(1871-1932م)
توفي والده وهو في الرابعة من عمره، فانتقلت به والدته إلى القاهرة حيث كفله خاله، وهناك التحق ببعض المدارس ولكنه لم يبد تفوقاً، ثم انتقل مع خاله إلى طنطا، وهناك ساءت العلاقة بينهما، فقد بدا على حافظ تعلق بالأدب والشعر، في حين كان خاله يريد له سبيلاً آخر، فهجر بيت خاله وعمل في مكاتب بعض المحامين، وسرعان ما سئم هذه المهنة وفي سنة 1888م التحق بالمدرسة الحربية، وتخرج سنة 1891م، فعين ملازماً في وزارة الحربية، ثم نقل إلى دائرة الشرطة في وزارة الداخلية. وفي سنة 1896 أرسل إلى السودان في عداد الحملة المصرية الإنكليزية التي كانت بقيادة اللورد كتشنر، ولما نشبت ثورة 1899 في السودان اتهم بالاشتراك فيها مع عدد من الضباط وحوكم وأحيل على الاستيداع، وفي سنة 1903 طلب إحالته على المعاش فأجيب إلى طلبه، ولم يبق له عمل يرتزق منه، وقد امتدت مرحلة البطالة من سنة 1900 إلى 1911. وكانت تلك الحقبة أشد مراحل حياته بؤساً وأشقاها. وكانت في الوقت ذاته أخصب المراحل في نتاجه الأدبي وأجداها. وكان وهو في السودان قد راسل الشيخ محمد عبده شعراً ونثراً، فلما عاد إلى القاهرة واعتزل العمل الحكومي التحق بدروس الشيخ ومجالسه، واتصل عن طريقه برجال مصر البارزين أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمود سامي البارودي وتوفيق البكري والمنفلوطي والمويلحي، وكان هؤلاء يمثلون نخبة رجال مصر في الوطنية والاجتماع والإصلاح الخلقي والعلمي، وهي الفئة التي وضعت أسس نهضة مصر الحديثة. وكان اختلاطه بهذه الجماعة سبباً في تفتح عينيه على فاجعته في نفسه، وفي الشعب المصري كله، وهو ابن الشعب الذي عرف الآلام نتيجة الضيق واليتم والحرمان، فالتأم في نفسه شقاؤه بشقاء أمته، بعد أن رأى فقر شعبه وبؤسه، فانطلق ينظم من الشعر ما يفرج عنه وراح يدعو الشعب للنهوض ويشحذ منه العزائم ليعيد إلى البلاد مجدها، وكان يشعر بمحنة أمته بالإنكليز وما ينزلونه بالشعب من ضروب العسف والظلم والتنكيل، وما يستنزفونه من خيرات البلاد وينهبونه من أرزاقها، فيحاول أن يفتح العيون على سوء حال وطنه وأمته، وقد صادفت قصائده هوى في نفوس تلك النخبة التي حملت لواء الإصلاح. وفي هذا الوقت ذاع صيت حافظ في المحافل والأندية الأدبية، وتناولت الصحف قصائده، ومع ذلك ظل في شعره دائم الشكوى من بؤسه وسوء حالته. وفي سنة 1911 عينه وزير المعارف رئيساً للقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، فابتدأت مرحلة جديدة في حياته، توارت فيها الخيبة والحرمان وحلّ محلهما الاطمئنان، وقد منح رتبة «البكويّة» من الدرجة الثانية و «نيشان النيل» من الدرجة الرابعة، ونعم في منصبه هذا بسعة العيش وحسن التقدير، ولكن سعة العيش تركت أثراً سلبياً في شاعريته وفنه وإنتاجه، فقد نضبت قريحته أو كادت.. وفي سنة 1932 أحيل على المعاش، وكان رئيس الوزراء في مصر آنذاك إسماعيل صدقي الذي نكل بالزعماء الأحرار، فعادت لحافظ ثورته التي كانت تضطرم في نفسه في عنفوان شبابه فأخذ يهزأ بالإنكليز وجيوشهم ويتحداهم، ولكن القدر لم يمهله حتى يكمل رسالته إذ مات في السنة ذاتها. لم يتلق حافظ إبراهيم في المدارس شيئاً قيماً من الثقافة، ولكنه كان يقرأ من الكتب ما يوافق هواه ويلائم مزاجه، ويتمثل ما يقرأ، فقرأ دواوين فحول الشعراء وحفظ كثيراً من الأشعار، وكانت تسعفه في ذلك حافظة عجيبة، تأثر بالمعري من القدماء وبالباردوي من المحدثين، أما المدرسة الفكرية التي عملت على تطور شخصيته ودفعته إلى طريق الإصلاح الاجتماعي والسياسي فهي مدرسة رجال الفكر الذين التقاهم في مجلس محمد عبده والأشخاص الذي كان يختلط بهم في المقاهي بباب الخلق والسيدة زينب وحي الأزهر وأكثرهم من الشعراء والأدباء، ولكن هذه الثقافة لم تكن عميقة أو منهجية، غير أنه كان يسحر المجالس بحديثه وما يرويه من شعر وما يورده من نوادر وطرف وأقاصيص، وكان فكهاً ميالاً إلى الدعابة، يلقيها بخفة روح، وذلك على نقيض ما يرى في شعره من ميل إلى التشاؤم واليأس وكان من طبعه الوفاء لأصدقائه، يتقبل منهم نقدهم قصائده، فيقرؤها عليهم قبل نشرها ليعرف صداها في نفوسهم ويقوم اعوجاجها إن وجد، ولكنه كان مهملاً، فلم يعن بجمع آثاره في حياته، بل كان يبقيها على أوراق غير مبالٍ بها، ولما عزم على إصدار ديوانه اضطر إلى جمع الكثير من قصائده من الصحف وأفواه الأصدقاء، وظل كثير من شعره مفقوداً. عرف حافظ بالمروءة والأريحية، وكان على بؤسه وضيق حاله متلافاً للمال، لايبخل بقليله ولايرد سائلاً، ولم يكن يضن على نفسه بما يمتعها من مباهج الحياة، فينفق إنفاق المترفين. وكانت صراحته الشديدة من أسباب إخفاقه في حياته الرسمية. لحافظ إبراهيم ديوان معروف أكثره في المدائح والتهاني والمراثي، غير أن أجمل أشعاره كانت في الاجتماع والسياسة. بلغت المدائح والتهاني في ديوان حافظ زهاء الربع، وكان يقول المديح أحياناً في أناس لا يستحقونه، وقد بقي يهنئ ويمدح حتى أيام جدبه الشعري. ولكنه كان يتلطف في قوله ويبدي براعة في معالجة هذا الغرض، فكانت أماديحه على الرغم مما فيها من مبالغات زاخرة بالحكم والمعاني التي تعم الناس ولا تخص الممدوح فقط، وتدعو إلى العمل النافع، ويبدو ذلك في مدحه لشوقي حين يقول: وخذ بزمام القوم وانزع بأهله إلى المجد والعلياء أكرم منزع وقد أخذ عليه رثاؤه للملكة فيكتوريا ومديحه للملك إدوارد سنة 1902، ولكن كثيراً من ناقديه يعزون ذلك إلى خوفه من الإنكليز في تلك الحقبة، فهو يداورهم ويجاملهم، حتى إذا أجيب إلى طلبه وأحيل على المعاش، أصبح خالصاً لشعبه. أما مراثي حافظ فهي أغزر أبواب ديوانه، وهو في ذلك يقول: إذ تصفحت ديواني لتقرأه وجدت شعر المراثي نصف ديواني وكان يصور في رثائه عاطفته الشخصية بأسلوب المتفجع، وكان يلون رثاءه بألوان الشخصيات المختلفة التي يرثيها، ففي رثائه لأصدقائه تبرز روح الوفاء كما يبرز التفجع والأسى، أما رثاؤه للزعماء فكان ملحمة وطنية يتمثل فيها الوطن مفجوعاً بأعز الناس إليه. ومن خير مراثيه قصيدته في رثاء الإمام محمد عبده ومطلعها: سلام على الإسلام بعد محمدٍ سلامُ على أيامه النضرات على الدين والدنيا، على العلم والحجى على البرّ والتقوى على الحسنات ولحافظ قصائد يرثي فيها الإنسانية في نكبتها ويشعر بالفجائع أنى كان موقعها، ويبدو ذلك في رثائه لمدينة مسينة التي أصابها الزلزال فأغرقها. ويبدو حافظ في كل ما نظم من رثاء عميق الإحساس صادق المشاعر مما يجعل قارئه يعيش في موكب من عواطف الشاعر، مما حدا بشوقي إلى أن يقول في رثائه حافظاً: قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء أما شعره الاجتماعي والسياسي والوطني فقد هز به القلوب، فلقب بشاعر الشعب وشاعر النيل. وكان من دعاة الإصلاح الاجتماعي، يحث الأغنياء على رعاية الفقراء، وهو يشفق على اليتيم والمحروم فيدعو إلى إزاحة البؤس عمن ضاقت بهم سبل العيش ولفّهم الشقاء والحرمان، وهو في الوقت نفسه يتألم من عسف الإنكليز وظلمهم، وتراه يتحدث إلى الشعب بشعر قوي الأثر في نفوس قارئيه وسامعيه نحو قوله: أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ونحن نمشي على أرضٍ من الذهب والقوم في مصر كالإسفنج قد ظفرت بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب وهو في شعره السياسي يدعو الشعب إلى النهوض من الغفلة والتسلح بالخلق القويم والعلم ـ وكان في نظرته الاجتماعية الإصلاحية يلح على تحصين المال بالعلم النافع. أما موقفه من المرأة فكان وسطاً يدعو فيه إلى الاعتدال وحسن المعاملة، فيقول: فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا فالشر في التقييد والإطلاق ومن أبرز الأحداث التي هزته حادثة «دنشواي» التي علق فيها الإنكليز المشانق لإرهاب الشعب، ولكنه ينهج في قصيدته عنها أسلوب التهكم والسخرية، كما هي حاله في أكثر قصائده السياسية، ويبدو فيها كأنه يداري المحتل وإن كان في حقيقته يداوره ويفضح أساليب عسفه، وكأنه كان يحتاط لنفسه من سجنه، وهو القائل: إذا نطقت فقاع السجن متكأ وإن سكت فإن النفس لم تطب ولذلك نراه يصرخ متألماً عندما صدر قانون المطبوعات في مصر في عهد بطرس غالي، وفيه قضاء مبرم على الحريات: إن البليّة أن تباع وتشترى مصرٌ، وما فيها، وألاّ تنطق وهو في ندائه لشباب مصر يتقلب بين دعوتهم إلى الثورة حيناً والمداورة والمحاورة حينا آخر، وأخذ الحقوق عن طريق الحيلة والدهاء. ومن أجمل قصائده الاجتماعية القومية تلك التي يدافع فيها عن اللغة العربية دفاع المحبّ للغته المؤمن بعزتها ويتصدى لمن يعتقد أنها لغة ميتة. وفي قصيدته العمرية التي يصف فيها عمر بن الخطاب الذي عدل فأمن، دعوة مبطنة إلى القائمين على الحكم أن يعدلوا وذلك إضافة إلى ما فيها من الاعتزاز بالعروبة وتاريخها. ولكنه، على حبه مصر ومجدها، غلب عليه الخوف عندما أصبح موظفاً فكتم مشاعره إلا قليلاً، كأنما أقام على نفسه رقيباً، فلم ينظم أشعاراً وطنية حذر ذوي البأس وأصحاب السلطان، ولكنه عندما قامت ثورة 1919 وخرجت مظاهرات النسوة وتصدى لها الإنكليز، ثارت وطنيته ثانية فنظم قصيدته الساخرة: خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنّه وقد ألهبت القصيدة الحماسة في صدور الشباب. لم يحظ حافظ بخيال محلق في عالم التصوير وابتكار المعاني ولهذا مال إلى بساطة التعبير، واعتمد في معانيه على الحياة أكثر مما اعتمد على التعمق في الدراسة، ومع ذلك فقد ساعده ما حفظ من تراث العرب على تلوين المعاني القديمة بلون حديث، وتتجلى في شعره قوة العاطفة و إرهاف الحس اللذان عوضاه عن سعة الخيال، أما أسلوبه فقد كان واضحا كما بدت الموسيقى الشعرية جلية في ألفاظه وتراكيبه. ولحافظ إبراهيم ديوان شعر جمعه في حياته ولكنه لم يدرج فيه قصائده جميعها. وقد جمع أصدقاؤه في مصر القصائد التي خلا منها الديوان ونشروها، ثم أشرف أحمد أمين على تلك القصائد فنسقها وضبطها وأخرجها ديوانا لحافظ إبراهيم في جزأين. ولحافظ أيضا نثر أدبي قليل لا يصل إلى مستوى شعره، ومن آثاره النثرية «ليالي سطيح» وهو مقالات نقدية وخواطر في الأدب والسياسة والمجتمع، وقد ترجم رواية فيكتور هوغو المشهورة «البؤساء» ولكنه لم يتقيد كثيرا بالنص الأصلي.