لماذا نفضل مصطلح الطب النفسي وليس الطب العقلي ؟
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
الدكتور حسان المالح
| المصدر :
hayatnafs.com
مما لاشك فيه أن استعمال مصطلح معين يحمل معه معان ودلالات خاصة لها تأثيراتها وأبعادها المتنوعة .. وينطبق ذلك على كل المجالات التي تستعمل فيها مصطلحات لغوية . وفي الطب النفسي اليوم نفضل في بلادنا العربية عدم استعمال مصطلح الطب العقلي ، أو المرض العقلي ، أو الصحة العقلية .. وبدلاً عنها نستعمل الطب النفسي والاضطراب النفسي والصحة النفسية ..
ويعود ذلك إلى عدة أمور :
- حدثت تطورات هامة خلال النصف الأخير من القرن الماضي في ميدان الطب النفسي مما أدى إلى تأكيد استقلال هذا الفرع من فروع الطب وترسيخ وجوده منفصلاً أكثر عن طب الأعصاب أو طب الأمراض العصبية المرتبط أساساً بأمراض الدماغ مثل الصرع والخرف والجلطات الدماغية و النزف الدماغي وتلف الدماغ وغير ذلك .. وهذا الاستقلال نشأ تدريجياً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ولايزال التداخل والخلط بين المصطلحات والمصطلحات المرتبطة بها شائعاً حتى في الدول المتقدمة .. لكن دون تأثيرات سلبية واضحة وبشكل متفاوت بين تلك الدول . حيث يستعمل مصطلح الطب النفسي ( Psychiatry ) كميدان علاجي طبي وهو يعني حرفياً ( النفس =Psych ، طب أو مداواة = iatry ) مداواة النفس أو طب النفس ، كما يستعمل مصطلح الاضطراب العقلي ( Mental Disorder ) في تصنيف الأمراض الطبية وغير ذلك ، ومصطلح الصحة العقلية ( Mental Health ) في عدد من المجالات . ويبدو أن التطور الاجتماعي والثقافي وتطور العلوم النفسية العامة في تلك الدول ، وتوسع ميدان الطب النفسي والعلوم المرتبطة به لتشمل مختلف نواحي الحياة المعاصرة .. كل ذلك إضافة إلى المفاهيم الواقعية المتطورة المتعلقة بماهية الاضطراب النفسي ( النظرة العضوية - النفسية - الاجتماعية )، وحقوق المريض ، وتطور الخدمات المتوفرة العلاجية والداعمة ، قد ساهم بتخفيف الوصمة السلبية المرتبطة بالمرض العقلي أو النفسي ، وأصبح المرض النفسي أكثر فهماً وأكثر قبولاً من قبل المجتمع والأسرة والقانون والطب والإعلام والفن والأدب . وأصبح الذهاب إلى الطبيب النفسي أو المعالج النفسي أمراً عادياً ويومياً ..
- يرتبط مصطلح المرض العقلي في اللغة العربية باضطراب العقل أو زواله .. والجنون هو فقدان العقل ويترتب عليه زوال التكاليف الدينية والقانونية ، كما يترتب عليه نتائج سلبية أسرية واجتماعية متنوعة . والمصطلح يشير بذاته إلى حالة غياب للمنطق والقدرات العقلية غياباً كاملاً ونهائياً .. وهو مصطلح وصفي لايقبل النسبية .. وهذا التوصيف لايطابق حقيقة بعض الأمراض النفسية الشديدة حيث تحدث تغيرات عقلية وغياب للمنطق محدد وليس شاملاً أو دائماً ..
ولايوجد في الطب النفسي حالة غياب كامل للعقل إلا في حالات محددة مثل التهاب الدماغ الحاد أو التسمم الحاد بمواد كيميائية أو غيرها من الأسباب العضوية التي تؤثر على عمل الدماغ ووظائفه بشكل واضح وتسمى حالات اختلاط الذهن الحادة ..وبعضها يشفى إذا تلقى العلاج اللازم وبعضها يؤدي إلى الوفاة وبعضها يؤدي إلى آثار نفسية وعقلية وعصبية طويلة الأمد .
وأما الزوال الكامل للملكات العقلية وبشكل دائم فهو يحدث في حالات الخرف المتقدمة حيث تتدهور المهارات العقلية بالتدريج لتصل بالإنسان إلى حالة خاصة من تلف الدماغ وضموره ومن ثم إلى الوفاة .
وفي حالات التخلف العقلي الشديدة والتي تشكل نسبة صغيرة من حالات نقص الذكاء وبطء التعلم عند الأطفال ، يمكننا القول أن هناك فقداناً كاملاً أو شبه كامل للعقل والقدرات العقلية يحدث بشكل مبكر في الحياة ويترافق مع عدد من الأعراض المرضية الأخرى الجسمية والعصبية وهو يدل على تلف واضح ومبكر في الدماغ ويمكن أن يترافق مع الموت المبكر .
ومن خلال ماسبق نجد أن حالات زوال العقل بشكل كامل هي حالات قليلة .. ومن الخطأ إطلاق مصطلح الجنون على جميع الحالات النفسية التي لايحدث فيها زوال كامل للعقل ..
والحقيقة أن عدد التشخيصات المرضية في الطب النفسي المعاصر تصل إلى مئة وخمسين تشخيصاً .. وهي تتنوع من القلق والمخاوف المرضية والوساوس القهرية والأعراض الجسمية النفسية واضطرابات التكيف إلى الاكتئاب بدرجاته المختلفة واضطرابات الشخصية والاضطرابات الجنسية واضطرابات الطعام وغيرها .. كما يتدخل الطب النفسي في مشكلات الزواج والطلاق وفي الاستشارات والمشكلات المهنية والاجتماعية المختلفة .
وهذه الاضطرابات تشكل في نسب انتشارها أكثر من 80 بالمئة من الحالات النفسية المنتشرة في المجتمع وهي تعتبر حالات غير عقلية ، حيث لاتترافق مع أعراض الذهان مثل الهلوسة والهذيان وتفكك المنطق وغير ذلك .. وأما الاضطرابات النفسية الشديدة والتي ترافقها أعراض ذهانية وعقلية مثل الفصام والهوس ( الاضطراب المزاجي ثنائي القطب ) والزور ( الاضطراب الهذياني ) والاضطراب الذهاني الحاد المؤقت وبعض الحالات الإدمانية وغيرها .. فهي يمكن وصفها بأنها عقلية أو نفسية شديدة ، ولكنها في الوقت الحاضر أصبحت قابلة للعلاج والتحسن ولها علاجات فعالة مفيدة ، وبعضها يشفى ، وبعضها يشفى لفترة ثم تنتكس الحالة ، وبعضها الآخر مزمن ومعطل . وهذه الاضطربات أصبحت مفهومة أكثر من النواحي الكيميائية والعلاجية وهي لاتبتعد كثيراً عن الأمراض الطبية الأخرى مثل أمراض الغدد والسكري والتهاب المفاصل الرثوي وغيره .. وهذه النظرة المتوازنة إلى هذه الاضطرابات الشديدة يمكن لها أن تعدل من النظرات السلبية الكثيرة والأوهام المرتبطة بها .
- إن مصطلح نفس ونفسي أصبح أكثر قبولاً واستعمالاً في مجتمعاتنا ولغتنا اليومية .. وكذلك مصطلح الاكتئاب والقلق .. وفي ذلك تطور إيجابي مقبول وخطوة نحو الأمام واقعية وعملية تنحو نحو تقبل الاضطراب النفسي والنظر إليه بشكل عملي ومنطقي وطبي ومن ثم السعي إلى دراسته وتفهمه وعلاجه ..ويعود ذلك إلى التطور العام الذي شهدته مجتمعاتنا ، وإلى جهود متراكمة من قبل الاختصاصيين، وإلى وسائل الإعلام المختلفة ، وأيضاً إلى ازدياد عدد العاملين في المهن النفسية والعلاجية وتطور الخدمات النفسية بشكل عام ..
- ارتبط الجنون تاريخياً بأنه غير قابل للعلاج ولاشفاء له .. وارتبط أيضاً بالسلوك الشاذ والغريب وغير الأخلاقي ، وأيضاً بالعنف . كما ارتبط بدخول الجني إلى الأنسي أو بدخول الأرواح الشريرة ، أو بتأثير العين والحسد وغيرها من الغيبيات ومن ثم ارتبط بعلاجات مثل الضرب والتعذيب والكي واستعمال البخور والتمائم وأساليب علاجية عجائبية شعبية وفيها مفاهيم خاطئة وبعيدة عن جوهر الدين . وفي الوقت الحالي ارتبطت الأمراض النفسية بشكل خاطئ بالبعد عن التدين وضعف الوازع الديني حيث لجأ بعض المتحمسين إلى اعتبار الدين وطقوسه علاجاً من جميع الأمراض الاجتماعية والنفسية وحتى الطبية ؟ وفي ذلك نظرة خاطئة إلى جوهر التدين ووظيفته .. ومما لاشك فيه أن التدين ( من حيث الإيمان والشعائر التعبدية ) يمكن له أن يخفف من القلق ومن أعراض الاكتئاب واليأس والقنوط ومن الانتحار ومن السلوك الإدماني ومن الانحرافات الجنسية وغيرها .. ولكنه لايكفي في كثير من الحالات العيادية .. ولا بد من التأكيد أن العلاج الطبي لايتعارض مع الإيمان ومع الأخذ بالأسباب المعروفة للأمراض على أنواعها ومنها الاضطرابات النفسية .. وذلك في سبيل العلاج والتداوي . والدعاء والرقية سنة مفيدة تدعم العلاج الطبي ولاتعارضه أو تنفيه .
- يرتبط مصطلح الجنون ومجنون بما يمكن تسميته " الحملة الدعائية السلبية والهجومية " على كل مايوصف به . وهو ليس مصطلحاً محايداً في اللغة العربية ( وكذلك في الإنكليزية Insane - Insanity ولم يعد يستعمل في لغة الطب النفسي ) ولذلك فهو لايصلح لوصف طبي أو مرضي في العصر الحديث.. وكذلك مصطلح عقلي أو مرض العقل أو الطب العقلي .. على اعتبار أن العقل نقيضه الجنون .
- يرتبط مصطلح الأمراض العقلية أو المرض العقلي بكثير من المعاني السلبية التي يمكن أن تحملها هذه المصطلحات في ثقافتنا المعاصرة .. وليس سهلاً تحديد أسباب ذلك أو إحصاء جميع الأسباب الممكنة التاريخية وغيرها والتي أدت أو تؤدي إلى هذه الحال .. والكلمة بذاتها توحي بالخوف والرعب والنفور وغير ذلك من المعاني السلبية .. وهناك عديد من المصطلحات المستخدمة في الميدان الطبي لها مثل هذه المعاني السلبية غير الحيادية وهي شائعة ولاتزال تستخدم في الوقت الحاضر ولكنها غير مناسبة .. مثل مرض الصرع والسرطان والذئبة الحمامية وغيرها .. وهناك دعوات مستمرة لتعديل مصطلح معين وتغييره ( في مختلف دول العالم ) بما لايؤثر سلبياً على حياة المريض المصاب أو على من حوله من أهل أو أصدقاء، أو على من يقوم بتشخيصه وعلاجه من أشخاص ومؤسسات .
- وأخيراً .. يمكننا القول من خلال ماسبق أن مصطلح الطب النفسي في الوقت الحالي يمكن اعتباره مقبولاً ومفيداً ولايحمل في ثناياه معان سلبية أو دعائية غير مقبولة .. وهو بديل موفق عن مصطلح الطب العقلي أو الطب العصبي .. ولابد من الجهود المستمرة من قبل الاختصاصيين أنفسهم والمؤسسات التعليمية الطبية والتربوية والإعلامية ، والتي تهدف إلى ترسيخ المفهوم الإيجابي والفعال والمفيد لكل مايتعلق بقضايا الطب النفسي كي يستطيع هذا الميدان الطبي أن يقوم بدوره المناسب في خدمة المجتمع والفرد دون عوائق ونظرات سلبية ومخاوف لاتتناسب مع هذا الميدان الحيوي الهام والذي يمكن له أن يتدخل إيجابياً في جميع شؤون حياتنا المعاصرة .