وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ قد تكلمنا فيما مضى مرارا على الحروف المقطعة في أوائل السور. ذكرنا كلام العلماء فيها، وسنلم هنا ببعض قليل منه. روي عن ابن عباس وغيره أن قوله: المص أنا الله أفصل. كما روي عنه: أنا الله أعلم في الم . وروي عن جماعة أن الألف واللام والميم والصاد: أنها من أول اسمه المصور؛ لأن اسمه المصور تحته غرائب وعجائب تبهر العقول. إذا رأيتم الناس يوم جمرة العقبة مجتمعة من أقطار الدنيا -وجدتموها على صبة واحدة فالأنف هاهنا، والعينان هاهنا، والفم هاهنا على نمط وأسلوب واحد مع أنه لم تشتبه صورة رجل بصورة رجل حتى لا يفرق بينهما، ولا صورة امرأة بصورة امرأة. فكل منهم له صورة يطبع عليها، سابق علم الله بها، منفذ في تصويره بها، وهذا مما يدل على كمال وعظمة خالق السماوات والأرض. ولكن تفسير الحروف المقطعة بأنها تدل على حروف من أسماء الله. هذا التفسير وإن قال به بعض أهل العلم، وإن كان له أصل في الجملة في اللغة العربية؛ لأن من أساليبها وضع الحرف مرادا به كلمة كما قال الراجز: قلــت لهــا قفــي فقالــت لـي قــاف لا تحسـبـــي أنـــا نسينــا العجــاف
يعني بقوله: قاف وقف. ومنه قول الآخر: مــن خــير خــيرات وإن شــرا فــا ولا أريـــــد الشــــر إلا أن تــــا
يعني: وإن شرا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فجاءوا بالحرف واستغنوا عن الكلمة. لكن هذا التفسير لم يقم عليه دليل، ولا يجب الرجوع إليه، وقد يفتح باب هذا التفسير للباطنية الزنادقة؛ حيث يفسرون الكلام برموز وألغاز غير مرادة . وقال بعض العلماء: إن معنى قوله
المص أنه اسم لهذه السورة، بعضهم يقول: اسم من أسماء الله، وبعضهم يقول: هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. وأظهر الأقوال التي دل عليها استقراء القرآن -أن الحروف المقطعة أظهر أقوال العلماء فيها -مع كثرتها وانتشارها- أظهرها قول واحد؛ لأنه دل عليه استقراء القرآن في الجملة، وما دل عليه استقراء القرآن فهو أقرب من غيره. والقول الذي دل عليه استقراء القرآن هو قول بعض العلماء: إن المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور إظهار إعجاز القرآن، فكأن الله يقول للبشر ألف لام ميم صاد هذه حروف من الحروف المتداولة بين أيديكم، تركبون منها كلامكم. فلو كان هذا الكلام من عند غير الله، وهو مؤلف من حروفكم المتداولة بين أيديكم لكنتم تقدرون على تأليف مثله، فلما عجزتم عن تأليف مثله، وهو من الحروف المعروفة لديكم مركب منها عرفنا بذلك أنه تنزيل من حكيم حميد لا من البشر. ووجه الاستقراء الذي دل على هذا القول -أن الله في جميع القرآن، في جميع السور المبدوءة بحروف مقطعة لم تذكر منها سورة واحدة إلا وجاء بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من شأنه؛ فدل هذا على هذا، ولم يخل من هذا في سائر القرآن إلا سورتان سورة مريم وسورة القلم. أما غير ذلك فلا تذكر الحروف المقطعة إلا ذكر بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من أمره. قال في البقرة:
الم فأتبعه بقوله:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وقال في آل عمران:
الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وأتبعه بقوله:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ الآية. وقال هنا في الأعراف:
المص ثم أتبعه بقوله:
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ وقال في سورة يونس:
الر ثم أتبعه بقوله:
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وقال في سورة يوسف:
الر ثم قال:
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ الآية. وقال في الرعد:
المر ثم قال:
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ الآية. وقال في سورة الخليل:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وقال في سورة الحجر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ . وهكذا في سائر القرآن إلا في سورة مريم والقلم؛ حيث أتبع الحروف المقطعة في سورة مريم في قوله:
كهيعص بقوله:
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وقال في القلم:
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مع أن هذه يحتمل أن المراد بما يسطرون هو هذا القرآن العظيم؛ لأنه أعظم ما يسطر فيكون في مريم فقط .