قام العديد من الصحف العربية أخيراً بنشر مقالات تطالب برفع أسعار النفط وإبقائها حول 40 دولاراً للبرميل، بحجة أن هذا الارتفاع سيحسن من أداء اقتصاديات الدول الخليجية.
لقد منح كتّاب هذه المقالات "أوبك" والسعودية قدرة لا تملكانها. فالخبراء المتخصصون في شؤون "أوبك" يرون أن "أوبك" لا شيء بدون السعودية، وأن السعودية هي اللاعب الرئيس في أسواق النفط العالمية. ورغم هذا الدور الضخم، إلا أن قدرة المملكة على التحكم في أسعار النفط محدودة وتحكمها العديد من الأمور الاقتصادية، السياسية، الطبيعية، والتقنية. لقد ارتفعت أسعار النفط لأسباب اقتصادية، سياسية، وطبيعية، ولكنها لم ترتفع بسبب تصرفات "أوبك" القدرة على تخفيضها، كما أنه ليس لديها القدرة على الحفاظ عليها أيضاً. وإذا استمرت هذه الأسعار على مستوياتها الحالية لفترات أطول، فإن أثرها على دول الخليج سيكون أكثر دماراً، ما حصل في فترة الثمانينيات لأن أسعار النفط ستنخفض في فترة تضاعف فيها عدد سكان دول الخليج عما كان عليه في السبعينيات، وما زال عدد السكان يزداد بمعدلات عالية. ولأن دول الخليج فشلت في تحقيق "تنمية اقتصادية".
إن المسوغات التي ساقها هؤلاء الكتاب لإبقاء أسعار النفط في مستوياتها المرتفعة تعكس المشكلة الأساسية التي عانينا منها خلال 30 سنة الماضية، ولم نستطع حلها حتى الآن، ألا وهي استمرار الاعتماد على النفط. كما تعكس مشكلة أخرى وهي خلطهم بين مفهومي "النمو الاقتصادي" والتنمية الاقتصادية. فالنمو الاقتصادي هو زيادة في القيمة الحقيقية للناتج المحلي. أما التنمية الاقتصادية فهي زيادة في القيمة الحقيقية للناتج المحلي مصحوبة بتغيرات هيكلية في الاقتصاد والمجتمع، والتي تشمل رؤية المجتمع للوقت وقيمته.
إن المشكلة الأساسية في دول الخليج ليست تذبذب أسعار النفط أو انخفاضها، بل ضعف الموارد البشرية كماً ونوعاً. إن هذا الضعف هو الذي منع دول الخليج من تنويع مصادر دخلها وتخفيف اعتمادها على النفط. إن هذا الضعف هو الذي أدى إلى ارتباط معدلات النمو الاقتصادي بأسعار النفط، بدون تحقيق تنمية اقتصادية.
إن أحد مظاهر ضعف الموارد البشرية هو فشل دول الخليج في تخفيف اعتمادها على النفط. وأحد مظاهرها أيضاً انخفاض إنتاجية القطاعات الاقتصادية المختلفة بسبب انخفاض إنتاجية العمال. وللأسف، فإن بيانات منظمة اليونيدو توضح أن إنتاجية العمال في دول الخليج في القطاعات الصناعية هي الأقل في العالم. وقد يكون ذلك لأسباب عديدة أهمها تركيز السياسات التعليمية على الكم بدلاً من النوعية، وتعارض السياسات التعليمية مع سياسات التصنيع التي تبنتها هذه الدول، وإبراز السياسات التعليمية والوظيفية للعلم على أنها وسيلة وليست هدفاً، الأمر الذي حول التجربة التعليمية إلى مجرد حضور في المدارس والجامعات لتحصيل شهادة تؤهل حاملها للحصول على وظيفة، غالباً حكومية. أضف إلى ذلك أن نظام الرواتب والأجور مبني على سلم وظيفي لا يرتبط بالأداء والكفاءة. إن الاستثمار في الموارد البشرية يحقق أكبر عائد على رأس المال ضمن كل الخيارات الاستثمارية المتاحة، بشرط عدم التركيز على الكم والتركيز على النوعية من جهة، وإيجاد سياسات حكومية ملائمة من جهة أخرى. إن حل مشكلة الموارد البشرية في دول الخليج لا يتطلب تدخل البنك الدولي ولا يحتاج إلى نصائح "خبرائه" الذين احترفوا إلقاء المحاضرات وبيع الكلام، خاصة أن أهل المنطقة الغربية والجنوبية من الجزيرة العربية اشتهروا تاريخياً بالتجارة العالمية التي تتطلب مستويات عالية من الإبداع والعمل الجاد، وأن أهل المنطقة الشرقية اشتهروا تاريخياً بصيد اللؤلؤ، وهي مهنة تعتبر من أخطر المهن في التاريخ. إذاً المشكلة ليست في أهل الخليج، ولكن في السياسات التي تبنتها الحكومات الخليجية بعد الطفرة في السبعينيات.
إن ارتفاع أسعار النفط في الفترات الأخيرة فرصة نادرة لدول الخليج لتركز على "التنمية الاقتصادية" بدلاً من "النمو الاقتصادي". وهي فرصة لكتابنا أن يركزوا على المشاكل الأساسية التي منعت دول الخليج من تحقيق تنمية اقتصادية بعد ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات. إن التركيز على بقاء أسعار النفط في مستوياتها الحالية لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاعتماد على النفط، ومزيد من التبعية الفكرية، السياسية، الاقتصادية، والثقافية.
جريدة الاقتصادية / الثلاثاء 20 ربيع الآخر 1425هـ العدد 3893
الدكتور / أنس بن فيصل الحجي