لقد قدمت إلى هذه الديار الطيبة منذ أكثر من خمس سنوات. لقد عانيت وتعبت غاية التعب أول الأمر، ولم يكن عند كفيلي أي عمل يخرجني مما أنا فيه من ضيق وحاجة للمال؛ لتسير به حياتي، وأنفق على أهل بيتي من الوالدين والإخوان.
وبحثت عن عمل، وتنقلت في أكثر من أربع مؤسسات تجارية، وأخيراً استقر بي المقام في أحد المصارف هنا في الرياض، وقد بذلت غاية جهدي، وأخلصت في عملي حتى صرت محاسباً في الحسابات الجارية، فعلمت أن هذا المصرف يضع أكثر ماله في بنوك داخل المملكة وخارجها بالفائدة الربوية، وهناك حسابات للعملاء تأتينا الأوراق المصرفية بتسجيل فائدة ربوية لحساباتهم طرفنا، وهي من بنوك خارجية.
ويعلم الله تعالى أني في غاية الضيق لهذا الأمر، ولم يهدأ لي بال منذ أن عرفت هذا الأمر، علماً بأني قد تزوجت وأحضرت زوجتي، ورزقني الله تعالى بولدين، وأنا طالب علم شرعي".. إلى أن قال: "أنا أحب الفقه في الدين، وأحضر ندوات العلم، وسوف أقع في ضيق وفي حرج لو تركت هذا العمل، وسأتأخر في الصرف على أبي وأمي، فبالي مشغول من ذلك، وأنتظر من سماحتكم فتوى بهذا[1].
الله جل وعلا أحل لعباده ما فيه نجاتهم وقضاء حاجاتهم، وحرم عليهم ما يضرهم؛ فليس العبد مضطراً إلى ما حرم الله عليه، بل عليه أن يسعى جهده في طلب الرزق الحلال.
والتوظف في البنوك لا يجوز؛ لأنه إعانة لهم على الإثم والعدوان - سواء كان محاسباً أو كاتباً أو غير ذلك - فالواجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وأن يبتعد عن البنوك؛ لأن الله يقول سبحانه وتعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[2].
فالتعاون مع البنوك أو مع قطاع الطريق أو مع السراق، أو مع الغشاشين، أو مع أصحاب الرشوة، كله تعاون على الإثم والعدوان، فلا يجوز.
وما قبضته قبل ذلك - أي قبل العلم - فلك ما سلف، وما كان بعد العلم فليس لك؛ لقول الله جل وعلا: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[3]، فما قبضته سابقاً قبل أن تعلم فهو لك، وأما بعد أن علمت، فعليك أن تترك هذا العمل، وأن تتوب إلى الله سبحانه مما سلف، وتبذل ما قبضته من طريق الربا وأنت عالم به في جهة البر والخير؛ كالصدقة على الفقراء والمساكين، إلى غير ذلك، حتى تتخلص من هذا المال الذي جاءك بغير وجه شرعي.
وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أنه لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: ((هم سواء))[4].
فالواجب على المؤمن أن يحذر من ذلك : وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا[5]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[6].
فأنت إذا اتقيت الله يسر الله أمرك، ورزقك من حيث لا تحتسب، فالتمس أعمال أخرى ولو بأجر قليل؛ إذا كنت تأخذ من البنك خمسة آلاف أو ستة آلاف، أو عشرة آلاف شهرياً، فسوف تجد - إن شاء الله - من الأعمال المباحة بمعاش يكفيك، ويبارك الله لك فيه، ولو ألفين أو ثلاثة أو أربعة، ولو أقل من ذلك بكثير.
أنت عليك أن تطلب الحلال، والله يعوضك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، لما سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور))[7]، وقال أيضاً: ((ما أكل أحد طعاماً أفضل من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده))[8]
عليه الصلاة والسلام.
[1] سؤال موجه إلى سماحته، بعد تعليقه على ندوة الجامع الكبير بالرياض بعنوان: (الربا وخطره).
[2] سورة المائدة، الآية 2.
[3] سورة البقرة، الآية 275.
[4] رواه مسلم في (المساقاة)، باب (لعن آكل الربا ومؤكله)، برقم: 1598.
[5] سورة الطلاق، الآية 2.
[6] سورة الطلاق، الآية 4.
[7] رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين)، حديث (رافع بن خديج)، برقم: 16814.
[8] رواه البخاري في (البيوع)، باب (كسب الرجل وعمله بيده)، برقم: 2072.