عنوان يبدو للمرة الأولى انه يشير إلى مهمة سهلة، ولكن الأمر ليس كذلك بل إن طبيعة عملية الغرس والإكساب وما تثمره من صفات ومظاهر تجعلنا ندقق النظر في أبعاد عملية غرس القيم أو عملية إكساب القيم، وبمراجعة دراسات التخصصين وأقوالهم ( المتاحة ) نجد أنها تصف عملية غرس القيم بأنها ( العملية التي يتبنى من خلالها الفرد مجموعة من القيم لم يكن يتبناها قبل ذلك ) على حد قول ( ريشر ) أو هي عملية إدماج نسق القيم في ذوات الأفراد .
خلاصة ذلك :
من عملية غرس القيم تعتمد على الفرد وقدراته وموروثاته الثقافية والعقائدية وتتأثر بظروف التنشئة الاجتماعية .
عملية غرس القيم تشبه عملية الزراعة تماما . فالزراعة المثمرة المباركة تتأثر بنوع البذرة ( نوع القيمة ) والأرض الخصبة العليبة ( الفرد حامل القيمة ) والموسم المناسب لنوع البذرة ( السن المناسب ) ومهارة الفلاح ( حصافة المربي ) وجودة الأساليب الزراعية ( مناسبة الأساليب التربوية للحال ) واستخدام آلات زراعية حديثة ( وسائل غرس القيم ) .
والأرض الخصبة إن لم تزرع وإن لم يتوفر لها ما ذكر أتتها الرياح اللوافح فتثمر نباتا مجهولا !!! متناثرا يظلل في الأرض يأكل خيرها ( خصوبتها ) أو تأكله البهائم أو ييبس فتذروه الرياح .
وكذلك الابن في مقتبل عمره أن لم يجد مربيا حصيفا وقيما سامية وأساليب تربوية ووسائل مناسبة في الوقت المناسب تنازعته الأهواء وقتله الفراغ .
ولكن ما العوامل التي تؤثر في عملية غرس القيم ؟
تتأثر عملية غرس القيم بعدة عوامل يمكننا تصنيفها على النحو التالي :
فالقيم السامية الرفيعة تحتاج إلى مرب حصيف خبير، يعين القيمة ويعدها للبذر ويصفها ( يبذرها ) أي يغرسها غرسا وينميها ويزكيها ويورثها، فإذا مات بقيت القيمة وازدهرت أما القيمة الوضيعة المتناثرة والمتطايرة فلا تحتاج إلا لمذيع أو مروج أو ربح ينقلها أو ماء يذيبها فلا ينتفع بها أحد لوضاعتها وهوانها قال تعالى : " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " .
يتفاعل الفرد مع القيم إلى حد الاندماج معها حتى تعرف القيمة به ويعرف هو بهذه القيمة ولكن :
هل طبيعة الفرد وتكوينه وسنه تعتبر عوامل مؤثرة في عملية غرس القيم وإكسابها ؟
لقد ناقشت دراسات المتخصصين ( مثل شيفر وديوكس ) مثل هذا السؤال وانتهت إلى وجود علاقة بين القيم والقدرات وبين الفرد ودوافعه .
وإذا عدنا إلى المثال السابق الذي تخيلنا فيه الفرد أو النفس البشرية كأنها ارض خصبة تنبت فيها القيمة وتؤتي ثمارها .. وكما أن الأرض أنواع والخصوبة درجات فإن النفوس كذلك أنواع ويحسب قدرة النفس وإمكاناتها تنضج القيمة وتثمر وهكذا .
بل أن البعض ذهب إلى أن الخصائص الجسمية ( كالطول والوزن والحجم .. الخ ) لها علاقة بالتوجهات القيمية للأفراد وأكثر من ذلك .. فإن السلوك البشري، عامة يرتبط بالمخ ووظائفه وتحديدا يرتبط بمراكز تكوين المفاهيم ومراكز الذاكرة والتوجيه والكلام وكذلك العمليات المعرفية التي تعد أساس البناء القيمي للفرد، ومن ثم فإن مراحل ظهور القدرات ونضجها تؤثر في عملية غرس القيم أو إكسابها فالسن والقدرات والتعليم والوراثة وسلامة الحواس كلها عوامل تؤثر في غرس القيم .
بمعنى أن إصابة فصوص معينة في مخ الإنسان تؤدي إلى خلل في الانتباه أو في التفكير أو غيرها وتؤثر بالتالي على عملية غرس االقيم إن لم تعقها، وكذلك سن الفرد وارتباط هذا السن بالنضج وعلاقة النضج بعملية غرس القيم، وهذا ما أوضحته أبحاث ( جان بياجيه ) حيث قسم مراحل نمو الأطفال إلى أربع مراحل وأسماها أنظمة متناسقة للتفكير وتشمل :
المرحلة الحسية الحركية :
( 1 ) المرحلة الحسية الحركية ( من الميلاد إلى سنتين ) مرحلة الرضاعة .
( 2 ) مرحلة ما قبل العمليات الفكرية ( من سنتين إلى سبع سنوات ) مرحلة الطفولة المبكرة .
( 3 ) مرحلة مرحلة العمليات الفكرية الحسية ( من سبع سنوات إلى إحدى عشرة سنة ) مرحلة الطفولة المتأخرة .
( 4 ) مرحلة العمليات الفكرية الشكلية ( من إحدى عشرة سنة إلى ست عشرة سنة ) مرحلة المراهقة .
فكل مرحلة من المراحل السابقة تتكون فيها مجموعة من المفاهيم والاتجاهات تظل تنمو وتنضج في تناسب وتناسق وهذه الاتجاهات تتأثر بالقدرات والسن والدوافع والتفاعل مع البيئة وكل ذلك له دور في عملية غرس القيم .
وقفة :
من حكمة المولى ( عز وجل ) أن جعل محل وحيه ومبلغ كلامه وشرعه نموذجا بشريا كاملا سويا، خاليا من العيوب متصفا بالكمال البشري، مجسدا للنموذج القدوة كامل الأوصاف والقيم . قال تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) .
وعلى ذلك كان السلف الصالح نموذجا لنسق قيمي فريد كان ولا يزال مقياسا شرعيا بل من الفقهاء من جعل توفر هذا النموذج في الفرد شرطا من شروط الولاية التي تدور كلها حول السن والكفاية العلمية وسلامة الحواس والخلق وجميعها من المؤثرات في عملية غرس القيم .
تتأثر عملية غرس القيم بالتنشئة الاجتماعية والتقاء الأجيال وتوريثهم لقيم المجتمع من خلال مؤسسات المجتمع أو البيئة الاجتماعية التي تضم : الأسرة، والمدرسة والمسجد والأقران ومؤسسات الإعلام ( تلفاز، سينما، فيديو، صحافة، إنترنت ) والمجتمع العام ولكن .. يبقى سؤال :
كيف تؤثر هذه المؤسسات في عملية غرس القيم ؟ ولعل الله يوفقنا في الإجابة عن هذا السؤال على النحو التالي :
الأسرة كيان إنساني يتأثر بالمجتمع لأنه جزء منه ويقوم بوظائفه في نطاق المجتمع ومرجعيته وهذا الكيان ما هو إلا أفراد لهم دور وتأثير في عملية غرس القيم ( كما سبق ) ولهم دور كأسرة . وهذه الوظيفة أو هذا الدور يرتبط بالبعد الديني والثقافي والاقتصادي والحضاري لأفراد الأسرة .
أخرج البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله : ( ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) .
ويقول الشاعر :
وينشـأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحج ولكن يعوده التدين أقربوه أي أن الأسرة ترضع أبناءها التدين وتعودهم عليه، والأبناء يقلدون الآباء ويتبنون قيمهم ومبادئهم كما يقول ( رودمان ) إن الأسرة قد تعلى قيمة وتحط أخرى عند الأبناء بما للأسرة من تأثير قيمي ثقافي وبما عند الأبناء من تقليد للآباء .
الخلاصة : أن أثر الأسرة ( الثقافي والديني ) في غرس القيم يرتبط بمستوى ثقافة الوالدين ومفاهيمهم ومستوى تدينهم .
أوضحت دراسة ( الدكتور عبد اللطيف خليفة – عالم المعرفة ) أن المستوى الاقتصادي والاجتماعي يلعب دورا كبيرا في ترتيب النسق القيمي لدى الأبناء فالطبقة المتوسطة تهتم بغرس قيم معينة في أبنائهم مثل قيم الإنجاز والإبداع .
والطبقة الأكثر ارتفاعا تهتم بغرس قيم أخرى مثل قيم اعتبار الآخرين وضبط النفس والمتعة، والطبقة الأقل مستوى تهتم بغرس قيم مثل الطاعة والمتعة على أن جميع المستويات تتفق على أهمية غرس قيم التدين وتتباين الأوساط الاجتماعية في ترتيب النسق القيمي وأولوياته .
الخلاصة : أن المستوى الاجتماعي والاقتصادي يؤثر في ترتيب النسق القيمي ولا يؤثر في أهمية قيمة التدين ومرتبتها .
للمدرسة أثر واضح في عملية غرس القيم، لما للمدرسة بعناصرها ومفرداتها من تعامل مع جوانب نمو الأبناء الفكرية والوجدانية والبدنية والروحية والسلوكية وذلك من خلال النظام التعليمي والإداري وفريق العمل بالمدرسة ومحتوى المنهج الدراسي والأنشطة وما تهدف إليه من قيم .
ولكن هل نوع التعليم له أثر في غرس القيم ؟
أوضحت الدراسة الميدانية التي أجرها عبد اللطيف خليفة 1992 أن نوع التعليم يؤثر في نوع القيم ومرتبتها لدى الأبناء، حيث أتضح أن النسق القيمي للأبناء في التعليم العام يهتم أكثر بقيم الإنجاز والقيادة والجمال والابتكار، في حين أن النسق القيمي للأبناء في التعليم المهني ( تجاري، صناعي، زراعي ) يهتم بقيم الكسب والدخل والخدمة العامة والعلاقات العامة، وكذلك التعليم العام يختلف عن التعليم الخاص حيث يهتم التعليم العام بقيم الأمانة والمسئولية وسعة الأفق، في حين تأتي هذه القيم متأخرة في الترتيب بالنسبة للتعليم الخاص حيث تتقدمها قيم الطموح والبهجة وضبط النفس .
بداية نجيب عن سؤال :
ما معنى المنهج الخفي ؟
المنهج الخفي ببساطة هو عبارة عن كل ما يمكن أن يتعلمه الابن بدون قصد وبدون منهج رسمي، وهو أيضا كل ما يمكن أن يستنبط من مفاهيم وسلوكيات من خلال التعامل مع عناصر المدرسة أو البيت أو النادي أو المسجد أو حتى الرفقاء، ولنضرب لذلك مثلا : قيمة التسويف أو التأجيل
( قيمة سلبية ) يكتسبها الابن من المدرسة أو من البيئة المحيطة، وذلك من انتظاره الطويل لدوره أو لقضاء مصلحته أو لتلقي رد أو مشورة، فالابن ينتظر طويلا أمام حجرة مدير المدرسة وأمام حجرة المعلمين، وينتظر لحين وصول قرار الإدارة التعليمية ولحين وصول ميزانية وحتى في الفصل فهو ينتظر وصول المعلم وينتظر دوره في المناقشة وهكذا ويحدث ذلك ومثله أو أكثر منه مع الابن في البيت أو النادي أو المسجد، ولكن مع الاختلاف النوعي وحسب الظروف . ومثلا آخر :
( وهي قيمة سلبية ) يكتسبها الابن من مفاجأة المعلم أو المشرف أو الموجه أو المدير أو الأب أو الاخ الأكبر للابن في الفصل أو في الملعب أو المعمل أو الحجرة أو الحلقة ومن مقاطعتهم له أثناء المناقشة أو النشاط أو الاسترخاء ومن دق جرس الحصة في ذروة تفاعله مع الدرس أو مع التجربة المعملية أو النشاط وأيضا من دخول زائر أو متابع أو استدعاء الأب أو المعلم أثناء الدرس أو أثناء النشاط وغير ذلك كثير .
ومثلا آخر :
( وهي قيم سلبية ) يكتسبها الابن من وضع المقاعد في الفصل والقاعة والحفلة حيث تصف مقاعد الأنباء في مواجهة مقعد ومنصة المعلم ويتلقى الابن الدرس أو المحاضرة أو الحفلة بطريقة سلطوية ( كما يرى الباحث ميجنان ) .
ولله در منهج الإسلام في التلقي والتعليم والتربية حيث كانت الحلقة المسجدية بآدابها وقيمها علامة على سمو المنهج فالحلقة لا يرى الابن فيها ظهر من أمامه من أمامه وقفاه ولكن يرى الوجوه وما على هذه الوجوه من بشر وحب وتألف، وهي مظهر رائع للتساوي بين أفراد بلا اختصاص ولا تمييز .
( وهي قيمة سلبية ) يتشربها الابن حين يفاجأ بتوزيع الجدول الدراسي للمواد ويوزع وقت النشاط ويحدد وقت الرحلة وغير ذلك بعيدا عنه في حين أنها كلها تخصه، أي أن هذه الأمور تتم بطريقة سلطوية لا دور للابن فيها ويترتب على ذلك قلة إحساس الابن بأهمية تنظيم وقته .
يوضح عبد الباسط عبد المعطي ( 1984 ) وبسامة خالد ( 1916 ) مخاطر المنهج الخفي في الآتي :
1- المشاغب
2- الفهلوي
3- المساير
يحتل المسجد مكانة بارزة في وجدان الأبناء وبنيانهم القيمي باعتباره من معالم الدين البارزة وشهادة إيمان لقول المولى عز وجل " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة "
عناصر البيئة المسجدية عبارة عن :
فماذا يكتسب الابن من هذه البيئة ؟
فالبيئة المسجدية ( كمبنى ومحتوى وأفراد ) تؤثر في غرس القيم لدى الأبناء أيما تأثير، بل أصبحت اليوم المصدر الرئيسي لغرس القيم الايجابية .
يتأثر الأمن بأصحابه أخلاقيا وقيميا، بل أنه يمكن أن يندمج مع صاحبه فيصبحا قالبا قيميا واحدا، وهذا ما علمنا إياه النبي " فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه . قال : قال رسول الله " المرء على دين خليلة، فلينظر أحدكم من يخالل " .
وأيضا قال " عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله " مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك سواده أصابك من دخانه .
أي أن جماعة الأصحاب تؤثر تأثيرا قويا في عملية غرس القيم لدى الأبناء، وهذا التأثير إما سلبي وإما ايجابي، وهذا الأثر لشلة الأصحاب ينمو ويتسع ويقوى في تأثيره على الابن كلما ضعفت علاقة الابن بوالديه أو اهتزت هذه العلاقة أي أن دور الأصحاب يرتبط عكسيا بالوفاق والترابط والانسجام بين الابن والأسرة ولكن هل تمثل مجموعة الأصحاب تحديا لقيم الأسرة ؟ أم تمثل مجموعة الأصحاب تعميقا لقيم الأسرة ؟
والواقع أن التحدي أو التعميق لقيم الأسرة مرتبط بمدى الاختلاف أو الاتفاق بين البناء القيمي والثقافي لكل من الأسرة وجماعة الأصحاب، وتحسبا لما قد يحدث من أزمات بسبب التباين القيمي والأخلاقي والثقافي لكل من الأسرة ( بأبنائها ) وجماعة الأصحاب بنوعياتها يقول النبي فيما رواه أبو سعيد الخدري . رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا نقي " .
وهذا بكل تأكيد يحدث دعما وتعميقا وتبادلا بين قيم الأسرة وقيم الأصحاب .
تحتل المؤسسات الإعلامية مكان الصدارة في التأثير في الجماهير بصفة عامة وفي الأطفال بصفة خاصة، وهي تؤثر في المجتمعات المغلقة أكثر منها في المجتمعات المفتوحة، وهذه المؤسسات من تلفاز وإذاعة وسينما ومسرح وصحافة ودور نشر وشبكة عنكبوتية ( إنترنت ) وغيرها ثبت وتنشر مضامين أجنبية في الغالب تحمل قيما سلبية تتناقض مع قيمنا بل ربما تهدمها .
يختلف تأثير وسائل الإعلام حسب الحواس التي تخاطبها كل وسيلة منها، ويكون أشدها تأثيرا ما يخاطب البصر والسمع معا مثل التلفاز والفيديو والسينما والمسرح ويوضح البيان التالي سهم كل حاسة من حواس الإنسان في وصول المعلومات إليه :
وقد ثبت أن 70% من الصور التي تتكون في أذهان ووجدان الأبناء مستمدة من وسائل الإعلام ( عدلي 1995 ) .
ويعبر هوفمان ( باحث نفسي ) عن أثر وسائل الإعلام في الأبناء بهذا التشبيه البليغ : ( الأبناء أمام أجهزة الإعلام كقطعة أسفنج تمتص كل ما تتعرض له ) .
وأكثر من ذلك ما أفصحت عنه ( انشراح الشال ) في دراستها التي أوضحت أن الطفل المصري يثيره المضمون الأجنبي أكثر من المضمون المصري .
ولكي نقف على مدى هذا الأثر وخطورته نتابع تحليل أحد المتخصصين ( شرام وزملائه ) لبث أربع محطات مختلفة في أسبوع واحد فقط نجده عبارة عن :
وأحصى إبراهيم إمام ( عميد سابق لكلية الإعلام ) ما يقدم للأطفال فوجد 49.6% من مجموع ما يقدم يتناول موضوعات جنسية 27.4% من مجموع ما يقدم يتناول موضوعات عن الجريمة، و 15% من مجموع ما يقدم موضوعات عن الحب والجنس معا .
وبعد :
فمن المؤكد أن الإعلام يلعب دورا بارزا وخطيرا في عملية غرس القيم والتأثير في وجدان الأبناء، ومن ثم في سلوكهم حيث أوردت دراسة ( عدلي ) بعض نماذج لأطفال قاموا بارتكاب جرائم وأفعال على سبيل التقليد لما شاهدوه من أحداث عبر التلفاز ومن هذه النماذج :
وغير ذلك كثير ......
وهذه البرامج تنفذ وتطبق بأساليب متنوعة حديثة تناولها كثير من المتخصصين اليوم وهي عندنا لها جذور وأصول، بل هي سنة وتراث مارسها سيد الخلق في غرس القيم لدى السلف الصالح وما زال لها الأثر البالغ في غرس القيم إلى اليوم ونعرض بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر على النحو التالي :
استخدام أسلوب استثارة قدرة التخيل في غرس قيمة حب الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم :
قال الحسن بن علي رضي الله عنه : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان وصافا، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئا اتعلق به قال : ( كان فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظم الهامة رجل الشعر، ... إلى آخر الحديث ) .
فائدة :
روى أن المأمون كان يقرأ القرآن على أستاذة الكسائي، وكان من عادة الكسائي أن يطرق إذا قرأ المأمون فإذا أخطأ رفع رأسه ناظرا ليصحح خطأه فقرأ يوما المأمون سورة الصف . ولما وصل إلى قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) فرفع الكسائي دخل المأمون على أبيه قائلا : هل وعدت الكسائي بشيء ؟ قال : فكيف علمت بذلك يا بني ؟ فأخبره بالأمر فسر الرشيد لفطنة المأمون وذكائه .
القرآن أكثر تأثيرا في الأطفال لصفاء قلوبهم ونقاء فطرتهم، فعندما يبدأ الأطفال حفظ القرآن، يحفظون السور القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الايات القليلة ذوات الفواصل المؤثرة التي لا تضيق بها نفس الطفل وتسعها ذاكرته ويقوي بها نظم لسانه ويستقيم بها بيانه ويرقى ذوقه، وليتضح ذلك، فتأمل سورة الناس، وتأمل كيف جاء نظمها وتأمل وقفة الابن عند لفظة الناس وعند حرف السين ( أكثر الحروف سفيرا وأطربها لسمع الابن ... فهكذا يغرس الجمال اللغوي في الأبناء .
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ولا تحت ورقها، فوقع في نفسي النخلة فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم هي النخلة فما إن خرجت مع أبي قلت : يا أبتاه وقع في نفسي النخلة قال ما منعك أن تقولها ؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا ... إلى أخره .
ومثال ذلك ما رواه ابن عباس إذ يقول : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال له عبد الرحمن بن عوف : لما تدخل هذا الفتى معنا ؟ ولنا أبناء مثله ؟ ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم ودعاني وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال : ما تقولون في قول الله تعالى : " إذا جاء نصر الله والفتح " حتى ختم السورة فقال بعضهم امرنا الله أن نحمده ونستغفره إذا جاء نصر الله وفتح علينا، وقال بعضهم لا ندري وبعضهم لم يقل شيئا، فقال لي يا ابن عباس أكذلك تقول ؟ قلت : لا، قال فما تقول : قلت : هو أجل رسول الله اعلمه الله إذا جاء نصر الله والفتح، والفتح فتح مكة فذلك علامة أجلك فسبح حمد ربك واستغفره، إنه كان توابا، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .
روي أبو يعلي والطبراني عن عمرو بن حريث أن رسول الله مر بعبد الله بن جعفر ( ابن عمه ) وهو يبيع بيع الغلمان أو الصبيان قال : اللهم بارك له في بيعه أو قال : في صفقته .
روي مسلم وأبو داود واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله . رضي الله عنه . قال : ( أتانا رسول الله ) في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب ( أي عرجون طري )، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فحكها بالعرجون، ثم اقبل علينا فقال : أيكم يحب أن يعرض الله عنه قال فخشعنا، ثم قال أيكم يحب أن يعرض الله عنه ؟ قلنا لا أينا يا رسول الله قال : فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالي قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة، فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى ثوبه بعضه على بعضه، ثم قال اروني عبيرا، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على اثر النخامة .
روى الإمام أحمد عن محمد بن السائب قال : ( حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعملوا ما في هذه من العلم والعمل ) وأخرج الطبري في تفسيره عن الحسين بن واقد قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ) .
روى البخاري في كتاب العلم، ( باب من كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة كي لا ينفروا )، وروى مسلم في كتاب الجهاد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يسروا، ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) .
روى البخاري ومسلم واللفظ له، عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله : ( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء، قالوا : لا يبقى من درنه شيء قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) .
ما رواه أحمد، واللفظ له والطبراني عن أبي أمامه الباهلي – رضي الله تعالى عنه ( إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه مه فقال النبي ادنه، فدنا منه قريبا فجلس، فقال صلى الله عليه وسلم : أتحبه لأمك ؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال صلى الله عليه وسلم ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال صلى الله عليه وسلم أفتحبه لأبنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال رسول الله افتحبه لأختك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال رسول الله : أتحبه لعمتك ؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال رسول الله اتحبه لخالتك ؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك . قال رسول الله ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال : فوضع رسول الله يده عليه، وقال رسول الله : اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، قال فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء .
ما رواه أبو داود عن أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القران كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها ) .
عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال : ( تخلف رسول اللع في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة – صلاة العصر – ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى رسول الله بأعلى صوته ( ويل للأعقاب من النار ) مرتين أو ثلاثة .
القصص أطيب الأثر في النفوس وأفضل الطرق في التوجيه فهو يقع في القلب والسمع ويستحوذ على الانتباه ويعين على تثبيت المعنى في العقل والقلب ومن أمثلة ذلك :
روى مسلم عن أبي هريرة ( رضي الله عنه )، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية، قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا غير إني أحببته في الله ( عز وجل )، قال : فإني رسول الله إليك، بإن الله قد أحبك كما أحببته فيه .
الخلاصة
تتنوع أساليب غرس القيم حسب قدرة المربى ومهارته ومناسبة الظروف وحال الابن وسنه . وكلما تعددت وتنوعت الأساليب للقيمة الواحدة كان ذلك أنفع في غرس القيمة، فالمربي الماهر الموفق يتحول بين الأساليب ويواظب على أهمها . مثل أسلوب القدوة والتكرار والاعتدال والقصص، ويتفاوت استعماله لباقي الأساليب حسب الظروف كأسلوب المناقشة والحوار والتشبيه والمداعبة والوعظ والترهيب والترغيب .
وهو مع كل ذلك يهتم بالوسائل وأعدادها والعناية بها والتدريب عليها ودراستها كما سنحاول توضيح ذلك .