إذا اجتهد الأب في تعليم ولده الوضوء، وأداء الصلاة، فإنه يرغبه في الصلاة مع الجماعة، فإن المساجد تعد من أهم المؤسسات التربوية في المجتمع، ففيها تقام أعظم شعائر الإسلام، وقد أثنى الله I على عمـَّارها بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ} [التوبة:18]، وهذه شهادة صريحة لعمَّار المساجد بالإيمان، وقد قال بعض السلف:( إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فأحسنوا به الظن), وقد ورد عن رسول الله r الترغيب في صلاة الجماعة في المساجد، فقال:(صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة ), وقد ورد عنه أيضاً الهمُّ بتحريق البيوت على المتخلفين عن صلاة الجماعة بغير عذر لولا خوفه على النساء والأطفال. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يحضر الجمعة ولا الجماعة، فقال:(هو في النار), ونقل عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم أنه لا صلاة لمن سمع النداء ولم يجب من غير عذر. وبناء على ما تقدم يظهر للأب وجوب أداء الصلوات المكتوبة في المساجد مع جماعة المسلمين، ولا يجوز التهاون في ذلك، أو التقصير، خاصة وأن الولد لن يتعلق بالمسجد من تلقاء نفسه دون أن يكون للأب دور في ترغيبه وتعويده عليه. ومن خلال مشاركة الولد في صلاة الجماعة يتعود تجمعات المسلمين، ويتعرف على علمائهم الأجلاء، ويتعلم أدب الإصغاء إلى مواعظهم وخطبهم، فيتزود بالغذاء الروحي، إلى جانب تعوده أداء الصلاة نفسها. والطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة يميل بطبعه إلى مشاركة الكبار في أداء الشعائر التعبدية، ويحب مرافقتهم إلى دور العبادة، فيستغل الأب هذا الميل، وينميه بالوسائل التربوية المتنوعة. ولا ينبغي أن يهمل الأب في اصطحاب أولاده إلى المسجد، خاصة أبناء السابعة متذرعاً بما روى عن رسول الله r أنه قال:(جنبوا مساجدكم صبيانكم), فهذا الحديث ضعيف لا يؤخذ به، كما أنه يعارض الأحاديث الصحيحة والكثيرة الواردة في جواز ذلك، فقد كان عليه الصلاة والسلام يأتي المسجد حاملاً الحسن أو الحسين، وربما أطال صلاته بسبب صعود أحدهما على ظهره الشريف، وقد وصف أبو مالك الأشعري رضى الله عنه صفوف مسجد رسول الله r، فقال:(ويجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان), أي: إنه كان للصبيان مكانهم المخصص لهم في المسجد، مما يدل على جواز حضورهم صلاة الجماعة. ولو افترض صحة الحديث فإنه يحمل على الصغار الذين لا يدركون حرمة المسجد، ولا ينضبطون فيه، وهولاء يجب أن يمنعوا من المساجد، يقول ابن تيمية رحمة الله :(يصان المسجد عما يؤذيه، ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره، ونحو ذلك، لا سيما إن كان وقت الصلاة، فإن ذلك من عظيم المنكرات), ومن أهم الوسائل التى يتخذها الأب لتعويد ولده المسجد اختيار المسكن، فهي أول خطوة في هذا المجال، فيختار الأب مسكنه بجوار مسجد من المساجد ؛ ليكون ذلك أدعى لأداء الصلاة في جماعة، فإن كان مسكنه بعيداً عن المسجد انتقل إلى جواره، فإن لم يتمكن اجتهد في إقامة مسجد في الحي عن طريق وزارة الأوقاف في البلد، أو جمع التبرعات من أهل الحي، فإن عجز عن كل هذا ألزم نفسه وأولاده الذهاب بالسيارة إلى أقرب مسجد لأداء الصلاة في الجماعة. وإذا بلغ ولده السابعة وقرر الأب اصطحابه إلى المسجد، فإنه يحاول أن يهيء الولد لذلك قبل الموعد بفترة، فيخبره أنه سوف يأخذه إلى المسجد، ويقرب إلى ذهنه طبيعة المسجد، ليكون الولد على دراية بما سوف يشاهده فلا يفاجأ بشيء. ويكثر الأب من ذكر المسجد عند الولد، ويحاول أن يقرن كل جميل بالمسجد، فإذا أتى الولد بلعبة أو حلوى قال:(اشتريتها لك من قرب المسجد), وإذا مر بسيارته من جوار المسجد قال:(انظر إلى هذا البناء الجميل يا بني، إنه المسجد، وسوف آخذك قربياً لتصلي معي فيه), وهكذا يرغبه من وقت لآخر في المسجد ويهيئه للالتزم بالصلاة فيه. وفي اليوم الذي يتم الولد سن السابعة، ويكون الأب قد قرر أخذه في ذلك اليوم إلى المسجد يفضل أن يهيئ جو المسجد لاستقبال الولد، فيتفق مع الإمام والمؤذن وبعض المصلين من الجيران وأولادهم بأن يحتفلوا بالولد، ويرحبوا به، ويلاطفوه، ليحس الولد بالأنس فيطمئن لأهل المسجد وروَّاده، كما أن حفَّ هذه المناسبة بكل هذا الآهتمام يوقع في نفس الولد أهمية هذه الشعيرة الدينية وعظمتها، إلى جانب تخليد هذه الذكرى الحسنة في نفسه وذاكرته فلا ينساها طول حياته، فتكون له دافعا للمحافظة على الصلاة في المساجد. ويحرص الأب، خاصة في بدء ذهاب الولد إلى المسجد أن يرعاه من كل ما من شأنه تنفيره من المسجد، فإذا كان الإمام ممن يطيل في الصلاة إطالة تخالف السنة، نبهه على ذلك وأرشده إلى التوسط، والأخذ بالسنة، وذكره بقوله عليه الصلاة والسلام:(يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمَّ الناس فليوجز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة), وفي رواية:(تجاوز في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والسقيم والبعيد وذا الحاجة), فذكر عليه الصلاة والسلام حتى الصغير مراعاة لحاله، وطبيعته التي تميل إلى الانفلات وعدم التقيد، إلى جانب عدم تنفيره من المساجد، وجماعة المسلمين. ويفضل أن يكون صوت الإمام في القراءة حسناً مراعياً أحكام التجويد، فإن الصوت الحسن محبب إلى النفس، وأدعى إلى الخشوع وتذوق القرآن، فإن كان إمام الحي حسن الصوت، صحيح القراءة التزم الأب وأولاده بالصلاة خلفه، وإن لم يكن كذلك، اجتهد الأب في أخذ أولاده في بعض الأوقات إلى مساجد أخرى، يسمعون فيها القرآن ممن هم أندى صوتاً، وأخشع تلاوة. وإذا ألف الولد المسجد، وأخذ يرتاده دون عناء يمكن للأب أن يزيد من ارتباط الولد بالمسجد من خلال تعليمه إتقان الأذان والإقامة، فيؤذن نيابة عن مؤذن المسجد في بعض الأوقات، خاصة إن انشغل المؤذن الراتب، أو سافر، ويُرغَّب الولد في ذلك من خلال إعطائه الثقة بنفسه، وأنه قادر على أداء الأذان، وصوته حسن، كما يرغب فيه من خلال بيان فضله، والأجر والمثوبة عند الله للمؤذنين، وليس في أذان الولد قبل البلوغ محظور شرعي، فقد أجاز ذلك بعض السلف رضوان الله عليهم، والطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة بعد التاسعة يدرك الزمن، ويعرفه، فيمكن بناء على ذلك الوثوق به في موضوع الأذان، فيزيد بذلك ارتباطه وتعلقه بالمسجد. أما إمامة الصبي في الصلاة المفروضة فهي من أعظم الروابط التى تقيد الولد بالمسجد، وتحليه بحلية الإيمان والوقار، وقد اختلف السلف في جوازها، فمنهم من أجازها، ومنهم من منعها، فإن كان الولد قريباً من البلوغ حافظاً، متقناً للقراءة فلا بأس بإمامته في بعض الصلوات نيابة عن الإمام الراتب - إن لم يوجد من هو أفضل منه - أخذاً بقول من أجاز ذلك، واقتداء بالصحابي عمر بن سلمة رضى الله عنه حيث كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، فإن لم يتيسر ذلك في الصلوات المكتوبة، مكنه من إمامة الناس في صلاة التراويح خاصة إن كان الولد حافظاً للقرآن أو بعض أجزائه بإتقان، وقد روت السيدة عائشة رضى الله عنها أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكتاب ليقوموا بهم في رمضان، ويرغبونهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية، وهذا يدل على أنهم كانوا صغاراً تستهويهم الأطعمة الشهية، ويدرسون في الكتَّاب، فليس في إمامة الولد العاقل محظور شرعي، خاصة في صلاة النافلة، فيحرص الأب خاصة في شهر رمضان أن يقيد ولده بمسجد الحي، أو غيره ليصلي بالناس طول الشهر، فيخرج من رمضان بزاد روحي عظيم، وأدب حسن، حياء من الاجتراء على المعاصي، والأخطاء بعد أن كان قدوة يصلى الناس بصلاته، فيرزق وقار ومهابة الإمامة، والسكينة والاتزان. ومن خلال تردد الأب على مسجد الحي يحاول أن يتعرف على جيرانه من أهل المنطقة التي يعيش فيها، ويعرف أولاده على أولادهم، ويكوِّن بين الجميع علاقات وأواصر محبة، فإن المساجد في هذا العصر فقدت دروها التربوي، وأصحبت -فقط-(مكاناً يؤدي فيه المسلمون الصلاة ثم ينصرفون، يدخل المصلون في صمت، ويخرجون في صمت، لايتعارفون، ولا يتناصحون), لهذا يعمل الأب جاهداً على إكساب مسجد الحي طابعاً آخر، يحيى فيه جانب التعارف والتآخي بين الجيران الكبار منهم والصغار، فيتعرف عليهم، ويزورهم في بيوتهم مصطحباً بعض أولاده، ويدعو بعضهم عنده لتناول طعام الغداء أو العشاء، فتتكون علاقات وصلات بين أهل الحي. وبالتعاون مع إمام المسجد والجيران يكوِّن الأب حلقة لحفظ القرآن الكريم، وتعلم التجويد، يتولى الإمام الإشراف عليها، ويسعى في تكوين مكتبة علمية في المسجد بالتعاون مع الجهات المختصه في البلد، أو عن طريق جمع تبرعات من أهل الحي، فيتولى هو أو أحد رجال الحي المثقفين الإشراف على شؤون المكتبة وتنظيم كتبها، وعمل بعض الدروس البسيطة للأولاد مرة كل أسبوع، مع تنظيم مسابقات في حفظ القرآن الكريم، والحديث، والعلوم العامة بين الأولاد في المسجد، وتقديم بعض الهدايا العينية والمادية للفائزين منهم تشجيعاً لهم. ومن خلال هذه الصداقات والصلات بين أبناء الحي، والمشاركة في النشاطات المختلفة، تتكون بينهم علاقات قوية متينة، وصداقات حميمة، فينشؤون معاً في جو من العبادة، والصلاح، والرفقة الطيبة، إلى جانب زيادة حبهم، وتعلقهم بالمسجد الذي أصبح مكان تجمعهم، ونشاطهم، وبذلك يكون الأب قد وضع ابنه على الطريق الصحيح أملاً في صلاحه، واستقامته في حياته إذا كبر وبلغ.