوهرها أكثر انطلاقاً وحرية وذات بعد إنساني عام .. ويقال أن هتلر كان يستمتع بالسماع لموسيقا " فاغنر " الكلاسيكية ، وأنه اعتبرها حماسية وتدفع للنشاط والعمل والحرب ، وقد أوصى بتعميمها والاستماع إليها .. كما أن الجيش الأمريكي استعمل هذه الموسيقا في طائراته العامودية التي كانت تبثها من خلال مكبرات الصوت أثناء قصف بعض القرى في فييتنام وكوريا .. وفي ذلك انحراف عن طبيعة الموسيقا وشذوذاً .. ولايعارض ذلك القاعدة العامة في أن الموسيقا والفنون والأدب والثقافة الإنسانية ترقى بالإنسان وتجعله أكثر إنسانية في تفكيره وعواطفه وسلوكه ، وتجعله يتجاوز محيطه المحدود إلى آفاق أوسع .. ولاسيما في عصرنا الحاضر عصر المدنية الحديثة والتقنية المتطورة ، والذي قرب المسافات وأبعد الحدود وكسر كثيراً من الحواجز بين البشر .. ولم يعد الفرد بعيداً أو منعزلاً عما يجري حوله في جميع أطراف الأرض .
وإذا تحدثنا عن أساسيات الفنون المختلفة نجد مثلاً أن الرسم  يهتم بالجمال والألوان والأشكال المتناسقة المعبرة في مختلف تكويناته وصوره .. وهو يهذب النفس ويريحها ويرتقي بها .. ويمكنك أن تشعر بالروعة والدهشة الجميلة وأن تحلق عالياً أمام لوحة فنية تتذوقها .. وهي تستثير في الإنسان روحه وعواطفه وعقله وتعطيه مشاعر إيجابية رائعة ..
كما يمكنك أن تتذوق تمثالاً ونحتاً معبراً في الآثار وفي غيرها .. وبعضهم يستمتع بقصة أدبية أو مسرحية أو قصيدة أو كلمة معبرة ويأخذه ذلك إلى آفاق رائعة ومتعة حقيقية ولذة روحية وعقلية خاصة .
وفي الثقافة الإنسانية العامة يشعر المتابع لموضوع معين بلذة فكرية ومعنوية وأن عقله يزداد اتساعاً وعمقاً وخبرة وغنى ..
ولابد من القول أن هذه التجارب المفيدة التي تصقل الشخصية وتسمو بها ، يمكن أن تنتج عن الاهتمام والتعامل مع أنواع مختلفة من الفنون والآداب والثقافة .. وبالطبع هناك فنون هابطة تهبط بالإنسان ، وهناك أدب رديء لاينمي ذوقاً ولايلهم قيماً وإبداعات ، وهناك ثقافة ضحلة لاتفتح آفاقاً ولا تنير طريقاً ..
ومن النواحي النفسية العميقة لابد من التأكيد أن الإنسان يحمل معه صفات ورغبات واستعدادات متنوعة ومتناقضة .. والعدوانية وإيذاء الغير يقابلها التسامح والرحمة وتقديم العون للآخر .. وهناك مشاعر رقيقة وعطاء وحب وجمال.. وهناك القسوة والغلظة والتهجم والبذاءة .. وقد ارتبطت بعض المشاعر والسلوكيات بالذكورة والأنوثة تاريخياً .. وبعضها يتغير ويختلط ويتعدل .. والذكر نفسه يحمل صفات واستعدادات ذكورية وأنوثية أيضاً .. وبنسب متفاوتة ، وكذلك المرأة . وقد ارتبط العنف والعدوانية والتطرف بالرجل والذكر .. ولايعني ذلك أن المرأة كائن رقيق ناعم لايؤذي الآخرين أبداً.. وهناك عدوانية غير مباشرة أو سلبية وهناك عدوانية مباشرة متطرفة . كما أن العصر الحديث قد أحدث تغيرات في صفات المرأة وسلوكياتها وهناك المرأة الرياضية والمغامرة والعنيفة والمجرمة أيضاً ..
وهكذا نجد أن الاهتمامات الفنية والأدبية والثقافية لايمكنها أن ترتبط بالأنوثة أو الميوعة أو الضعف مقارنة مع الرجولة والقوة والحرب .. وهناك رقصات رجولية حربية يستعمل فيها السلاح .. وهناك أناشيد حماسية وقرع للطبول وموسيقا عسكرية .. وغير ذلك .
وفي التحليل الأخير لابد للفرد من التوازن بين مكوناته وصراعاته الداخلية ورغباته المتناقضة وسلوكياته.. والإنسان المتوازن المتكامل قوي وشديد عند الحاجة ، ورقيق وناعم في مواقف أخرى تستدعي تلك المشاعر والسلوكيات. وإذا كانت لديه رغبات وسلوكيات عدوانية عنيفة ومتطرفة (لأسباب متنوعة ) ، فإنه من المفيد له أن يسعى إلى تعديل مابداخله من خلال إثارة المشاعر الرقيقة والاهتمام بها وتنميتها .. أي أن " قسوة القلب يمكن لها أن تلين " .. وتأتي الفنون والآداب والثقافة والاهتمام بكل ماهو جميل وروحي وسام عاملاً هاماً وأساسياً في تنمية الفرد والمجتمع .
 
                         " نشر هذا المقال في مجلة شبابلك العدد 20 شهر كانون الأول 2006 ، ويعاد نشره هنا "