الموهبة وأثرها في صناعة الأديب لماذا الموهبة في صناعة الأديب وليس الموهبة في خلق الأديب ؟ سؤال لابد أن يكون قد تبادر إلى ذهن أي منكم وهو يقرأ عنوان هذه الدراسة البسيطة، وطرحته بلا شك على نفسي محاولا سبر أغوار هذا الإصرار على هذه التسمية والتمسك بها،.... شيء ما كان يقول لي لا يصح أن يكون سببا في خلق الموهوب و إلا لن يكون موهوبا في الخلقة بل سيكون صحيحا أكثر لو كانت الموهبة هي التي تسبق العمل فتكون سبيلا لصناعته وتكوينه وإظهاره للوجود. طبعا الموهبة حسب تعريفي الشخصي- دون عودتي للمراجع- هي تلك النعمة التي يهبها الله لنا لكي تميز البعض منا عن الآخر في مهمة التكليف التي خصها الله لأحدنا وفضله بها على غيره لعلمه تعالى بان من يحملها ويلد بها إن هي إلا أمانة ودين يؤدها بالنيابة عن المجموع . أنها بتبسيط شديد تلك المقدرة التي ولد بعضنا بها للإحساس بالكون والتفاعل معه والتأثير به بشكل يفضي إلى مسلمات وركائز وقوانين وشروط تحدد الإطار العام لأي من الإبداعات التي يصنعها الموهوب في مجال إبداعه. والمقصود هي كل المجالات دون تحديد فنا كان أم أدبا أم صناعة أم فلسفة أم اجتماع أم سياسة أم مهنة يدوية أو حتى تربوية أو دينية، أي شيء يمكن للإنسان أن يخطر بباله وتكون سببا للإتقان والخلق والإبداع. وأنا سأستثني موضوع الذكاء والتعلم والخبرة المحصلة بالممارسة لأنهم مواضيع قد تشترك وتساهم في صقل عمل الموهوب ولكن لا تؤثر في إبداعه بها أو بدونها، وسأورد في سياق هذه الدراسة الكثير من الأمثلة دون التوسع في أي منها لان الموضوع متشعب وكبير جدا ولا تسعه لا الصفحات ولا الوقت، وهمي أن ابرز دور الموهبة في صناعة ووجود الأديب والكاتب كما هي في كل المهارات التي ذكرت بعضها منذ قليل. وعلى هذا فالأديب الموهوب يعي منذ أول إدراك له للعالم المحيط به حاجته لان يتأمل ويسمع ويتساءل ومن ثم يثرثر بوضوح ودون تكلف عما يجيش في داخله من مشاعر على أنواعها وألوانها حزنا كانت أم فرحا قبل أن يبدأ في تدوينها على ورق وتتبع ما يغنيها من ألفاظ وعبارات وحجة وخيال بمطالعة من سبقه في هذه الموهبة فيستمتع بما يسمع ويقرا ويمتع بما يقوله ويكتبه دون تكلف أو تمثيل أو تصنع أو إرهاق،.... انه بكل بساطة يمارس بموهبته تلك الفطرة الإلهية التي منحت له فهي لا تكلفه من نفسه أكثر من خفقة قلب أو استنشاق وزفير. ولهذا نجد الفرق الواسع الشاسع بين كاتب موهوب وكاتب تعلم مهنة الكتابة .؟؟؟ فالأول إذا ما تكلم أطربك بتسلسل أفكاره وترابطها وسهولة ولوجها للقلب والروح دون تكلف فتحرك لديك المشاعر على أنواعها وتأخذك مهما كنت صلبا وخشنا فتسحرك بألحانها وتطربك بأنغامها فتحولك عن السبيل التي كنت قد سلكته وتحول حياتك المرهقة وشجونك وآلامك وقوقعتك التي تسكن بها إلى فردوس تحلق في سمائه فتشعر بالحرية وأنت سجين وبالنعمة وأنت فقير وبالصحة وأنت سقيم وبالسعادة وأنت حزين،....أنها بكل بساطة هي صوت الشاعر وعين الفنان وأنامل الموسيقي ويد المهني وقلم الكاتب الذي يصنع هذه المعجزة التي تطرب العامة وتفك القيود وتحرر الشعوب. في حين لا يستطيع الكاتب الذي تعلم الكتابة -مهما فعل- وقد رتب الحروف وسطر الصفحات وزينها بالشدات والنوتات والحركات فوضع الفعل في مكانه وصرف الفاعل والمفعول به إلى زمانه وعلق شدة هنا وضمة هناك وكسرة هناك من أن يحرك ولو بمقدار شعرة واحدة المشاعر ؟؟؟ وأنا لازلت اذكر إلى الآن الأديبة الكبيرة مي زيادة وعجزها في التصريف النحوي للكتابات الرائعة التي كانت تتحفنا بها وكان الرأي الغالب لها أن تكثر من قراءتها للقران حتى تتمكن من لغة لم تمتلكها ولكن رغم صعوبتها لم تمنعها من أن تظهر موهبتها وتمكنها من أدواتها الأدبية ومقدرتها الإبداعية على التأثير.؟؟؟ !!! وهكذا دواليك نجد أنفسنا أسرى الحرف الجميل والكلمة البسيطة القوية المعبرة والجملة المتماسكة حتى إذا ما أعدنا قراءتها لمرات ومرات نجد أنفسنا نشعر بعطش شديد لقراءتها ونتخيل ونحن نقلب مفرداتها بأننا نستطيع أن نفعل مثله ومن أول محاولة ندرك حجم هذه القلعة المنيعة وخطر هذا البحر الهادئ أنها بكل بساطة السهل الممتنع ذلك الذي تجعلنا نرى مهارة السابح ودقة الصانع وحركة العازف وريشة الفنان وقلم الكاتب وصوت الشاعر وخفتهم بممارسة كل منهم لما وهب له وخلق وكأنه في متناول أيدينا لنكتشف بعد أول محاولة حجم موهبتهم وقلة حيلتنا. ؟ ! وهذا السهل الممتنع هو الذي يجعلك تتصيد كتاب للحكيم أو طه حسين أو السباعي وتطرب وأنت تستمع إلى محفوظ أو هيكل أو نبيل خوري (رحمه الله) أو سمير عطا الله أو كوليت خوري أو القباني (رحمه الله) أو حتى الاقدمون منهم كالمتنبي أو ابن خلدون وغيرهم الكثيرون لا تسعها الصفحات، في حين تنفر مما يكتب وقد زين اسمه بالألقاب الكثيرة وجمع بين يديه مناصب تضع مصير الأدب والأدباء على شفير شحطة من قلمه، فلا تجد فيما يكتب ما يحرك الفؤاد حتى وان زينها بالجوائز وأتحفها بالميداليات.؟؟؟ !!