بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله محمَّد - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم . أما بعدُ: فإنَّ الله - تعالى - بيَّن لنا في كتابه، وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحوالَ الكافرين والمشركين، وكيفية التعامل معهم، وأخَصُّ هؤلاء الكفَّار والمشركين أهلُ الكتاب مِن اليهود والنصارى. وهؤلاء كما بيَّن أهلُ العلم ينقسمون إلى أقسام: أولاً أهل الحَرْب: وهذا حال أكثرهم؛ أهل حرب وعداء للإسلام والمسلمين. ثانيًا أهل الأمان: وهو الحربي إذا آوى إلى المسلمين في جِوارهم لظرفٍ ما، واستمع كلامَ الله تعالى، وكذلك الداخلون إلى بلاد المسلمين بعهدِ الأمان \"كالتأشيرة في زماننا\"، كما قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]. ثالثًا أهل الصُّلح والعهد: وهؤلاء حربيُّون بالأصل، إلا أنَّه إذا جَنحوا للسلام والمصالحة وتعاهَدوا عليه، كان لهم ذلك العهدُ والصُّلح، ما وفوا به والتزموه، وإلا رُدَّ إليهم عهدُهم، كما قال - تعالى -: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58]، وقال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنفال: 61]. رابعًا أهل الذِّمة: وهم الذين رضُوا بالعيش والاستقرار معنا في بلاد المسلمين، ورضوا بالشريعةِ والإسلام حاكِمًا وسيِّدًا، ومِن ثَمَّ دانوا لحُكمه بالذلة والصَّغار، ولا يتحقَّق لهم ذلك كما نقَل ابنُ القيم وغيره من أهل العلم في \"أحكام أهل الذمة\"، إلا أن يَدْفعوا الجزيةَ كاملةً عن يد، ويرضوا بسيادةِ الدولة المسلِمة الحاكمة، ولا يتعرَّضوا لأحد من أهل الإسلام بسوءٍ أو إيذاء أو قتْل، أو التطاول ببناء الكنائس والمعابد في بلاد الإسلام، وإلا بطلت ذِمَّتُهم، وهؤلاء قد يُسمَّوْن في زماننا هذا بالمواطنين، وهؤلاء غالبهم اليوم يعيشون في البلادِ الإسلامية[1]. فإذا رضُوا بالذِّمَّة والعيش والإسلام والجزية، فهؤلاء قد بيَّن الله - تعالى - في كتابه في هذه الحال ضوابطَ العلاقة وقواعدها مع غير المسلمين في الجملةمِن أهل الكتاب اليهود والنصارى، فقال - تعالى -: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8 - 9]. قال العلاَّمة ابن سعدي - رحمه الله-: \"أي: لا ينهاكم الله عن البِّرِّ والصِّلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم يَنتصبوا لقِتالكم في الدِّين، والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناحٌ أن تصلوهم، فإنَّ صِلتهم في هذه الحالة لا محذورَ فيها ولا مفسدة، كما قال - تعالى - عن الأبوين المشركَيْن إذا كان ولدهما مسلمًا: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]\"[2]. وقال العلاَّمة ابنُ كثير - رحمه الله -: \"أي: لا ينهاكم عن الإحسانِ إلى الكَفرة الذين لا يقاتلونكم في الدِّين، كالنساء والضَّعَفة منهم، ﴿ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ﴾؛ أي: تُحسِنوا إليهم ﴿ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾؛ أي: تَعدِلوا ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾. قال الإمام أحمد: حدَّثَنا أبو معاوية، حدَّثَنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قَدِمتْ أمي وهي مشرِكة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقلت: يا رسولَ الله، إنَّ أمي قَدِمتْ وهي راغِبة، أفَأَصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، صِلِي أمَّك))؛ أخرجاه\"[3]. فالإحسانُ إلى غيرِ المسلمين أمرٌ جائِز شرعًا، وفي حدود ما شرَعه الله ورسولُه، ولا يعني هذا أن نُحبَّهم بقلوبنا ونودهم، كلاَّ! فالإحسان هو عملُ المعروف وبذله، لا حب الكُفر والمودَّة، وهناك فارق بينهما. كما حرَّم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ظلمهم أو التعدي عليهم بالقتل، كما جاء عن صفوانَ بنِ سليم عن عددٍ مِن أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ألاَ مَن ظلَم معاهدًا، أو انتقصَه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طِيب نفس، فأنا حجيجُه يوم القيامة))؛ رواه أبو داود والبيهقي. بل وشدَّد الوعيد على مَن هتَك حُرمة دمائهم، واعتدَى عليهم بغير حق، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما رواه البخاري عن عبدِالله بن عمرو - رضي الله عنهما -: ((مَن قتَل معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإنَّ رِيحها توجد من مسيرةِ أربعين عامًا)). كما أنه إذا أجار أحدٌ مِن المسلمين مشركًا في دار الإسلام، يجب معاونتُه على ذلك، ويَحْرُم خَفْرُ ذِمته، فقد جاء في الصحيحين؛ عن أبي مُرَّة مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالب: أنَّه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبتُ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عام الفتح، فوجدتُه يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالتْ: فسلمتُ عليه، فقال: ((مَن هذه؟))، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: ((مرحبًا بأمِّ هانئ))، فلما فرغ مِن غسله، قام فصلَّى ثماني ركعات، ملتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسولَ الله، زعَم ابنُ أمي، أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرتُه، فلان بن هبيرة، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قدْ أجَرْنَا مَن أجَرْتِ يا أمَّ هانئ))، قالت أم هانئ: وذاك ضُحًى. وأخرج البخاريُّ مِن طريق عمرو بن ميمون: أنَّ عمر - رضي الله عنه - قال - في وصيته للخليفةِ الذي بعدَه -: وأوصيه بذِمَّة الله وذمة رسولِه أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يُكلَّفوا إلا طاقتهم. ويقول القرافي: \"إنَّ عَقْدَ الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم؛ لأنَّهم في جوارنا وفي خفارتنا، وذِمَّةِ الله تعالى، وذِمَّةِ رسوله، ودِينِ الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمةِ سوء، أو غِيبة في عِرْض أحدِهم، أو نوع من أنواع الأذيَّة، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّعَ ذِمَّة الله تعالى وذِمَّة رسوله، وذِمَّة دِين الإسلام\"[4]. وهذا ينطبق على المعاهدين والذميِّين منهم. أمَّا مَن أظهروا العداوةَ والبغضاء، وسلُّوا سيوفَ الحرْب والفتن، فقد بيَّن الله ذلك في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 9]، فهؤلاء لا بِرَّ لهم ولا صِلة، وهذه قاعدة شرعيَّة واضحة في باب الولاء والبراء بين المسلمين وغيرهم مِن الكفَّار والمشركين. وبعد هذا نقول: إنَّ هذه الأحكام الشرعية وغيرها مع أهلِ الكتاب مِن اليهود والنصارى، تكون واضحةً جلية إذا كان سلطانُ وحُكم الإسلام قاهرًا، وخلافته قائِمة، وإمام الأمَّة المسلمة سائدًا بحُكم الإسلام وشريعتِه وأحكامِه، فعندها يُعطَى لهم حقوقهم، ونرضَى منهم ما عليهم. ولكن ربَّما نجد اليومَ في هذه الآونة الأخيرة، وبعدَ أن دارتِ الدائرة على المسلمين، وسقطتِ الخلافة الإسلامية الراشِدة كنِظام حُكم عام للدول الإسلاميَّة، وبعد التآمُر على إسقاطها، نجد أنَّ بعض أهل العلم يرون أنَّ عقد الذمة لهم لا يَزال قائمًا عملاً بالأصل، وأنَّ دول الإسلام وإن سقطتْ خلافتها فإنَّها لا تزال تُعبِّر عن الإسلام، ولا يزال الناس يعيش بعضُهم مع بعض، إلا إذا فَعَل أهل الذِّمة ما ينقض ذلك كرفْضِ دفْع الجزية والالتزام بأحكامِ الإسلام، وإيذاء أهلِ الإسلام وشعائره بأذى، فهذا تسقط ذِمَّته إذا أتَى بناقضٍ لها، ويُرفَع أمرُه إلى الحاكِم المسلم، فإنْ شاء قتَلَه وإنْ شاء أسَرَه كالكافر الحربي، أو يعفو عنه، أو يسرِّحه بمال في مصالح المسلمين. بينما يرى بعضٌ آخَرُ من أهل العلم أنَّ عقد الذِّمة بين المسلمين وغيرهم قد لا يكون قائمًا بالأصل؛ وذلك لانتفاء وجود الحُكم الإسلامي والخلافة والإمام القائِم بذلك، ثم لأنَّ التشريعات المدنية الحديثة وإنْ كانت تتمسَّح ظاهرًا بالإسلام إلا أنَّ جُلَّها أصبح علمانيًّا وغربيًّا لا يمتُّ إلى القوانين الإسلامية وشريعتها بصِلة، وقد أسقطتِ الجزية عن أهل الذِّمَّة، كما سقطتِ الشريعة نفسها كنظام عام للحُكم الإسلامي في البلاد الإسلاميَّة في جُلِّ أحكامها في الدولة المدنية المعاصِرة. كما نرى تمرُّد بعض طوائف مِن النصارى على أحكام أهل الذِّمَّة ورفضها، والتعرُّض في بعض الأحيان لإيذاء المسلمين بصور شتَّى، وأحوال مختلفة، وهذا واقِعٌ ومشاهَد، وقد قال ابنُ قدامة الحنبلي - رحمه الله -: \"ولا يجوز عقدُ الذمة المؤبَّدة إلا بشرطين: أحدهما: أن يلتزموا إعطاءَ الجزية في كلِّ حول، والثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قَبول ما يُحكَم به عليهم من أداء حقٍّ أو ترْك محرَّم؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]\"[5]. وقد جاءَ في هذا الشروط العمرية: \"وألاَّ نضرب ناقوسًا إلا ضربًا خفيفًا في جوفِ كنائسنا، ولا نظهر عليها صليبًا، ولا نرفع أصواتَنا في الصلاة ولا القراءة في الصلاة فيما يحضرُه المسلمون، وألاَّ نُخرج باعوثًا أو شعانين، ولا نُحدِث في مدينتنا كنيسةً ولا فيما حولها ديرًا ولا قلاية ولا صومعةَ راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا... إلخ\"[6]. وقال الإمامُ الشوكانيُّ - رحمه الله - في \"السيل الجرار\": \"أقول: ثُبوت الذِّمَّة لهم مشروطٌ بتسليم الجزية، والتزام ما ألزمهم به المسلمون مِن الشروط، فإذا لم يحصُلِ الوفاءُ بما شرط عليهم عادوا إلى ما كانوا عليه من إباحةِ الدماء والأموال، وهذا معلومٌ ليس فيه خلاف، وفي آخر العهد العمري: فإنْ خالفوا شيئًا مما شَرَطوه فلا ذِمَّة لهم، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يحل مِن أهل العِناد والشِّقاق\"[7]؛ انتهى. وأيًّا كان الأمر، فهناك أحكامٌ وأصول شرعيَّة في كلتا الحالتين تضبط الأمورَ والمسائل، وليستْ متروكةً للبحث والاجتهاد مِن آحاد الناس وعوامهم، وإلا عمَّتِ الفوضى بلادَ الإسلام، وأتت بالفِتنة التي لا تترك الأخضر ولا اليابس. وهنا نرى أنَّ الإشكال في الحقيقة في تنزيل هذه الأحكام على الواقِع، وتنزيل ما يتعلَّق بها من مسائل وفروع، حيث نجد البعضَ ربما يجتهد برأيه ويُعوِّل على قراءته للنصوص الشرعية وفهمه، ولا يرجع أو يعول فيها كثيرًا على أهل العِلم والبصيرة والنظر، كما لا يهتمُّ كثيرًا بفِقه المقاصد الشرعيَّة ومآلات الأمور وعواقبها، وكم نحن في حاجةٍ إلى مِثل هذا الفِقه وتأصيله في مِثل هذه القضايا والنوازل المعاصِرة! أو تنزيل الأحكام الشرعيَّة في الواقع بفَهْم عميق، وتطبيق صحيح. كما أنَّه لا يصحُّ أيضًا الاشتغال بفِقه الواقِع دونما تأصيل مِن العلم الشرعي، والنهل مِن معينه، فلَكَمِ انشغل أناس في فقه الواقع وغَرِقوا فيه دونما تأصيل للمسائل أو تأسيس لها، وكما قال الشيخُ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى -: \"وأمَّا الاشتغال بواقِع العصر - كما يقولون - أو \"فقه الواقع\"، فهذا إنَّما يكون بعدَ الفِقه الشرعيِّ؛ إذ الإنسان بالفِقه الشرعيِّ ينظر إلى واقِع الناس، وما يدور في العالَم، وما يأتي مِن أفكار، ومِن آراء، ويعرضها على العِلم الشرعيِّ الصَّحيح؛ ليميزَ خيرها من شرِّها، وبدون العلم الشرعيِّ، فإنه لا يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل، والهُدى والضَّلال، فالذي يشتغل بادئَ ذِي بدءٍ بالأمور الثقافية، والأمور الصَّحافيَّة، والأمور السياسيَّة، وليس عندَه بصيرة من دِينه؛ فإنَّه يَضِلُّ بهذه الأمور؛ لأنَّ أكثر ما يدور فيها ضلالة، ودعاية للباطل، وزُخرُفٌ من القول وغرور، نسأل الله العافيةَ والسَّلامة\"[8]. وقال ابن القيِّم: \"ولا يَتمكَّن المفتي ولا الحاكمُ مِن الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين مِن الفهم: أحدهما: فَهْم الواقِع والفِقه فيه، واستنباط عِلم حقيقة ما وقَع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيطَ به علمًا. النوع الثاني: فَهْم الواجِب في الواقع، وهو فَهْم حُكم الله الذي حَكَم به في كتابه أو على لسانِ رسولِه في هذا الواقع، ثم يُطبِّق أحدهما على الآخر، فمَن بذل جهده واستفرغ وسعَه في ذلك لم يَعْدم أجْرَين أو أجرًا، فالعالِم مَن يتوصل بمعرفة الواقع والتفقُّه فيه إلى معرفة حُكم الله ورسوله\"[9]. وقال أيضًا: \"فها هنا نوعانِ مِن الفقه لا بدَّ للحاكم منهما، فِقه في أحكام الحوادث الكلية، وفِقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميِّز بين الصادق والكاذب، والمُحقِّ والمبطِل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيُعطي الواقع حُكمَه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقِع\"[10]. وهنا ينبغي التنبيه على عدة أمور: أولاً: لا يَنبغي لأيِّ أحد أن يقول برأيه في مِثل هذه القضايا والنوازل الكبيرة اليوم، إلا إنْ كان من أهل العلم الموثوق بعلمهم وتحرِّيهم للحقِّ والشَّرع دون محاباة أو مداهنة، ولا يلتفت إلى أيِّ فتوى أو قول ليس عليه دليل صحيح بيِّن مِن الكتاب والسُّنة وأقوال أهل العلم، وإلا صارتِ المسائل فوضى لا زِمامَ لها ولا خطام. ثانيًا: أنه إذا صحَّ القول بأنَّ أهل الذِّمَّة اليوم لا ينطبق عليهم هذا الوصف والحال؛ لكونهم لا يعطون الجزية ولا يَرْضَون كثيرًا بأحكام الشريعة الإسلامية، فلا يعني هذا أيضًا التعدِّي عليهم بغير وجه حقٍّ أو التعرض لهم بالقتل والإيذاء، حيث إنَّ جُلَّهم عاشوا على أرض مصر مع المسلمين وفي ظلِّ الإسلام منذ 1400 عام من تاريخ الإسلام والمسلمين في أمنٍ وسلام وأمان، وقد أمَرَنا الله - تعالى - بالوفاء بالعهد والذِّمَّة، وجعلها مِن أعلى صفات أهل الإيمان، فقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، وقال - تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 34]، وقال - تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]. وقد سُئِل الشيخ العثيمين - رحمه الله -: البعض يتأوَّل في مسألة أهل الذمة بدعوى عدم وجودِ وليِّ الأمر العام أو الخِلافة؟ فأجاب بقوله: \"أنا أُوافق على أنه ليس عندنا أهل ذِمَّة؛ لأنَّ أهل الذمة هم الذين يخضعون لأحكامِ الإسلام، ويُؤدُّون الجزية، وهذا مفقودٌ منذ زمن طويل، لكن لدينا معاهَدون، ومستأمنون، ومعاهدون معاهدة عامَّة، ومعاهدة خاصَّة، فمن قدم إلى بلادنا من الكفَّار لعملٍ أو تجارة وسُمِح له بذلك، فهو: إما معاهد أو مستأمن، فلا يجوز الاعتداء عليه، وقد ثبَتَ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((مَن قتَل معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة))، فنحن مسلمون مستسلِمون لأمر الله - عزَّ وجلَّ - محترِمون لما اقتضى الإسلام احترامه مِن أهل العهد والأمان، فمن أخلَّ بذلك، فقد أساء للإسلام، وأظْهَره للناس بمظهرِ الإرهاب والغَدْر والخِيانة، ومَن التزم أحكامَ الإسلام واحترم العهود والمواثيق، فهذا هو الذي يُرجَى خيره وفلاحه\"[11]. ثالثًا: أنَّ وجود الحال بهذه الصِّفة والصورة - إذا تعرَّض أحدٌ منهم للمسلمين بالإيذاء والقهْر والعَنَت والفِتنة في دِينه، كما يحدُث اليوم من اختطاف للمسلمات وقهرهنَّ في سجون الكنيسة - وجود هذه الحال من بعض طوائف النصارى وقادتهم لا يَعْني بالجملة أن تتحوَّل الأمور والقضايا إلى فوضى عارِمة، بحيث نرى بعضَ المسلمين يحاول جاهدًا التعرُّض لهم بالمِثل، وربَّما صارتِ الأمور إلى ما هو أعظم مِن سفك الدماء والحرْق، وغير ذلك، نقول هذا ليس لعامَّة الناس. إنَّما إذا وقَع هذا، وجب على الدولة المسلمة ووليِّ الأمر فيها مِن الإمام المسلم أو النائب عنه، اتِّخاذ الواجب عليه ضدَّ هؤلاء المحاربين المفسدين والمخربين في الأرْض، والعمل على تخليصِ المسلمات مِن فِتنة الدِّين والكفر بكلِّ الوسائل والسبل؛ وهذا حتى لا تكون الأمور فوضى، فيعم البلاء والويل على البلاد والعباد. وقد نصَّ أهلُ العِلم على أنَّ إقامة الحدود في الأموال والدماء إنَّما مرجعه للإمام المسلِم ومَن ينوب عنه، وليس لآحاد الناس، وإلا صارتْ دماء الناس هدرًا، وضاع الأمن والأمان. رابعًا: ثم على أهل العِلم أن يُبيِّنوا للناس هذه الأحكامَ والنوازل في قضايا الواقع، فإذا ثبت وجودُ بعض المحاربين من النصارى بالفعل، وقيامهم بالتخريب في البلاد أو الإفساد فيها، أو فِتنة الناس عن دِينهم، فهذا حُكمه لأهل العِلم والإمام، وليس للعامَّة من الناس؛ إذ قد يترتَّب على قتال هؤلاء فِتنة أشد وأكبر مِن إفسادهم، أو يحدث إفساد أكبر ممَّا هو حاصل للمسلمين، أو قد لا يكون للدولة سلطانٌ قاهر عليهم، فعندئذٍ يُنظر في مآلات الأمور، وما يترتب عليها مِن المصالح والمفاسد للمسلمين، وهذا ليس إلا لأهل العِلم والشَّرْع والنظر، وهذا البحث محل نظر واجتهاد، لا يمكن الكلام فيه دون الاستيفاء للموضوع بحقِّه. وبعد هذا نقول: فالواجب على كلِّ مسلِم يرجو الله - تعالى - والدارَ الآخرة الحذرُ مِن الوقوع في مهاوي الفِتن، ما ظهر منها وما بطن، وألاَّ يكون مظنة للريب والشك، وألا يُعرِّض الأمة الإسلامية - ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - إلى فِتن ومِحن لا يعلم عواقبَها إلا الله تعالى، فقدِ اشتدَّ البلاء اليوم والخَطْب بالأمَّة الإسلامية، وأحاط بها الأعداء مِن كلِّ جانب، وسلُّوا عليها سيوفًا من القهر والظلم والاستبداد، لكن المسلِم يعلم يقينًا أنه على الحقِّ، وأنه منصورٌ مِن عند الله. وإنَّما يتحقَّق ذلك بالبصيرة في الدِّين والعلم، والثبات على الحقِّ، والصبر على أذى الكافرين، كما يتحقَّق بملازمة جماعةِ المسلمين والسواد الأعظم منهم، وهم مَن كانوا على أصلِ الكتاب والسُّنة وعمل السلف الصالِح من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - ولا يتعلَّق قلبه أو نفسه ببِدعة أو شُبهة لا عمادَ لها، وليحذر المسلِم في هذا الزمان من الخوض في أبواب الشرِّ والفِتنة، وما أكثرَها اليوم! ولا يكن طريقًا لنشرها، بل الواجب كما ذكَرْنا أن يتوقَّفَ عنها، ويرجعَ بالبصيرة إلى الصادقين والموفَّقين من أهل العِلم؛ ليرشدوه ويعلموه بالحقِّ والصواب، والله أعلم. ---------------------------------- [1] انظر كتاب \"أحكام أهل الذمة\" لابن القيم؛ فقد فصَّل فيه وأجاد في بيان ما يتعلَّق بهم مِن أحكام وقواعد. [2] تيسير الكريم الرحمن؛ لابن سعدي (ص: 856). [3] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير: ( 8/90)، ط. طيبة للنشر والتوزيع. [4] أنوار البروق؛ للإمام القرافي (3/14). [5] الشرح الكبير؛ لابن قدامة (10/587). [6] أحكام أهل الذِّمة؛ لابن القيم. [7] السيل الجرَّار؛ للشوكاني (1/975)، دار ابن حزم. [8] المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان (1/278). [9] إعلام الموقعين لابن القيم (1/78). [10] الطرق الحكمية (ص: 4). [11] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (25/493)، دار الوطن. كاتب إسلامي – ومشرف موقع طريق المصلحين بريد – sheikhatef@maktoob.com