[وقوله: يقول تعالى يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار متفق عليه . وقوله: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان .]
(الشرح) قوله: وقوله:
في هذا الحديث إثبات صفة النداء والصوت، وفيه بيان كثرة من يدخل النار ففي يوم القيامة ينادي الله تعالى آدم فيسمعه فيلبي دعوته، فيناديه الله تعالى بصوت مسموع، ويأمره بأن يخرج بعثًا من ذريته إلى النار، فيقول: مِن كم يا رب؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فهذا نصيب النار وواحد للجنة. والشاهد من الحديث أن فيه إثبات صفة الكلام. أولا : قوله: يقول الله ، والقول هو الكلام. ثانيا : قوله: يا آدم ، يا حرف نداء، يا آدم كلام فصيح مفهوم، يسمعه آدم فيدل ذلك على أن كلام الله تعالى مسموع يلبيه آدم بقوله: لبيك وسعديك ومعنى لبيك: الإجابة ولزوم الطاعة، أي أنا ملازم لإجابتك وطاعتك مرة بعد مرة، وملازم لما يسبب الإسعاد منك. ثالثا : قوله: فينادي بصوت هذا هو الشاهد. رابعا: ذكر الكلام الذي تكلم الله تعالى به وأسمعه آدم وهو قوله:
كل هذا يتكلم به الرب سبحانه وتعالى ويسمعه آدم أفلا يدل ذلك على أن الله تعالى متكلم، ويتكلم إذا شاء، وأن كلام الله مسموع، أفلا يدل على أن كلام الله تعالى بصوت كما يشاء؟ أفلا يدل على إثبات النداء؟ والنداء لا بد أن يكون بصوت، أفلا يدل على إثبات صفة الكلام؟ حيث ذكره بهذه الكلمات، أفلا يدل على إثبات القول؟ والقول لا بد أنه كلام. والمبتدعة من المعتزلة ونحوهم أنكروا صفة الكلام، وقالوا : إن الله لا يتكلم ولن يتكلم؟ لأن الكلام من صفات المحدثات والمركبات، ولما جاء دور القرآن وقفوا حيارى، فلم يجدوا إلا أن يقولوا: القرآن مخلوق كسائر المخلوقات، فأنكروا هذه الدلالات ، وأنكروا الآيات التي فيها التصريح بأن الله يقول، وأنه يتكلم، وأنه ينادي، أو تمحلوا في تأويلها بما لا يقبله العقل. جاءت الأشاعرة وهم أيضًا من أهل الكلام، وقد قاربوهم في نفي كثير من الصفات، كصفة العلو ونحوها فأثبتوا صفة الكلام ولكن ظلوا حيارى، لا إلى أهل السنة ولا إلى المعتزلة، فقالوا: إن كلام الله نفسي لا بحرف ولا صوت، فزعموا أن الكلام هو ما يقوم بذات الله لا أنه هذا المعنى البارز والحروف والأصوات. قوله: يا آدم : يعني خص آدم ؛ لأنه أبو البشر، والإنس كلهـم من ذريته هم بنو آدم، كأنه أخبر بأن من ذريته من هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار، وأن الأكثرية من أهل النار، وليس معناه أنه هو الذي يُدخل هؤلاء الجنة باختياره وهؤلاء النار باختياره، بل المراد إخباره بقدر من يدخل الجنة ومن يدخل النار، لهذا قال:
يعني من كم يدخل الجنة؟، فأخبره بقدر من يدخلها من الألف، وأن الذي يدخلها من الألف واحد فقط، وهذا يدل على أن هذ5 الجنة لا ينالها إلا القلة القليلة، وأن الأكثرية للنار، والعياذ بالله، لذلك يقول ابن القيم في نونيته:
وقد حزن الصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا هذا الحديث وقالوا: أيُّنا ذلك الواحد؟ فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الأمم والشعوب غيرهم وقال:
. فأمة الإجابة- وهذا حقيقة ومشاهد- وهم الذين حققوا الإسلام في أنفسهم قد لا يمثلون واحدا بالألف، ويمكن أن يكونوا واحدًا بالألف بالنظر إلى زماننا هذا، وهناك أزمنة يطغى فيها الكفر على الإيمان، وهناك أمم انقرضت كلها على العصيان، كأمم الأنبياء السابقين، حيث أخبر النبي عليه السلام بأنه لما كشف له
. وقص الله علينا بعض أخبار الأنبياء، وأن الذين آمنوا بهم قليل
وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40 ] فهذا يدل على أن الأكثرية هم أهل العذاب والعياذ بالله. ولعل السبب في ذلك أن الإيمان في نظرهم يحرمهم من شهواتهم المألوفة، هذا في نظرهم وتصورهم، وإلا فلو حقَّقوا لعلموا أن تلك الشهوات ولو كانت مستلذة طبعًا، فإنها ضارة في النهاية طبعًا وشرعًا. وبكل حال فإن الدلالة واضحة من الحديث وهي إثبات صفة النداء والصوت هذا هو القصد من إيراده. قوله: (وقوله:
): وتمامه:
الشاهد منه ذكر التكليم، وأن الرب تعالى يكلم عباده كفاحًا منه إلى الواحد بلا واسطة مترجم، والترجمان هو الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، يترجمه: يعني يعبر به؟ يحفظ لغتين أو أكثر، فيكلم هذا بلغته ويأخذ كلامه، ثم يعبر به إلى الآخر باللغة التي يفهمها كما هو معروف. الحاصل أن الحديث فيه إثبات صفة الكلام، يعني ليس منكم أي شخص إلا ولا بد أن يكلمه ربه، والرب تعالى قادر على أن يكلم عباده في لحظة واحدة، كما يسمع دعاءهم في لحظة واحدة ويميز هذا عن هذا، فإنه تعالى يسمع كلام خلقه، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات وتفنن المسئولات، فهو قادر على أن يكلم ألوف الألوف في لحظة واحدة يكلم كلا منهم بما يفهمه ويحاضره ويسأله ويناقشه كما يشاء، ولا يشغله شأن عن شأن. فقوله: سيكلمه فيه إثبات صفة الكلام، والكلام هو ما يعبر به ويفهمه السامع أو المخاطب الذي يفهم تلك اللغة وقوله:
يفيد أنه كلام واضح يفهمه، وأن الترجمان والمترجم هو الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، فيدل على أنه لا يحتاج إلى مترجم، بل يفهم خلقه كلامه. فاتضح لنا من هذا الحديث والذي قبله إثبات صفة الكلام لله تعالى والرد على الطائفتين، على المعتزلة الذين قالوا: كلام الله مخلوق أو قالوا: لا يوصف الله بالكلام، وعلى الأشاعرة الذين قالوا: إن كلام الله معنًى واحد، وأنه ما يقوم بنفسه، وأن الأصوات وكذلك الحروف والعبارات إنما هي معان لكلامه وتعبيرات، وأن كلام الله معنى واحد، إن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرية فهو توراة، وإن عبر بالسريانية فهو إنجيل هكذا يقولون. وهذا كله تخبط؛ وذلك لأنه يوجد التفاوت بين معاني القرآن وبين معاني الكتب الأخرى، كالتوراة والإنجيل والزبور ونحوها؛ ولكون الجميع يطلق عليه أنه كلام الله؛ ولكون الله تعالى صرَّح بأنه متكلم، وبأن كلامه ليس محصورًا- على حد تعبيرهم- في لغة أو جهة معينة، فعلى كل فالأدلة أكثر من أن تحصى في إثبات صفة الكلام كما يعتقده المسلمون. فيثبت المسلم على هذه العقيدة وينصح بعدم قراءة شبهاتهم مخافة أن تتمكن شبهة من قلبه لا يستطيع ردها، بل يقتصر على الكتب التي تثبت أو تستدل بالأدلة ولا تتكلف في صرف ولا رد شيء من تلك الأدلة.