حكايات عن الإكتئاب
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
الدكتور عادل صادق
| المصدر :
www.hayatnafs.com
إذا كان الشيب يزحف على رأس الإنسان بفعل الأهوال التى يصادفها فى حياته ، فإنني أعتقد أن بعض هذه الشعيرات البيضاء فى رأسي ترجع إلى هول ما سمعت من مرضى الإكتئاب .
***
.. فى حياتي الشخصية أشياء سارة .. تأثيرها يكون على قلبي فى صورة نبضات سريعة راقصة .. وكذلك هناك أشياء غير سارة .. تأثيرها يكون على قلبي في صورة " وجع " .
وفي كل مرة أجلس فيها إلى مريض الإكتئاب أشعر " بوجع " في قلبي .
***
…
لو كان الإكتئاب رجلاً لقتلته .
.. أكره مرض الإكتئاب بنفس القدر الذي أحب به مريض الإكتئاب
…
فهو أرق الناس وأصفاهم وأصدقهم .
…
أكره مرض الإكتئاب ، ولكني أعترف بأن له فضلاً عليً
…
لقد غير مسار حياتي .
***
…
إنه مرض الأذكياء والمثقفين
…
. وكذلك فهو مرض هؤلاء الذين لم يعرف الشر طريقه إلى قلوبهم
…
…
.. رغم أن الإكتئاب نقيض الحياة ، فإنني أحياناً أنسى أنني طبيب
…
.. وأعجب كيف يكون للحياة معنى بدون الإكتئاب
…
.
***
…
من يقول لي أنه لم يشعر قط بالإكتئاب
……
. إنه لم يشعر يوماً بوخز الحزن : أقول له إنني أتشكك في آدميتك .
***
…
العجيب أن حياة الإنسان تبدأ بالبكاء وتنتهي أيضاً بالبكاء
…
.. فهل الإكتئاب قدر محتوم كتب على الإنسان
…
.. !!
***
…
. عزيزي الطبيب حديث التخرج : إذا لم تقرأ جيداً عن الإكتئاب : أعراضه
…
. علاجه
…
. إذا لم تبحث عن علامات الإكتئاب فى كل مريض يدخل عيادتك ، فإنني أتنبأ لك بأنك ستكون طبيباً فاشلاً ..
***
…
فهم مرض الإكتئاب ليس حكراً على الأطباء
…
. هناك العديد من الأدباء المبدعين ، الذين إستطاعوا أن يصفوا بعمق خلجات النفس المكتئبة
…
..
***
…
.. من لا يدمع قلبه حين يعايش مريض الإكتئاب ، فإن قلبه من حجر ، أو أشد قسوة
…
***
…
الفنان الصادق له نفس أميل إلى الإحساس بالإكتئاب
…
النغم واللون والكلمة
…
ما هي إلا هدير نفوس أفعمها الإكتئاب .
***
…
. لم أر فى حياتي إنساناً شاكراً وممتناً مثل مريض الإكتئاب ، الذي من الله عليه بالشفاء
……
..
****
…
. قتلت الأم وليدها الرضيع
…
. أتعرفون لماذا قتلته
………
؟
قتلته لكي تحميه من عذاب الإكتئاب الذى تعاني منه !
…
..
****
…
. مات الرجل
…
فامتنع كلبه عن الطعام حتى مات !
……
.
حتى الكلاب تعاني من الإكتئاب يا معشر البشر
………
.
****
ماتت زوجته بعد رحلة عمر طويلة
…
. مات بعدها بشهرين
…
إنه مات بفعل الإكتئاب
……
.
****
…
سبحانك يامن جعلت الإكتئاب مرضاً يصيب بعض عبيدك
…
. على قدر فهمي المحدود ، إنها نفس الحكمة الكامنة فى خلق الليل والنهار
…
الأبيض والأسود
…
. الخير والشر
…
.. البرودة والحرارة
…
الأفاعي والحملان
…
. لكل شيء جعلت له نقيضه
…
فإن قيمة الشيء لا تعرف إلا من خلال نقيضه
…
.
***
…
دخل صديقي حجرته وأطلق على رأسه الرصاص !
…
ولم يدر أحد حتى مات أنه كان يعاني من الإكتئاب
…
. القصة بدأت قبل عام من إطلاق الرصاص
…
. بدأت بآلام معدته
…
لف الدنيا
…
. كلها من أجل علاج لآلامه
…
. ولم يهتد حكيم إلى سر آلامه
…
فى عمله
…
ثم بدأ يعتزل الناس
…
. ثم قرر أن يعتزل الحياة .
****
…
عزيزي القارىء
…
أعتذر مقدماً لأنني طلبت منك أن تحاول القيام بتجربة قد تبدو سخيفة
…
ولكنها ضرورية حتى تستطيع أن تعيش معنا هذا الفصل
…
بقلبك وعقلك
…
.
***
تصور أنك ستنهض من مكانك الآن لتحضر مسدساً ـ ثم تلصقه حيث منتصف المسافة بين عينيك ، ثم تطلقه
…
وبعد ثوان تغادر تماماً هذه الحياة .
حاول من فضلك أن تتصور الاتي :
1-
الدافع الذي يمكن أن يقودك إلى هذا الفعل .
2-
إحساسك وقد وصلت إلى القرار بإنهاء حياتك .
3-
اللحظات التى ستمر عليك منذ لحظة إتخاذ القرار إلى أن تمسك بالمسدس .
آسف مرة ثانية إن دفعتك إلى تجربة على مستوي التخيل ، رغم علمي المسبق أنك لن تستطيع أن تتخيل هذا الموقف
…
لسبب بسيط
…
وهو أنك تحب الحياة ومتمسك بها رغم سخطك عليها
…
. حتى محترفو مهنة الطب النفسي ـ وأنا أحدهم ـ لا يقدرون على وصف هذه اللحظات ، رغم أنهم يرون أصحابها الحقيقيين فى كل يوم .. لن يحكي لك عن هذه التجربة إلا الذي مر بها حقيقة
…
وللأسف فإنهم يغادرون الحياة قبل أن نستطيع أن نسألهم .. ومن ينقذ منهم يصاب بفقدان للذاكرة عن هذه اللحظات
…………
.
متى يقتل الإنسان نفسه ؟
الإجـابة :
حين تصبح الحياة غير محتملة
…
حين تصبح عديمة القيمة
…
حين تصير عديمة الجدوى
…
حين لا يوجد أي حل للخلاص من الآلام
…
حين يكون الموت هو طريق الخلاص الوحيد
…
ماهي هذه الآلام ؟
أعتذر لأني لا أستطيع أن أصفها لك بدقة
…
. ولكن مريض الإكتئاب يقول :
" أشعر بألم فى الداخل
…
أشعر بتمزق داخلي
…
. أشعر بالنار فى أحشائي وفى صدري .. لم أعد أحتمل هذا الألم " .
…
. هذا يا عزيزي القارىء ، ما نسميه بالألم النفسي .. هل تستطيع أن تقارنه بآلام الأسنان أو بالمغص الكلوي ؟
مريض الإكتئاب يجيب :
" أي ألم محتمل إلا هذا الألم .. أتمنى أن أفقد ذراعي معاً وأشفى من هذا الألم
…
أي مرض فى العالم مهما كانت آلامه أهون من هذا الألم " .
والمأساة أن مريض الإكتئاب فى بعض الحالات يشعر أنه يستحق هذا العذاب
…
إنه الإحساس بالذنب دون أي ذنب إقترفه
…
بل إنه يزيد من تحقير ذاته والتقليل من قيمتها
…
. يشعر أنه عالة على الآخرين
…
أنه سبب معاناتهم
……
.
يبدأ المرض بفقدان الإهتمام وفقدان الرغبة
…
الألوان كلها باهتة
…
لا طعم لأي شيء
…
. وذلك قبل أن يشعر بقتامة الأشياء ومرارتها
…
ثم يجرفه الحزن
…
حزن غريب فى عمقه وحدته
……
. رغبة فى البكاء
…
تشاؤم
…
خوف .. هواجس
…
. يفتح عينيه قبل الفجر بقليل والكل نيام
…
إنها أسوأ لحظة
…
فى المساء تخف الحدة نسبياً
…
ويهرع إلى السرير هروباً
…
يضعف التركيز
…
تضعف الشهية للطعام
…
. يتناقص وزنه
…
ويبدأ فى الإنعزال التدريجي
…
حتى يصل إلى المرحلة الحرجة حين يقول إن الحياة لا تستحق أن نحياها .. ثم يقول : أنا لا أستحق الحياة
…
وتراوده فكرة الخلاص
…
فيدبر لها بإحكام وإتقان .. ثم يتم التنفيذ دون توقع من أقرب الناس إليه .
…
.
وقد يلبس الإكتئاب قناعاً
…
إنه يختفي وراء آلام الجسد : المعدة
…
القلب
…
الظهر
…
أي جزء من الجسم يتولى التعبير عن الإكتئاب
…
ويظل المريض حائراً تائهاً
…
شهوراً تمتد إلى سنة أو أكثر
…
. والإكتئاب لا يريد أن يفصح عن نفسه ،حتى أن الأطباء أطلقوا عليه إسم " الإكتئاب المقنع "
وقد يسمع مريض الإكتئاب أصواتاً غير حقيقية أي هلاوس
…
ولكنها أصوات تشتمه وتؤنبه وتحقره وتدعوه إلى أن يجهز على نفسه
…
وقد يصاب بالهذاءات والضلالات كأن يعتقد بأنه مصاب بمرض خبيث
…
أو أن جزءاً من جسده ـ مثل القلب ـ قد توقف عن العمل ، أو أن هذا الجزء لم يعد موجوداً .
أعراض غريبة مؤلمة لا يعرف كم هي معذبة ومهلكة إلا من عبر بها .. إلا من عانى منها
…
. أعراض يجب ألا نأخذها بإستخفاف ، فنطلب من المريض أن يقاومها بإرادته ، ونضغط عليه لكي يشاركنا الحياة ، وإن الأمر سيتحسن إذا هو قام بإجازة وذهب للترويح عن نفسه
…
أبدأ إنه لن يستطيع . فارحموه من تلك النصائح غير المجدية .
****
ومرض الإكتئاب العقلي أكثر إنتشاراً فى الرجال حيث النسبة 3-2 ، وهناك نوع آخر من الإكتئاب يطلق عليه " إكتئاب سن اليأس " ونسبته ترتفع فى النساء عن الرجال 7-1 ، ويعرف بإسم " الميلانكوليا " وعادة يبدأ بعد سن الخمسين أى فى الفترة التي يبدأ فيها هبوط نشاط الغدد الجنسية .
وهناك إتجاه لإنكار علاقة هذا النوع من الإكتئاب بالتغيرات الهرمونية التى تحدث فى هذه السن ، وأن هذا الإكتئاب يحدث نتيجة لظروف نفسية وبيئية كفقدان الزوج ، أو زواج الأبناء ، أو الإحالة للمعاش بالنسبة للرجال
…
وأعراضه هى أعراض الإكتئاب العقلي نفسها ، ولكن تكون مصحوبة أيضاً بحالة شديدة من القلق والتوتر .
أما " الإكتئاب التفاعلي " فأمر مختلف تماماً
…
فهو مرض نفسي يدرك المريض أبعاده ، ويحدث نتيجة لمؤثرات خارجية ، تدفع الإنسان إلى الإحساس بالحزن ، دون أن يصاحب ذلك أي اعراض فسيولوجية ، كما لا يصاحبه أي ميول إنتحارية ، بل على العكس فإن المريض يسعى بنفسه إلى الطبيب طلباً للعلاج
…
وتميل كل الأبحاث فى العشرين سنة الماضية إلى التأكيد على أن مرض " الإكتئاب العقلي " يحدث نتيجة لإضطرابات كيميائية فى مخ الإنسان ، وذلك بسبب نقص هرموني السيروتونين والأدرينالين .
وأيضاً أكدت الأبحاث الجديدة أن مرض اكتئاب يحدث نتيجة لإضطراب نسبة المعادن فى الجسم ، ولقد وجد أن جسم الفرد المكتئب يحتفظ بكمية صوديوم تزيد 50% عن الشخص الطبيعي ، وبإستعمال عقار " الليثوم " ـ وهو من المعادن التي تعيد للصوديوم توازنه فى الجسم . فإن مرض الإكتئاب لا يرتد مرة أخرى ، ولهذا يستعمل هذا العقار فى الوقاية من مرض الإكتئاب .
كما أن هناك نوعية معينة من الشخصيات تكون عرضة أكثر للإصابة بهذا المرض ، وهذه الشخصيات تعرف بإسم " الشخصيات الدورية " والتي يميل صاحبها من الناحية الجسمية إلى البدانة ، ومن الناحية النفسية إلى الإنبساط ، ويعرف بين أصدقائه بأنه " طيب وقلبه أبيض " ولكن تنتابه فترات من هبوط المعنويات ، والميل إلى العزلة وفقدان الإهتمـام .
ومن الغريب أن بعض مرضى الإكتئاب العقلي قد يصابون بمرض آخر هو على النقيض تماماً من الإكتئاب ، ويسمى مرض المرح أو الهوس : أي يتناوب الإكتئاب ونوبات المرح ، وأحياناً تأتي نوبات متكررة من المرح دون نوبات إكتئاب .
ومرض المرح قد يأتي فى صورة حادة أو صورة أقل حدة تسمى :" المرح تحت الحاد " .. وفي هذا المرض يشعر المريض بالسرور والبهجة والنشاط الزائد
…
وتزاحم الأفكار في رأسه والحركة الزائدة ، بحيث يعمل ليل نهار دون الإحتياج إلى النوم . وكذلك التفكير في الكثير من المشروعات دون أن ينفذ شيئاً ، وذلك لتشتته الشديد .
ويصاحب ذلك إحساس بالعظمة والغرور ، وبالقدرة على عمل أي شيء ، ولذا فهو يثور على من يعترض طريقه ، وقد يتطور الأمر إلى الهياج ، ولا يملك الطبيب النفسي وهو يفحص مريض المرح إلا أن يشاركه فى الضحك فعلاً ، ولهذا يطلق تجاوزاً " مرض المرح " أنه مرض معد
…
وإذا شارك الطبيب المريض فى الضحك ، فإن هذه المشاركة تعتبر علامة تشخيصية مؤكدة لمرض المرح . ومع النشاط الزائد وعدم النوم قد يصاب المريض بإرهاق شديد وتشوش فى الوعي ، ويفقد قدرة التعرف على الزمان والمكان ، وقد يصاحب ذلك هلاوس سمعية وبصرية .
وهذا المرض له الأسباب الكيماوية كمرض الإكتئاب .
…
ولقد ثبت أن مريض المرح يحتفظ بكمية صوديوم تزيد 200% عن الإنسان الطبيعي ، ولهذا فإن مرض المرح ومرض الإكتئاب يعالجان بكفاية تامة الآن بالعقاقير ، وأحياناً بالجلسات الكهربية .. كما تستعمل عقاقير لمنع تكرار حدوث المرض للمريض .
ألا يبدو غريباً هذا الإرتباط بين مرضي المرح والإكتئاب ؟ .. إنهما نقيضان
…
ولكن نبعهما واحد .. نبع الوجدان
…
مريض اكتئاب بعد شفائه قد يصاب بنوبة مرح مرضية
…
ثم يشفى من المرح ليصاب بالإكتئاب ، وهكذا بشكل دوري .. من اليأس والتعاسة وهبوط كل الوظائف النفسية والفسيولوجية وتحقير الذات إلى التفاؤل والنشاط الزائد والتيه والزهو إلى حد الإحساس بالعظمة
…
بل إنه يحدث أثناء علاج مريض الإكتئاب أن تنقلب الحالة إلى مرح حاد ، وذلك بسبب زيادة جرعة مضادات الإكتئاب ، وكذلك قد تنقلب حالة المرح اثناء علاجها إلى حالة إكتئاب
…
تماماً مثل البندول حين ينطلق من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ثم من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين
…
ولعل هذا هو ناموس الكون
…
حين يصل أي شيء إلى أقصى مداه ، ينقلب إلى النقيض ، وكأنه فى إنطلاقه وتفاقمه تتولد عناصر فنائه وتلاشيه .
.. لم يخلق شيء إلا وخلق معه نقيضه
…
ومعرفتنا بهذا الشيء لا تكون إلا بمعرفة نقيضه
…
فنقطة على كرة لا يكون لها كيان جغرافي إلا من خلال نقطة أخري مقابلة لها
…
أي فى عكس إتجاهها
…
.. وحالة وجدانية معينة لا يكون لها معنى إلا من خلال وجود حالة وجدانية فى الإتجاه المقابل ، أي حالة نقيضة
…
والقيم الإنسانية السامية لا معنى لها إلا بوجود قيم مغايرة تماما
…
فالخير يقابله الشر ، والصدق يقابله الكذب ، والحب يقابله الكراهية ، والنور يقابله الظلام
…
ولهذا فإن المقابل الطبيعي للحزن هو الفرح
…
واليأس الأمل
…
والتشاؤم التفاؤل
…
. والخمول النشاط
…
. وتحقير الذات العظمة
…
كيف تشعر بالفرح إذا لم تكن قد خبرت الحزن ؟ الفرح الذي يأتي بعده حزن تكون له حلاوة قطرات الماء التي تهبط على لسان شققه الجفاف ... ولهذا لا تأس على نفسك يا صديقي مريض الإكتئاب
…
إنك أقدر الناس على الإحساس بمعنى الفرح
…
بمعنى الأمل
…
بمعنى الجمال
…
بل أنت الوحيد القادر على الإحساس بكل نعم الخالق فى الكون
…
أنت الوحيد القادر على أن تقول لنا عن معنى الحياة .. إن تجربتك المضنية تجعل لك خاصية النحل الذي يرتشف رحيق الزهور
…
تجعل لك خاصية جذور النباتات التى تمتد فى باطن الأرض لتمتص كل العناصر الطيبة اللازمة لإستمرار ونمو وإزدهار الحياة .
إن تجربة اكتئاب هي أعظم وأهول تجربة يمر بها إنسان
…
وأجد نفسي فى مأزق
…
هل أحسد مريض الإكتئاب أم أشفق عليه من هول التجربة ؟
…
لعلي أحمل له فى قلبي كلا الإحساسين المتناقضين
…
الحسد والإشفاق
…
أحسده لأنه إقترب من فهم معنى الحياة
…
. ولكن لا أملك نفسي من الإشفاق ، لأن مريض الإكتئاب يتحمل ما لا يتحمله أي إنسان آخر .
" من كتاب : حكايات نفسية 1990 ، للمؤلف "