تقدير الأشياء قبل وجودها

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : ابن جبرين | المصدر : www.ibn-jebreen.com

[وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا:
فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه؛ بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. ونحو ذلك.
وهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكروه اليوم قليل] .


(الشرح)* قوله: (وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء..):
هذا التقدير: تقدير الأشياء قبل وجودها عمدته علم الله تعالى الموصوف به أزلا وأبدا. يقول: إن هذا التقدير هو التابع لعلم الله تعالى، فمن آمن بعلم الله وآمن بأن الله بكل شيء عليم، آمن بهذا التقدير فإنه يقال: ما الفرق بين علمه بما حصل وعلمه بما لم يحصل ؟ إذا كان الله تعالى موصوفا بأنه بكل شيء عليم، فيدخل في كل شي (ما لم يوجد).

فنقول: إن الله عليم بالأشياء قبل أن توجد، عليم بما الخلق عاملون، علم عدد من يوجد من الخلق، وعلم عدد أهل الجنة، وعلم عدد أهل النار، وعلم أعمال هؤلاء قبل أن يعملوها، وأعمال أولئك قبل أن يعملوها، وعلم تفاصيل ذلك كله، علم أن هذا الشخص سيعمل بكذا، ويوجد له من العمل كذا وغير ذلك من تفاصيل علم الله.
فمن آمن بالعلم آمن بهذا التقدير، ومن أنكر هذا التقدير، ألزمناه بأن ينكر العلم. ولهذا ذكرنا أن الإمام الشافعي رحمه الله قال في منكري علم الله تعالى الأزلي بما كان وما يكون: نَاظِروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. يعني احتجوا عليهم بمسألة العلم، قولوا لهم: أتقولون بأن الله بكل شيء عليم؟ فإن أقروا به خُصِمُوا. قلنا لهم : ما الفرق بين علم ما مضى وعلم ما سيأتي؟
وإن جحدوا العلم كفروا، حيث إنه يلزم منه وصفهم لله تعالى بالجهل، ويلزم أيضًا إنكارهم للأدلة الصريحة التي صرحت ووصفت الله تعالى بالعلم العام كما في قوله تعالى:

يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى: 7] !

يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7]

وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16]

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29]

وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام: 59] وما أشبه ذلك، فالأدلة الكثيرة التي في إثبات العلم من أنكرها كفر؛ لأنه أنكر هذه الأدلة الصحيحة الصريحة الواضحة، التي ليس فيها التباس، ولزمه تنقص الله عز وجل.
يقول: هذا التقدير التابع لعلم الله تعالى يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فذكروا أن هذا التقدير ينقسم إلى أربعة أقسام:
تقدير عام، وتقدير عمري، وتقدير سنوي، وتقدير يومي.
فأما التقدير العام: فهو علم الله بما كان وبما يكون، وكتابته ذلك- كما تقدم- في اللوح المحفوظ

أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة

هذا هو التقدير العام، يعني تحديد الأعمار ومقاديرها، وتحديد الأعمال والمصائب وأماكنها وما أشبه ذلك، كما في قوله تعالى:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].
ذكرنا فيما سبق أن هذا التقدير الذي هو تحديد المصائب وأوقاتها وأماكنها وما أشبه ذلك، فائدته أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، ويعتقد أنه كله من الله، وإذا أصابه شيء فلا يجزع، ولا يقول: ليتني تأخرت حتى أنجو، ليتني تقدمت حتى أنجو، لو فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن يرضى ويسلم ويقول: قدر الله وما شاء فعل، أي هذا قدر الله وما شاء فعله بعباده ويقول:

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة : 51].

ولما ذكر الله آية المصائب:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أتبعها بقوله:

لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ يعني لا تفرحوا فَرَح أشر وبطر بما أعطاكم، وقولوا: هذا من الله مكتوب لنا.
ولا تكونوا كما حكى الله تعالى عن قارون ؟ أنه فرح بما آتاه وبما حصل عليه، فنصحه قومه وقالوا:

لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 176] فقال لهم:

إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي إنني ما حصلت على هذا المال إلا بقوتي وبجهدي وكدي وقوة تفكيري وكسبي واجتهادي، وما أشبه ذلك، ولم يرد الأمر إلى تصرف الله وعطائه.
وذكرنا أن هذا لا ينافي فعل الأسباب، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:

احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان

فأمرك بأن تحرص على ما ينفعك، وتبذل جهدا، إن هذا البذل في مُستطاعك وإن كان مكتوبًا مقدرًا، وبه تعمل، وبه تحصل على سعادة الدنيا والآخرة، وبضده تحصل الشقاوة، وأمرك بأن تستعين بالله يعني: لا تعتمد على تصرفك وحرصك، وأمرك بألا تعجز أي لا تتوانى وتتكاسل، وأمرك عندما تصاب بمصيبة أن تفوض الأمر لله وتقول: هذا قضاء الله، ولا تقل: لو، لو فإن لو تفتح عمل الشيطان.
فالحاصل أن هذا التقدير العام هو كتابة الأشياء قبل أن تخلق الموجودات في اللوح المحفوظ.
وأما التقدير العمري: فهو المذكور في حديث ابن مسعود يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك

فأخبر بأنه يرسل إليه الملك بعد الأربعين الثالثة، أي بعد أربعة أشهر، فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فهذا يسمى التقدير العمري.
يُنسخ له كتاب من اللوح المحفوظ فيه عمله كله لا يتجاوزه، ولا يزاد فيه ولا ينقص منه- من حين يولد إلى أن يموت- يكتب فيه أنه سيعمل كذا وكذا، طال عمره أم قصر، فهذا تقدير عمري، يكتب رزقه: يحصل من الرزق على كذا، ومن العمل على كذا، وأجله طول أيامه وقصرها وسنواته، وعمله يعني أعماله التي هي إما عمل صالح أم ضده، وشقي هو أو سعيد، كل ذلك ينسخ وهو في بطن أمه، ويبقى كتابًا له مستقلا يعمل عليه ولا يغير، هذا هو التقدير العمري .
أما التقدير السنوي: فهو تقدير يكون في ليلة القدر بأن يكتب فيها ما يحدث إلى مثلها من العام القادم، تقدير سنة كاملة بأن يقدر الله تقديرا سنويا في هذه الليلة أنه سيحدث في هذه السنة كذا وكذا، فالتقدير العمري خاص بشخص، ولكنه طوال عمره لكل السنوات، وأما التقدير السنوي فهو عام لما يحدث على وجه الأرض في سنة واحدة، أنه يحصل فيها مرض كذا، ويحصل فيها جدب كذا وقحط كذا، وعذاب ورحمة، وكفر وإيمان، هذا هو التقدير السنوي.
أما التقدير اليومي: فهو وقوع تلك المقدرات في كل يوم، ودليله قوله تعالى:

كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] فتتجدد الأشياء في كل يوم وتكون تقديرا يوميا. هذا هو التقدير اليومي، والأصل أن الجميع كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وأنه ينسخ منه ما يشاء الله ويمحي في تلك الصحف، ويُغير فيها قال تعالى:

يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39].
أم الكتاب: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه مقادير كل شيء، فهذا لا يتغير، أما ما يكون في صحف الملائكة، فإنه قد يُمحى منه ذنب بتوبة، وتُبدل سيئة بحسنة، وما أشبه ذلك، وهذا معنى قوله:

يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ أما ما في أم الكتاب فإنه لا يغير ولا يبدل.

متى آمن العبد بمثل هذا كله اطمأن قلبه، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يُقَدَّر عليه ما قَدَرُوا على ذلك، هذا هو التقدير الذي هو العلم، ومنكره سابقا هم غلاة القدرية، ومنهم غيلان القدري الذي أنكر العلم السابق، ومنهم أيضا معبد الجهني الذي زعم أن الأمر أُنُفٌ، وأن الأمور تُسْتَقْبَل استقبالا، وأن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد، ولا يعلم شيئًا لم يوجد.
وآخرون قالوا: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، يعني أفراد الأعمال، يعلم الكليات بمعنى: أنه يعلم أن هذا سعيد وهذا شقي، ولكن لا يعلم تفاصيل أعمال هذا السعيد، ما هي حسناته وما عددها، ولا يعلم تفاصيل أعمال هذا الشقي، ما هي سيئاته وما عددها، هذا قول من الأقوال.
ولكن الله تعالى موصوف بعموم العلم، وليس هناك فرق بين دقيق العلوم وجليلها.