في شهر شوال من السنة الخامسة من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانت غزوة الأحزاب - التحذير من النذر والحث على الإيفاء بالعهود
المادة الصوتية
... فإنه في هذا الشهر - شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة - كانت غزوة الأحزاب التي ذكرها الله تعالى في سورة الأحزاب وكان فيها أن قريشًا تألَّبوا على النبي - صلى الله عليه وعلى آله - وأصحابه، وأتوا إلى المدينة وكان من جملة مَن ساعدهم على ذلك يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فغزاهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بعد أن رجع من الأحزاب في أوائل شهر ذي القعدة من العام الخامس من الهجرة النبوية ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، الحمد لله +الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" [التوبة: 33]، وعَدَ بالنصر مَن ينصره بإقامة دينه وإعلاء قوله، وجعل لذلك النصرِ أسبابًا ليشمّر إليها مَن أراده من خلقه، +وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج: 40-41]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى رحمة للعالمَين وقدوة للعامِلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فإنه في هذا الشهر - شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة - كانت غزوة الأحزاب التي ذكرها الله تعالى في سورة الأحزاب وكان فيها أن قريشًا تألَّبوا على النبي - صلى الله عليه وعلى آله - وأصحابه، وأتوا إلى المدينة وكان من جملة مَن ساعدهم على ذلك يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فغزاهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بعد أن رجع من الأحزاب في أوائل شهر ذي القعدة من العام الخامس من الهجرة النبوية، وكان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حين قدم المدينة عاهَدَ القبائل الثلاث من اليهود وهم: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، قدمت هذه القبائل من الشام إلى المدينة؛ لأنها - أي: المدينة - هي البلدة التي ينطبق عليها وصف مهاجَر النبي صلى الله عليه وسلم، +الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ" [الأعراف: 157] .
جاءت هذه القبائل إلى المدينة لتتلقّى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولتنصره وكانوا من قَبل يستفتحون على الذين كفروا ولكن عزيمتهم انتقضت وحالهم تغيّرت حين جدَّ الجِّد، وبُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمن به من اليهود إلا القليل، مثل: عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ولما قدِم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - المدينة عقد معهم عهدَ أمان ألا يحاربهم ولا يُخرجهم من ديارهم وأن ينصروه إن دهمهم عدوٌّ بالمدينة وألا يعينوا عليه أحدًا .
هذه أربع نقاط كان العهد عليها، ولكن اليهود - وهم أهل الغدر والخيانة - نكثوا هذا العهد خيانةً وحسدًا، فقد نقضت كل قبيلة عهدها إثر كل غزوة كبيرة وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم، فإثر غزوة بدر وهي في السنة الثانية من الهجرة « أظهر بنو قينقاع العداوة والبغضاء للمسلمين واعتدوا على امرأة من الأنصار فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - كبارهم وحذّرهم من عاقبة الغدر والخيانة والبغي ولكن ردّوا عليه أبشع ردّ فقالوا: يا محمد، لا يغرنّك مِنْ قومك ما لقيت، يعْنون قريشًا في بدر حين هزمهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال اليهود: فإن قومك ليسوا بأهل حرب ولو لقيتنا لعلمت أننا نحن الناس، وكانت هذه القبيلة - بنو قينقاع - حلفاءَ للخزرج فقام عبادة بن الصامت الخزرجي - رضي الله عنه - فتبرّأ من حَلِفِهِم ولايةً لله ورسوله وعِداءً لأعداء الله ورسوله لإيمانه بالله ورسوله، أما عبد الله بن أُبي الخزرجي رأس المنافقين فإنه لنفاقه وكفره باطنًا تشبّث بمحالَفَةِ هؤلاء اليهود ودافع عنهم وقال: إني أخشى الدوائر، فأبطن اليهود الشر وتحصّنوا بحصونهم فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بضع عشرة ليلة حتى نزلوا على حكمه فَهَمَّ بقتلهم ولكن استقر الأمر بعد ذلك على أن يَجلوا من المدينة بأنفسهم وذريتهم ونسائهم ويَدَعوا أموالهم غنيمةً للمسلمين، فَجَلَوا إلى أذريعاتٍ في الشام وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين من الهجرة»(ق1) .
«وإثر غزوة أحد وهي في السنة الثالثة من الهجرة في شوال نكث بنو النضير العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبينما كان رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في أسواقهم مع بعض أصحابه تآمروا على قتله وقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فانتدب أحدهم إلى أن يصعد على إحدى سطوح بيوتهم فيلقي على النبي - صلى الله عليه وسلم - صخرةً من فوقها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ من الله فرجع من فوره إلى المدينة وأرسل إلى اليهود يخبرهم بنكثهم العهد ويأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فتهيّأ القوم للرحيل لعلمهم بما جرى لإخوانهم بني قينقاع، ولكن الذين نافَقوا بعثوا إليهم يحرّضونهم على البقاء ويَعِدُونهم بالنصر ويقولون: +لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ" [الحشر: 11]، فاغترَّ اليهود بهذا الوعد من أهل النفاق ومتى صدق الوعدَ أهلُ النفاق؛ إن المنافقين هم الكاذبون، هم الغادرون؛ ولهذا قال الله عزَّ وجل: +وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ" [الحشر: 11-12]، فاغترَّ اليهود بهذا الوعد الكاذب الذي شهد الله بكذبه فلم ينصاعوا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالرحيل، فتهيَّأ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لقتالهم وخرج إليهم فحاصرهم في ديارهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن يكفّ عن دمائهم وأن يُجْلِيَهم على أن لهم ما حملت إبلهم من الأموال إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك فخرجوا من بيوتهم بعد أن أخربوها حسدًا للمسلمين أن يسكنها أحدٌ منهم من بعدهم ثم تفرّقوا: فمنهم مَن ذهب إلى الشام ومنهم مَن استوطن خيبر وما زال أَلَمُ هذه النكبة في قلوبهم»(ق2) «حتى ذهب جمعٌ من أشرافهم إلى مشركي العرب من قريش وغيرهم يحرّضونهم على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويَعِدونهم النُّصرة، فتألّبت الأحزاب من قريش وغيرهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتمعوا لقتاله في نحو عشرة آلاف مقاتل حتى حاصروا المدينة في شوال سنة خمس من الهجرة، وانتهز حُيي بن أخطب وهو من رؤساء بني النضير هذه الفرصة واتصل ببني قريظة الذين في المدينة من اليهود وحَسَّن لهم نقض العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما زال حُيي بن أخطب، ما زال بهم - أي: ببني قريظة - حتى أجابوه إلى ذلك فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهؤلاء هم آخر القبائل في المدينة من اليهود الناقضين للعهد .
فلما هزم اللهُ الأحزاب ورجع الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال» بما أرسل على عدوهم من الجنود والريح العظيمة الباردة التي زلزلت بهم، رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ووضع السلاح فأتاه جبريل فقال: «قد وضعت السلاح ؟ واللهِ ما وضعناه فاخرج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار جبريل إلى بني قريظة»، فانتدب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وندب أصحابه للخروج إلى بني قريظة فخرجوا وحاصروا اليهود نحو خمسٍ وعشرين ليلة، فطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا على ما نزل عليه إخوانهم من بني النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فأبى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ذلك فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم وذريتهم ونسائهم ويَدَعوا الأموال كما فعل إخوانهم من بني قينقاع فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو قريظة حلفاءَ للأوس فجاء حلفاؤهم من الأوس إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يكلّمونه فيهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون - يخاطب الأوس - ألا ترضون أن ينزلوا على حكم رجل منكم ؟ قالوا: بلى، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ذلك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ - رضي الله عنه - سيّد الأوس وكان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين رضي الله عن الجميع، وقد أُصيب سعد بن معاذ في أَكْحَلِه في غزوه الأحزاب فضرب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمةً في المسجد لِيَعودَه مِنْ قريب؛ لأنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنزلة العالية، وقد قال رضي الله عنه حين سمع نقض العهد من بني قريظة: اللهم لا تُخرج نفسي حتى تُقِرّ عيني من بني قريظة، فَجِيء بسعد من خيمته في المسجد راكبًا على حمار فلما نزل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: احكم فيهم، أي: في اليهود بني قريظة وهم حلفائهم، احكم فيهم يا سعد، فالتفت سعد إلى اليهود فقال: عليكم عهد الله وميثاقه إنْ الحكم إلا ما حكمت ؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غاضٌّ طرفَه إجلالاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: وعلى مَنْ ها هنا، فقالوا نعم، فقال: أَحْكُم أن تُقتل الرجال وتسُبى النساء والذرية وتقسم الأموال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفِعة، يعني: من فوق سبع سماوات؛ وبهذا تحقَّقت دعوه سعد بن معاذ - رضي الله عنه - أجاب الله دعاءه وجعل الحكم في بني قريظة على يده وحكم فيهم بهذا الحكم العدل الموافق لحكم الله، فَقُتِل المقاتلون منهم وكانوا ما بين سبعمائة إلى ثمانمائة رجل وسُبي النساء والذرية»(ق3) .
وما زال اليهود - أيها الإخوة - أهلَ غدر وخيانة وبُهت وكذب لا يُؤمن مكرهم ولا يُوثق عهدهم، ولقد شهد عليهم عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - وكان من أحبارهم - أي: من علمائهم - ولكن الله قذف في قلبه الإسلام فأسلم رضي الله عنه وشهد عليهم حين أسلم أنهم قوم بُهت ولن يُضمن النصر - أيها الإخوة - عليهم ولا على غيرهم من الكفار إلا إذا تمسّكت هذه الأمة الإسلامية بدين الله ظاهرًا وباطنًا، حكّامًا ومحكومين، تمسّكوا بدين الله بالرجوع إلى الله والتوبة النصوح والعمل الصالح المبني على الإيمان السالم من الشك، السالم من الشك، وبالتوحيد الخالص: الخالص من الشرك، وبالاتباع النقي من الابتداع، وبالطاعة لله ورسوله بقدر المستطاع .
أيها المسلمون، اتقوا الله عباد الله، أطيعوا الله ورسوله، كونوا مع الصادقين، كونوا من الذين إذا تُليت عليهم آيات الله لم يخرّوا عليها صمًّا وعميانًا، إذا سمعتم حكم الله فقولوا: سمعنا وأطعنا، ولا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا تعصفنّ بكم الأهواء، اجعلوا الأمر إلى الله، اجعلوا الأمر إلى الله تعالى شرعًا كما هو إلى الله قدرًا، فأنتم عباد الله يفعل بكم ما شاء، وأنتم عباد الله يحكم فيكم بما شاء، فاتقوا الله عباد الله، أطيعوا الله ورسوله .
أقول لكم قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافه المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم؛ إنه مَن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا .
اللهم إنا نستغفرك فاغفر لنا يا غفور يا رحيم .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذّن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن أشرك به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفّع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن بهداهم اقتدى وعلى إثرهم مشى، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الناس، اتقوا الله تعالى وافعلوا ما أمركم به، أوفوا بالعهد +إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً" [الإسراء: 34]، أوفوا بالعهد الذي بينكم وبين الله، +وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ" [آل عمران: 187] .
فعلى طلبه العلم الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم أن يبيِّنوه للناس ولا يكتمونه، وعلينا جميعًا أن نعبد الله؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: +وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا" [الأعراف: 127] .
إن العهد يكون بين الإنسان و بين ربه ويكون بين الإنسان وبين الخلق، أما عهده الذي بينه وبين ربه فإنه ينقسم إلى قسمين، القسم الأول: أن يعبد الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا حق الله الخالص، أن يعبد الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ: «أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»(1)، أما القسم الثاني فهو: النذر الذي ينذر به الإنسان لربه عزَّ وجل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «مَن نذر أن يطيع الله فلْيطعه»(2) .
وإن كثيرًا من الناس ابتُلي بهذا العهد حتى صار ينذر الطاعة لله في كل مناسبة: إذا مرض قال لله عليَّ نذر إن شفاني الله لأفعلنَّ كذا وكذا، إن غاب له غائب قال: لله عليَّ نذر إن ردّ الله عليَّ غائبي لأفعلنَّ كذا وكذا، إن أخفق في شيء قال: لله عليَّ نذر إن نجحت فيه لأفعلنَّ كذا وكذا، وما علم هذا أن هذا العهد مكروه نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل»(3) وقال: «إنه لا يردّ قضاءً»(4) فما قضاه الله - عزَّ وجل - فسيكون سواءٌ نذرت أم لم تنذر؛ بهذا ننهاكم - أيها الإخوة المسلمون - كما نهاكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تنذروا أبدًا لا لمرض ولا لِفَقْد موجود ولا لغير ذلك من الأسباب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - نهاكم عن ذلك وكم من إنسان نذر نذرًا ثم حصل له المطلوب ولكنه لم يُوفِ بنذره تهاونًا وتكاسلاً أو عجزًا ومشقة وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: +وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ" - يعني: فلم يتصدّقوا - +وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ" [التوبة: 75-76]، يعني: فلم يكونوا من الصالحين، فماذا كانت النتيجة ؟ استمعوها في قول الله تعالى: +فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" [التوبة: 77]، أتريد يا أخي، أتريد أن يعقبك الله بنفاق يبقى في قلبك إلى الموت ؟ لا أعتقد أن أحدًا يريد ذلك؛ لهذا اجتنب ما يكون سببًا لهذا الأمر، اجتنب النذر واعلم أنك إذا نذرت طاعة فإنه يلزمك أن تفيَ بها، فلو قال الإنسان مثلاً: إن شفاني الله فلله عليَّ نذر أن أصوم كل يوم اثنين أو خميس فشفاه الله فإنه يجب عليه أن يصوم كل اثنين وخميس على طول السنة ولا يحل له أن يترك يومًا من هذين اليومين؛ لأنه إن فعل فإنه يكون غير وافٍ لله تعالى بما عاهد الله عليه ويُخشى أن يعقبه الله نفاقًا في قلبه إلى الموت، إذا قال: لله عليَّ نذر إن شفى الله ابني أن أذبح كذا وكذا من الذبائح وأتصدق بها ثم شفى الله ابنه ولم يُوفِ بها فإنه لم يفِ لله بما عاهد الله عليه وحينئذٍ يوشك أن يُعقبه الله تعالى بنفاق يبقى في قلبه إلى الموت .
إذًا: ما بالنا وبال النذر الذي يؤدي بنا إلى هذا الأمر؛ إننا إذا أردنا شيئًا من الله - عزَّ وجل - فإن أقرب طريق يحصل به هذا الشيء أن ندعوه لقول الله تبارك وتعالى: +وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" [البقرة: 186]، +وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، وقال تعالى: +أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ" [النمل: 62] .
إذًا: فلْنلجأ إلى الله - عزَّ وجل - إذا نزلت بنا الضراء، نلجأ إليه بالدعاء دون أن نلجأ إلى النذر المكروه الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
أما القسم الثاني وهو: المعاهدة بينك وبين عباد الله؛ فإن الواجب على مَن وعد أخاه أن يفي بوعده ولا يحل له أن يُخلف الوعد إلا أن يرضى أن يكون من المنافقين في هذا الإخلاف؛ «لأن آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف»(5)، وكثير من الناس، كثير من الناس يعدون إخوانهم بالشيء ولكن لا يفون به .
ومن المعاهدة: ما يقع بين الناس من العقود، فالواجب على مَن عقد مع أخيه عقدًا أن يعقد له بالنصف سواء باع عليه أو اشترى منه أو آجره أو استأجر منه أو رهن أو ارتهن منه أو غير ذلك، الواجب أن تكون المعاملة بالنصح والبيان وبالصدق وعدم الكتمان، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتبايعَين: «إن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»(6) .
ومن الكتم: أن من الناس مَن يجعل الشيء الرديء تحت الشيء الطيّب ليغرّ الناس بمظهره وهذا بلا شك نوع من النفاق وغش تبرّأ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من فاعله فقال: «مَن غشّ فليس منا»(7) .
أيها المسلمون، إن دين الإسلام - ولله الحمد - قد آتى بكمال الأخلاق والآداب وكمال النصح والصدق فعليكم بهذا، عليكم بالنصح والصدق والآداب العالية والأخلاق الفاضلة ليكمل بذلك إسلامكم .
نسأل الله أن يُيَسّر لنا ولكم ذلك بمنِّه وكرمه، «واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة»(8) «وكل ضلالة في النار»(9)، فأخلصوا لله العبادة وأخلصوا الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لتعبدوا الله مخلصين له الدين، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم امتثالاً لأمر الله وأداءً لحق رسول الله ورجاءً لثواب الله؛ فإن الله تعالى يقول: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [الأحزاب: 56]، ومن حق نبيكم - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن تُكثروا من الصلاة والسلام عليه ولكم على ذلك على الصلاة الواحدة عشر صلوات كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصلوات الله وسلامه عليه.
ونسأله تعالى أن يرضى عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم إنا نسألك أن تعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واكفهم شر شرارهم يا رب العالمين .
اللهم انصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم أذل الصرب، اللهم أذل الصرب، اللهم أذل الصرب، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم زَلْزِل أقدامهم، اللهم أذلهم بعد العز وأضْعفهم بعد القوة واخذلهم بعد ما يظنونه انتصارًا يا رب العالمين .
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزم الصرب وأذلهم واكبتهم واجعل بأسهم بينهم وسلّط عليهم يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام .
أيها الإخوة، أكثروا من الدعاء لإخوانكم في البوسنة والهرسك فإنهم على حال نسأل الله تعالى أن يلطف بهم ويرحمهم؛ على حال في ضيق المعيشة وفي الخوف وفي غير ذلك، فأكثروا من الدعاء لهم في السجود في صلواتكم وفي آخر الليل في خلواتكم وفي كل وقت ترجى في الإجابة، أكثروا من الدعاء لهم وأكثروا من الدعاء على عدوهم من الصرب النصارى الظالمين الطاغين، واعلموا أن النصارى أعداء لكم في كل مكان وفي كل زمان فاحذروهم كما أمركم الله بقوله: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ" [النساء: 71] .
فنسأل الله تعالى أن يولي على المسلمين خيارهم وأن يكفيهم شرَّ شرارهم وأن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يُعزّ فيه أهل الطاعة ويُذل فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو على كل شيء قدير، +رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر: 10] .
عباد الله، +إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت: 45] .
-------------
(قصة 1) قصة: أمر بني قينقاع ذكرها ابن هشام -رحمه الله تعالى- في السيرة ج3 ص 313-317، وذكرها صاحب كتاب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ح 1 ص 265 .
(قصة 2) غزوة بني النضير ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في السيرة في ج 3 ص 145، قصة غزوة بن النضير ذكرها ابن خلدون -رحمه الله تعالى- في تاريخه في ح 2 ص 434، وذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في البداية والنهاية ح 4 ص 74-83 .
(قصة 3) غزوة بني قريظة ذكر الحافظ بن هشام -رحمه الله تعالى- في السيرة في ج 4 ص 192-200 .
(1)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: اللباس، باب: إرداف الرجل خلف الرجل (5510)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على مَن مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (44)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه .
(2)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: الإيمان والنذر في الطاعة، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنهما، (6202)، ت ط ع .
(3)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: القدر، باب: إلقاء النذر العبد إلى القدر، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، (6118)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: النذر، باب: النهي عن النذر رواية لا يرد شيئًا، (3095)، ت ط ع .
(4)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: النذر، باب: النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئًا، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، (3097)، ت ط ع .
(5)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، (89-90)، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(6)أخرجه الإمام الجليل البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: البيوع، باب: إذا بيَّن البيعان ولم يكتما ونصحا، من حديث حكم بن حزام رضي الله تعالى عنه (1937)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: البيوع، باب: الصدف في البيع والبيان، من حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه، (2825)، ت ط ع .
(7)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب: الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن غشّ فليس منا»، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، (147)، ت ط ع .
(8)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، في كتابك الحجة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، (1435)، ت ط ع . (9)أخرجه النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، في كتاب: صلاة العيدين، باب: كيف الخطبة، (1560)، ت ط ع .
(8)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، في كتابك الحجة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، (1435)، ت ط ع .