الاستقلاب metabolism هو مجموعة الأفعال الكيمياوية الحيوية والفيزيائية التي تحدث في خلايا الكائنات الحية فتفيد في تمثل مواد الأغذية والحصول منها على الطاقة اللازمة للجسم، كما تساعد على نمو هذه الكائنات وتجدد أنسجتها وصيانتها . تتألف مواد الاستقلاب من السكريات والدسم والبروتينات، ويتواسط الأفعال الاستقلابية عدد من الإنظميات الخاصة، وتضبطها مجموعة من الهرمونات والفيتامينات والشوارد المعدنية. تجري أفعال الاستقلاب في جميع خلايا الجسم ولاسيما في الكبد والكلية. تشمل أمراض الاستقلاب مجموعة من الأمراض تتسبب عن خلل في قدرة الجسم على القيام بفعالياته الكيمياوية السوية، ومن ثم إنتاج الطاقة اللازمة وبناء أنسجة الجسم وتجددها. وهذه الاضطرابات إما أن تكون خلقية وراثية، إذ تحدث أمراض استقلابية عدة بسبب عوامل وراثية تؤدي إلى إحصار أو تبدل في سبل الاستقلاب الكيمياوية الحيوية في الجسم يطلق عليها «أخطاء الاستقلاب الخلقية الوراثية»، وإما أن تكون مكتسبة تنتج من عوز اغتذائي أو مرض في الغدد الصم أو الكبد أو المعثكلة (البنكرياس). وفيما يلي موجز عن أمراض الاستقلاب وأمثلة عليها : العوز الغذائي: تحدث عدة أمراض استقلابية لنقص الوارد من الحريرات و البروتينات أو الفيتامينات أو المعادن أو الدسم. و لما كانت كميات الغذاء في الأقطار الفقيرة قليلة فإن الأطفال يصابون بسوء التغذية ولا سيما في مراحل ما بعد الفطام التي يكون النمو فيها سريعاً. يأخذ العوز الغذائي أحد شكلين: في الشكل الأول ينقص المتناول من الحريرات والبروتينات بقدر متساوٍ تقريباً، فيصاب الطفل في هذه الحالة بالسَغَل (الهزال) marasmus فيتدنى وزنه مع كثرة تعرضه للأخماج، وقد يشكو الطفل المصاب من تكررالإسهالات والتجفاف. يموت كثير من هؤلاء المصابين في السنتين أو الثلاث الأولى من العمر. وفي الشكل الثاني يقل المتناول من البروتين في حين تكون الحريرات كافية فيصاب الطفل بالكُواَشَرْكُور kwashiorkor الذي ينقص فيه تركيز البروتين في الدم ويتورم الوجه واليدان والقدمان مع تبدلات في الجلد ولون الشعر الذي يصبح أحمر أو رمادياً. و تتطلب هذه الحالة معالجة عاجلة بالحموض الأمينية. أما الفيتامينات فهي مركبات عضوية تفيد في الاستقلاب الخلوي ونمو الجسم، فإذا نقصت كمياتها أو ازدادت أصيب الجسم باضطرابات في بنيته أو وظائفه. ففي عوز الفيتامينات (أ) يحدث جفاف العين (نقص إفراز الدمع وجفاف الملتحمة ومن ثم جفاف القرنية وتلينها) والعمى الليلي وجفاف الجلد وثخانة الأغشية المخاطية. وفي عوز الفيتامين (ب1) تحدث اضطرابات قلبية (ضخامة القلب واسترخاؤه )، وعصبية (التهاب الأعصاب المحيطية). وفي عوز الفيتامين (ب2) يحدث اضطراب في الرؤية والتهاب في الجلد وفي ملتقى الشفتين مع فقر الدم. وفي عوز الفيتامين (ب6) تحدث الهيوجية irritabilityوالاختلاجات. وفي عوز الفيتامين (ب12) يحدث فقر الدم الضخم الأرومات megaloblastic anemia واضطرابات في الجملة العصبية . وفي عوز الفيتامين (ث) يحدث داء البثع scurvy، أي توذم اللثة ونزفها والآلام العضلية والمفصلية. وفي عوز الفيتامين (د) يصاب المريض بالكساح rickets (تشوهات في الهيكل العظمي مع ضعف المقوية العضلية واضطراب النمو، وفي الحالات الشديدة قد يحدث تكزز عضلي ونوب اختلاجية). وفي عوز الفيتامين (ك) تحدث أنزفة عند حديثي الولادة. وإن لبعض الشوارد والمعادن الزهيدة أيضاً أهميتها في المحافظة على استتباب الجسم. ويؤدي عوز الصوديوم إلى الغثيان والإسهال والمَعَص العضلي cramp والتجفاف في حين تؤدي زيادة البوتاسيوم إلى إحصار القلب وتوقفه. أمراض الغدد الصم وأمراض الكبد والكلية والمعثكلة (البنكرياس): تؤدي أمراض الغدد الصم إلى اضطرابات الاستقلاب إذا زادت كمية الهرمونات التي تفرزها الغدة المعنية أو نقصت. ففي قصور الغدة الدرقية مثلاً تنقص شدة الاستقلاب وتؤدي إلى اضطرابات جلدية وقلبية وعقلية، ونقص في النمو إذا حدثت الإصابة باكراً، في حين يزداد الاستقلاب في فرط نشاط الدرق ويؤدي إلى اضطرابات قلبية وجلدية ونقص الوزن. كما تتدخل الغدد الصم الأخرى كالنخامى وقشر الكظر والدريقات والخصية والمبيض في الاستقلاب فتؤدي أمراضهاإلى اضطراباته. تؤدي أمراض الكبد والصفراء إلى اضطرابات استقلابية، من هذه الأمراض التهاب الكبد بالفيروسات وتشمع الكبد وتليفه الذي يتلو الانسمام بالمركبات الهالوجينية وكذلك بالكحولية المزمنة التي تؤثر في الكبد مباشرة إضافة إلى نقص المتناول من البروتينات. كما تؤدي أمراض المرارة والطرق الصفراوية إلى تشكل حصيات مرارية تعيق جريان الصفراء إلى الأمعاء. تؤدي أمراض الكلية إلى اضطرابات استقلابية، من هذه الأمراض التهاب الكبب والكلية وتشوهات الكلية والطريق البولي المفرغ الذي يؤدي إلى إعاقة جريان البول وبالتالي إلى تخريب النسيج الكلوي. تفرز غدة المعثكلة عدداً من الهرمونات أهمها الأنسولين، الذي يؤدي نقصه إلى حدوث الداء السكري . وهو مرض استقلابي جهازي يصيب جميع الأعمار من الجنسين، يحدث فيه ارتفاع سكر الدم وظهور السكر في البول، ويؤدي فيما بعد إلى مضاعفات تصيب شبكية العين وأوعية الدماغ والقلب والكلية والطرفين السفليين. كما تفرز المعثكلة عدداً من الإنظيمات التي تفرز في الأمعاء فتساعد على استقلاب السكاكر والدسم والبروتينات ويؤدي نقصها إلى إسهالات دهنية متكررة. أخطاء الاستقلاب الخلقية الوراثية: في عام 1908 صاغ العالم أ. جارود نظريته حول أخطاء الاستقلاب الخلقية الوراثية ووضع الأسس العامة لهذه الاضطرابات. يبدأ الاضطراب الاستقلابي في الأيام أو الأسابيع الأولى من العمر وتميل الإصابة إلى أن تكون عائلية ويكثر حدوثها في الزواج بين الأقارب. وتنشأ هذه الاضطرابات عن إحصارات وراثية محددة في سبل الاستقلاب. فإذا افترض أن مركب (أ) يتحول في خطوات متتالية إلى مركبات (ب) و(ج) و(د) فإن أي خطوة في هذا التحول تحتاج إلى جملة إنظيمية خاصة. فإذا غاب أحد هذه الإنظيمات أو كان غير فعال (إحصار إنظيمي) تراكم المركب الذي يسبق موضع الإحصار مباشرة ونقص المركب الذي يلي الإحصار مباشرة. ويضبط إنشاء كل هذه الإنظيمات السابقة وعمله جينة مفردة خاصة. ولقد وصف ما يقرب من مئتي اضطراب خلقي وراثي، وعلى الطبيب أن يحدد: أعراض المرض وعلاماته السريرية، وطبيعة الخلل الكيمياوي فيه، ونمط الوراثة في هذا الاضطراب ومنها إمكان كشف حَمَلَةِ المرض في عائلة المصاب، والفحوص المخبرية المناسبة لتأكيد التشخيص، ووضع المعالجة المناسبة. وتذكر الغلاكتوزيمية (زيادة غلاكتوز الدم) مثالاً على هذه الاضطرابات، فهي مرض وراثي يتميز بعجز خلقي عن تحويل الغلاكتوز إلى غلوكوز بسبب نقص إنظيم غلاكتوز ـ1ـ فسفات بريديل ترانسفراز مما يؤدي إلى تراكم مركب غلاكتوز ـ1ـ فسفات (المركب الذي يسبق موضع إحصار الأنظيم مباشرة) الذي يحدث ساداً عينياً وأذية كبدية. كما ينقص تركيز الغلوكوز في الدم الذي يحدث تخلفاً عقلياً. تنتقل الغلاكتوزيمية صفةً جسمية متنحية recessive. فإذا تزاوج حاملان لهذه الصفة فأنجبا أربعة أطفال، أصيب أحدهم بالمرض وحمل اثنان هذه الصفة وبقي الرابع سوياً. والدلالة المخبرية في هذا المرض وجود الغلاكتوز في البول وارتفاعه في الدم. ويؤكد التشخيص بإجراء اختبار كمي لإنظيم غلاكتوز ـ1ـ فسفات بريديل ترانسفراز في الكريات الحمر. وقد وضعت برامج ماسحة للتحري عن عوز هذا الإنظيم في الأطفال لكشف المرض وتدبيره قبل ظهور الأعراض السريرية، بحذف اللاكتوز والغلاكتوز من طعام المصابين (حليب خال من اللاكتوز). اضطراب استقلاب الحموض الأمينية: وصفت عدة اضطرابات لاستقلاب الحموض الأمينية في البشر، منها ما يصيب كامل الجسم و منها مايصيب آلية النقل في الأغشية السطحية للأنابيب الكلوية أو الأمعاء. وقد عرف موضع الإحصار الاستقلابي وحدد نمط الوراثة فيه وكشف حَمَلة هذه الصفة وطورت الفحوص المخبرية الماسحة لمعرفة الأطفال المصابين وكشف الاضطراب في كريات الدم البيض. وقد بين استخدام هذه الفحوص على نطاق واسع بين الولدان أن اضطرابات استقلاب الحموض الأمينية لا تترافق جميعها بمرض سريري أو اضطراب عقلي. ونأخذ بيلة الفينيل كيتون والتيروزين مثالاً على هذا الاضطراب، فقد كشفت الدراسات الكيمياوية عن طبيعة اضطراب استقلاب الحمض الأميني فينيل ألانين إلى تيروزين، وأن غياب إنظيم فينيل ألانين هيدروكسيلاز يؤدي إلى بيلة الفينيل كيتون. اضطراب نقل الحموض الأمينية: إن الخلايا الحية قادرة على أن تحافظ على تركيبها الداخلي مختلفاً عن محيطها الخارجي، فتنتقل الأملاح والسكاكر والحموض الأمينية بحرية إلى داخل الخلية وخارجها عبر غشائها بنقل فاعل بحسب مدروج gradient يتطلب طاقة تأتي من الفعالية الاستقلابية للخلية. وتقوم جينات خاصة بضبط آليات النقل النوعية لمواد الاستقلاب، أي إن جينة معينة تضبط مجموعة معينة من الحموض الأمينية. ويشمل الضبط الجيني مجموعات مختلفة من الخلايا، فاضطراب نقل الحموض الأمينية في بيلة السستين مثلاً يصادف في أنابيب الكلية وغشاء الأمعاء المخاطي. ومن الأمثلة المهمة على اضطراب نقل الحموض الأمينية: بيلة السستين التي يضطرب فيها نقل عدة حموض أمينية، وبيلة الأمينوغليسين الناجمة عن عيب في نقل الغليسين والبرولين والهيدروكسي برولين. اضطراب استقلاب السكريات: تعد الغلاكتوزيمية وبيلة البنتوز وبيلة الفركتوز وأدواء خزن الغليكوجين وفقر الدم الانحلالي واضطراب استقلاب السكريات المعوي من أهم اضطرابات استقلاب السكريات الخلقية الناجمة عن عوز إنظيمي. أدواء خزن الغليكوجين: مجموعة اضطرابات خلقية وعائلية تتصف بتوضع كميات كبيرة من الغليكوجين الشاذ في الأنسجة. فالغليكوجين هو الشكل الرئيس لخزن السكريات في الجسم، تتألف جزيئاته من سلاسل من وحدات ألفا ـ غلوكوز تصطف بشكل متفرع كأغصان الشجر. يتم تركيب الغليكوجين وتفككه في سلسلة متتالية من خطوات إنظيمية. يكون تركيب الغليكوجين سوياً في داء خزن الغليكوجين فيما يعرف بالنمط الأول والثاني والخامس والسادس، في حين يكون شاذاً فيما يعرف بالنمطين الثالث والرابع. يشكو المصاب في النمط الثاني من الضعف واسترخاء القلب ويموت قبل سن السنتين، في حين يصاب الأطفال في النمط الأول والثالث والرابع والسادس بضخامة في الكبد، أما في النمط الخامس فلا يستطيع المريض القيام بأي جهد إذ إن الغليكوجين لا يقوم بتزويد الجسم بالطاقة. اضطراب استقلاب السكريات المعوي: تحوي الأمعاء الدقيقة عدداً من الأنظيمات الخاصة تقوم بتحطيم السكاكر المضاعفة إلى سكاكر أحادية، فإذا غابت إحدى هذه الأنظيمات أصيب الطفل بإسهال مزمن ولا يزيد وزنه في طفولته الباكرة. يقسم هذا المرض إلى نمطين: سوء امتصاص اللاكتوز الوراثي، وعدم تحمل ثنائي السكاريد الوراثي. يحدث في الأول عوز في إنظيم اللاكتاز المعوي يؤدي إلى عدم تحمل الأطفال المصابين حليب الأم أو البقر في حين يتحسن المصاب بتناول مشتقات الحبوب (قمح، ذرة ....) وإنقاص المتناول من السكر. وفي النمط الثاني يغيب إنظيم السكاراز (انفرتاز) و الايزومالتاز في الأمعاء فيصاب الطفل بالأعراض السابقة نفسها إلا أن السكر الذي لا يستطيع امتصاصه هو السكاروز . كثيرات السكاريد المخاطية: يوجد صنفان من المركبات المعقدة هما: البروتيوكليكان والغليكوبروتينات، تتضمن جزيئاتها فروعاً سكرية منغرسة على جذع بروتيني. تقوم الغليكوبروتينات بوظائف مختلفة في الجسم إذ تدخل في تركيب جدر الخلايا والعظام ومفرزات المخاط، كما يسهل بعضها نقل الفيتامينات والدسم والمعادن و يتدخل بعضها الآخر في عمل الجملة المناعية. توجد عدة أمراض لهذه المعقدات تدعى أمراض كثيرات السكاريد المخاطية تنجم عن عيوب في الإنظيمات التي تدخل في تقويض الغليكوبروتين والبروتيوكليكان . اضطراب استقلاب مواد أخرى: الشحوم: تقع اضطرابات استقلاب الشحوم (الدسم) في مجموعتين، تتناول الأولى الشحوم في الدم في حين تتناول الثانية الشحوم المختزنة في مختلف أعضاء الجسم ونسجه. تنتقل معظم مواد الاستقلاب (سكاكر، حموض أمينية، معادن...) من مكان إلى آخر في الجسم بوساطة الدم الذي تنحل فيه، في حين لاتستطيع الشحوم المرتبطة التي لا تنحل في الماء أو في المصورة الدموية (بلزما) plasma أن تنتقل إلا إذا تشاركت مع حامل بروتيني. توجد عدة أصناف من هذه المركبات المشاركة تدعى البروتينات الشحمية (ليبوبروتينات) يتميز بعضها من بعض بخصائصه الفيزيائية وطريقة تشكله ونقله وتخربه النهائي. يتعرض استقلاب هذه المركبات إلى عيوب استقلابية عدة أصبحت معروفة بوصفها أسباباً لأمراض استقلابية نوعية. ومن بين الشحوم المختزنة توجد كميات كبيرة من الشحميات السكرية (غليكوليبيد) والشحميات الفسفورية (فسفوليبيد) لها تركيب خاص يدعى السيراميد ceramide. وقد تحدث أمراض استقلابية خلقية بسبب عوز الإنظيمات التي تدخل في تقويض مركبات السيراميد والسفنفوزين والشحوم فتؤدي إلى اختزانها، ومن بين هذه الأمراض: داء غوشر Gaucher’s disease وهو مرض وراثي يبدأ في سن الطفولة ويترقى ببطء شديد. من أعراضه ضخامة الطحال وتلوّن اللحف بلون أصفر وفقر الدم وتأخر النمو النفسي الحركي، وداء نيمان ـ بيك Niemann -Pick وهو آفة ولادية أسرية في غالب الأحيان، تصيب الرضع في الشهر الثالث أو الرابع من العمر، وتتصف بضخامة الكبد والطحال والعقد اللمفية وتوقف النمو وظهور اضطرابات هضمية ونفسية، وداء تاي ـ ساكس Tay-Sachs، وهو مرض وراثي تظهر أعراضه في الشهر الخامس من العمر وتتسم بتأخر عقلي وحركي متدرج وفقدان الرؤية وحدوث نوبات تشنجية، وداء فابري Fabry، ويسمى أيضاً التقرن keratosis الوعائي الجسمي المنتشر وهو علة وراثية تصيب الذكور وتتصف بظهور حطاطات papules صغيرة في منطقة الحوض مع تشوش الحس paresthesia وآلام عظمية عضلية واضطرابات عينية وآفات حشوية خطرة، وغيرها من الأمراض. البرفيرية والأصبغة الصفراوية: توجد في الجسم عدة مواد تتدخل في نقل الأكسجين واستهلاكه، منها الخضاب (هيموغلوبين) والغلوبين العضلي (ميوغلوبين) وإنظيمات تنفسية أخرى هي البرفيرينات. فالبرفيرينات مركبات معقدة تحوي ذرة معدنية هي الحديد في العادة. تتشكل هذه المركبات في سلسلة من التحولات الكيمياوية الحيوية تحتاج كل مرحلة منها إلى إنظيم خاص، فإذا اكتمل إنشاء البرفيرين وقام بعمله تماماً عاشت الكرية الحمراء مايقرب من ثلاثة أشهر ثم تتحطم بفعل إنظيمات أخرى متحولةً إلى بيلروبين وأصبغة أخرى تطرح خارج الجسم. أما إذا حدث عوز في الإنظيمات التي تتوسط هذه السبل الاستقلابية حدثت البرفيرية أو اليرقان. فعوز إنظيم غلوكورونيل ترانسفراز سبب لإخفاق تحول صباغ البيلروبين إلى نواتجه فيرتفع مقداره في الدم ويحدث يرقاناً دائماً. وتوجد حالات أكثر شدة تدعى اليرقان الولادي اللاانحلالي (داء غريغلر ـ نجار) تؤدي إلى يرقان شديد منذ الأيام الأولى للولادة وتميت الطفل في السنة الأولى من العمر. اضطراب استقلاب البورين purine والبريميدين pyrimidine: تقوم النوكليوتيدات كالأدينوزين ثلاثي الفسفات ATP بوظائف لا تحصى في الجسم. وقد يطرأ على استقلاب الحموض النووية إحصارات تتسبب عن عوز أي من الإنظيمات التي تتواسط هذا الاستقلاب فيؤدي إلى اضطرابات فيزيولوجية. تعد النوكليوتيدات مشتقات للبورين والبريميدين. يؤدي اضطراب استقلاب البورين إلى متلازمة ليش نيهان Lesch- Nyhan syndrome (وهي علة وراثية تشاهد في الذكور وحدهم، وأوضح اضطراباتها تشويه المريض لذاته بعضّه لسانه وشفتيه وأصابعه، وظهور حركات لا إرادية في الأطراف والوجه إضافة إلى التخلف العقلي) وإلى بيلة الكزانتين. في حين يؤدي اضطراب استقلاب البريميدين إلى بيلة حمض الأوروتي orotic aciduria. فالنقرس يتسبب عن اضطراب إنظيمي يؤدي إلى زيادة تركيب البورين الذي يحدث هجمات من التهاب مفصلي حاد وحيد المفصل يصيب الرجال عادة، وأكثر المفاصل إصابة المفصل المشطي السلامي الأول للقدم وكذلك الكاحل والعقب والركبة. تتحرض الهجمات بالرض والكحول وإفراط الطعام والأخماج. وقد يكون هذا المرض تالياً لنقص إطراح حمض البول في الكلية كما في القصور الكلوي المزمن واستعمال المدرات الثيازيدية وغيرها.
يكون الوليد المصاب ضعيفاً وتبدو عليه بعض الأعراض الخاصة كسيلان الأنف الإفرنجي، وبعض الطفحات الجلدية النوعية كالفُقاع الإفرنجي pemphigus في اليدين والقدمين، والطفحات الجلدية المخاطية التي تصيب الفوهات وقد تؤدي إلى حدوث ندبات وتغضنات فيها. ويُحدث الخمج الإفرنجي الولادي آفاتٍ مختلفة في الأحشاء ولاسيما في الكبد والطحال والعظام والمفاصل، على أنه لا يصيب عادة القلب والدوران. تنجم عن الإصابات الإفرنجية الولادية أحياناً تشوهات دائمة تعرف «بالسِمات الإفرنجية» منها: التشوهات السنّية (أسنان هتشتسون)، والإصابات العينية (التهاب القرنية الخلالي)، والإصابات العصبية (الشلول والصمم والتخلف العقلي)، والإصابات العظمية (الأنف السرجي والظنبوب بشكل نصل السيف وضخامة النهاية الإنسية للترقوة)، والإصابات المفصلية (مفاصل كلاتون) وغيرها. التشخيص المخبري يشمل فحوصاً مخبرية كثيرة، أهمها مايلي: كشف اللولبية الشاحبة: ويجرى عادة في الإفرنجي الأولي، وتستخدم فيه عدة طرائق منها: الفحص المباشر بالمجهر ذي الساحة المظلمة وترى فيه اللولبية الشاحبة بشكلها وحركاتها الوصفية، وبطريقة التألق المناعي بالمجهر ذي الإشعاع فوق البنفسجي، وبطرائق التلوينات الخاصة. وينبغي في هذه الفحوص تمييز اللولبية الشاحبة من اللولبيات الكثيرة المشابهة، ولعل أفضل الطرائق في كشف اللولبية الشاحبة هو تحريها في بزالة العقد اللمفية المتضخمة. الدراسات المصلية: تبدأ إيجابيتها عادة بعد الأسبوع السادس من بدء العدوى، وتفيد في تشخيص الإفرنجي الثانوي وفي متابعة المرض وتطوره واستجابته للمعالجة وذلك باتباع المعايرات الكمية فيها. والاختبارات المصلية على نوعين: أ ـ اختبارات لانوعية: وهي تعتمد على وجود «الرواجن» reagin ونحوها في مصل المرضى، وتستخدم فيها طرائق التحوصب flocculation وطرائق تثبيت المتممة، ومن هذه الاختبارات الشائعة والمتعارف عليها: اختبارات واسرمان وكان وكلاين، واختبار مخبر أبحاث الأمراض الزهرية VDRL، وهذه الاختبارات جيدة واقتصادية. على أنه ينبغي الإشارة إلى «الاختبارات الحيوية ذات الإيجابية الكاذبة» التي قد تصادف في هذه الاختبارات فهي تعطي نتائج إيجابية من دون أن يكون لدى المريض إصابة لولبية ما وإنما قد يكون مصاباً ببعض الآفات الأخرى كأمراض المناعة الذاتية أو بعض الأخماج الحادة والمزمنة الأخرى. ب ـ اختبارات نوعية: وهي اختبارات تقوم أسسها على تفاعل اللولبيات تجاه الأضداد الموجودة في المصل المصاب، وأهم هذه الاختبارات: اختبار تثبيت اللولبية الشاحبة TPI واختبار نلسون، وهو اختبار دقيق إلا أنه صعب الإجراء وباهظ التكاليف، واختبارات التألق المناعي مثل FTA وهي دقيقة وسهلة الإجراء عند توافر الأجهزة، واختبار تراص الحمر تجاه اللولبية الشاحبة TPHA وهو دقيق وسهل وقليل التكلفة. فحص السائل الشوكي: وهو مهم في الإفرنجي الآجل ولا سيما في الإفرنجي العصبي والإفرنجي الولادي الآجل. تُجرى فيه الاختبارات المصلية ومعايراتها الكمية ويجري فيه تعداد الخلايا ومعايرة البروتين. المعالجة العلاج الأمثل والمنتخب لمعالجة الإفرنجي هو «البنسلين»، ولم تعرف بعد مقاومة تذكر للولبيات الشاحبة تجاهه. يوصى بإعطاء البنسلين زرقاً داخلياً وبمقادير تضمن وجوده في الدم، وينتخب لهذا الغرض عادة البنسلين المديد (بانزاتين البنسلين) أو نصف المديد (بروكائين البنسلين). أما المقادير فيحددها الطبيب بحسب مرحلة الإصابة وتوضعها، وفي الحالات التي تحول دون استعمال البنسلين، كما في حال التحسس المؤكد تجاهه، يُعْدَل عن استعمال البنسلين إلى صادّات أخرى كالتتراسكلين والإريتروميسين، ويُعطيان بطريق الفم. ينبغي أن يشرف الطبيب على المعالجة لما قد يرافقها من تفاعلات جانبية، وللتأكد من كفايتها، ولمتابعة المريض بالفحوص السريرية والمخبرية لمدة سنة في الإفرنجي الباكر، ولمدة سنتين في الإفرنجي الآجل. الإفرنجي المتوطن أو «البَجَل» البجل هو إفرنجي متوطن غير زهري، عامله لولبية مماثلة تماماً للولبية الشاحبة ولا يمكن تفريقها عنها مخبرياً. عُرف البجل بانتشاره في عدد من الأقطار العربية ولاسيما في بلاد الشام والعراق (حوضي الفرات ودجلة) وفي شبه الجزيرة العربية، وكان انتشاره واسعاً بين أفراد القبائل (90% من الأفراد) إلا أن حوادثه أصبحت نادرة بفضل انتشار استعمال البنسلين ومكافحة الحكومات ومنظمة الصحة العالمية للبجل. للبجل الصفات والخصائص التي وردت في الإفرنجي ذاتها ماعدا بعض الصفات التي يمكن إجمالها في النقاط التالية: ـ تتم العدوى بالبجل بالتماس العادي والمعايشة، ويساعد على ذلك تدني المستوى الحياتي والمعيشي. ـ لايشاهد في البجل القرحُ الأولي أو إنه قل أن ينتبه إليه. ـ تكثر في البجل الباكر الآفات المخاطية والآفات التنبتية وهي شديدة العدوى. ـ تكثر في البجل الآجل الصمغة وتخريباتها الواسعة في الفم والوجه والأطراف. ـ الإصابات الآجلة للبجل في الأحشاء نادرة ولاسيما إصابات الجهاز الدوراني والعصبي، وكذلك الإصابات الولادية فهي نادرة أيضاً. يعالج البجل بالبنسلين أيضاً، ولكن بمقادير تختلف عن المقادير التي تعطى للإفرنجي.
تشمل أمراض الأوردة venae diseases أذيات الأوردة (رضوحها) والدوالي والتهاب الأوردة والصِّمات الرئوية. أذيات الأوردة تصاب الأوردة بالأذى نتيجة طعن بآلة حادة أو قذيفة نارية أو رضّ بأداة كليلة، وازدادت مؤخراً حوادث رضوح الأوردة التي تسببها إجراءات طبية تشخيصية (كالقثطرة القلبية) أو علاجية جراحية، أو كسور الحوادث. ويحدث معظم الأذيات الوريدية في الأطراف العلوية والسفلية، فإذا كان الوريد سطحياً والجرح الجلدي واسعاً حدث نزف خارجي متواصل ذو لون أحمر داكن (يُميَّز من النزف الشرياني النابض ذي اللون الأحمر القانىء). أما في الجروح «المغلقة» فيحدث ورم دموي قد يصعب تمييزه من ورم دموي ناتج عن رض شرياني إلا بعد الاستقصاء الجراحي. وعلامات القصور الوريدي الحاد الذي يتبع رضّاً وريدياً مهماً في أحد الأطراف هي الوذمة الكبيرة والزرقة والبرودة. أما ما يتعلق بالتشخيص: فإذا لم تكن الأذيَّة الوريدية واضحة فيمكن الاستعانة لتشخيصها بعدد من الوسائل غير الباضعة كتخطيط التحجّم plethysmography وفائق الصوت ultrasound على مبدأ دوبلر Doppler، وتصوير الوريد الظليل phlebography. وأما ما يتصل بالمعالجة: فيجب البدء بإسعاف الصدمة النزفية أو الأذية الشريانية إذا رافقت إحداهما أو كلتاهما الرضح الوريدي. ويمكن التحكم في النزف الوريدي بالضغط على المنطقة النازفة. أما إذا كان الوريد المصاب كبيراً كالوريد الفخذي السطحي مثلاً، فيجب اللجوء إلى مداخلة جراحية، ويُنصح اليوم بتجنب ربط الوريد في الناحيتين البعيدة والقريبة، ويفضّل إصلاحه إما برتق الجرح الوريدي بغرزة جانبية شلالية، وإما باستئصال القطعة الوريدية المتهتكة، وإعادة وصل نهايتي الوريد مباشرة أو باستعمال طعم وريدي سطحي. الدوالي الدوالي varices أوردة متسعة ومتطاولة ومتعرجة حتى تؤدي إلى قصور الدسامات الوريدية التي لاتتمكن من الانطباق في منطقة الوريد المتسع. والأوردة المصابة بالدوالي هي غالباً الأوردة السطحية في الساقين (الصافن الكبير أو الصغير وفروعهما) [ر. الأوردة (تشريح ـ)]. هناك عامل وراثي، وعامل مهني يعلل حدوث دوالي الساق في المهن التي تتطلب الوقوف مدداً طويلة، وتظهر الدوالي في النساء أكثر مما تظهر في الرجال، وكثيراً ما تظهر في الحوامل وبعد انسداد الأوردة العميقة (الدوالي الثانوية). ويبتدئ المرض بتوسع الوريد الصافن توسعاً جزئياً ومحدوداً، أو بقصور أحد دساماته (غالباً عند ملتقى الصافن بالوريد الفخذي)، فينتج من ذلك تحمل الدسام الذي يلي الدسام القاصر مباشرة من الناحية البعيدة حملاً من الدم أكبر مما كان من قبل فيؤدي إلى قصوره، وهكذا يتعرض سائر دسامات الوريد تدريجياً للقصور وفيها الأوردة الثاقبة مما يؤدي إلى جريان الدم من الجملة الوريدية العميقة إلى الجملة الوريدية السطحية على عكس ما يحدث في الحالة الطبيعية. (والأوردة الثاقبة هي الأوردة التي تصل بين الجملة الوريدية السطحية والجملة الوريدية العميقة). ولا ينتج من الدوالي البسيطة سوى تشوه منظر الساق وبعض الألم المتوضع على مسيرها، إلا أن الدوالي قد تؤدي إلى مضاعفات مع مرور الزمن، منها التغيرات الجلدية التي تحدث ولاسيما في المناطق المجاورة للنتوءات العظمية كالكعبين، فيحدث الالتهاب والتليف والتصبغ الجلدي، ثم قد تحدث التقرحات الجلدية، ومنها التهاب الأوردة السطحية على مسير الدوالي. وقد تتفجر الدوالي الشديدة الاتساع، وهو أمر نادر، وتؤدي إلى نزف خطر، ويسعف هذا الاختلاط بسهولة برفع ساق المصاب والضغط على مكان النزف. ويجب الانتباه في فحص الدوالي إلى معرفة أي من الوريدين الصافنين هو المصاب، وإلى تعيين فروعه الثاقبة القاصرة وإلى نفي انسداد الأوردة العميقة. وفيما يتصل بالمعالجة: إذا كانت الدوالي صغيرة وغير عرضية فلا لزوم لمعالجتها، كذلك تكون معالجة دوالي الحمل محافظة لأنها كثيراً ما تتراجع بعد الوضع، وتكون المعالجة المحافظة في الدوالي الصغيرة بتجنب الوقوف الطويل وبرفع الساقين فوق مستوى الصدر قليلاً عند النوم وقد تستعمل الجوارب الطبية في أثناء الوقوف والمشي لمنع تطور الآفة. أما إذا كانت الدوالي متقدمة وأدت إلى الألم أو إلى المضاعفات الأخرى فعلاجها الفعال الوحيد هو استئصال الصافن الكبير والصغير وفروعهما وخياطة الأوردة الثاقبة القاصرة تحت اللفافات العميقة، ويفيد حقن الأوردة أحياناً بالمحاليل المصلِّبة sclerosing agents للتخلص من الدوالي الصغيرة الحجم، وبعض الدوالي المتبقية بعد العمل الجراحي، ولاسيما إذا تبع ذلك ربط الساق ربطاً جيداً بضعة أسابيع. وهنالك ما يسمى الدوالي الثانوية وهي تحدث بعد التهاب الجملة الوريدية العميقة في الطرف السفلي أو انسدادها، وما يحدث هنا هو ضخ محتويات الأوردة العميقة من الدم كلما تقلصت عضلات الساق في أثناء المشي مثلاً عبر الأوردة الثاقبة التي تصبح دساماتها قاصرة، إلى الدوالي الثانوية التي تحتقن بالدم وتسبب مع مرور الزمن الالتهابات الجلدية المزمنة، وتموّت النسج الشحمية تحت الجلد، والتقرحات الجلدية. إذا أدت الدوالي الثانوية إلى الالتهابات أو التقرحات الجلدية أو غير ذلك من الاختلاطات وإذا لم تصاحب التهاب الأوردة العميقة وذمة كبيرة في الساق، ينصح باستئصال هذه الدوالي الثانوية أسوة بالدوالي الأولية، على أن يصحب العملية كشف كل وريد ثاقب في الساق وقطعه، وتطعيم التقرحات الجلدية إن وجدت. وهنالك أشكال أخرى من الدوالي: فقد تحدث دوالي الساقين بأشكال غير مألوفة في الأطفال نتيجة غياب دسامات الأوردة العميقة والثاقبة ولادياً، أو نتيجة نواسير ولادية شريانية وريدية متعددة في الساق. كما تحدث الدوالي بعد حصول ناسور شرياني وريدي مكتسب نتيجة أذية شريانية في أي ناحية من نواحي الجسم، وفي حالات قصور الدسام المثلث الشُّرَف، وفي حالات ارتفاع توتر وريد الباب (دوالي المريء). التهاب الأوردة مرض التهابي غير نوعي يصيب جدران الأوردة والنسج حولها، ويترافق بتخثر الدم في لمعتها. يصيب التهاب الأوردة الأوردة السطحية المحيطية نتيجة الرض أو الوخز بالإبر غير المعقمة أو حقن أدوية مخرشة، أو نتيجة وجود دوالي الساق. هذا النوع من الالتهابات الذي يظهر على مسير الأوردة السطحية محدود العمر وغير خطر، ولو أنه قد يسبب الألم الشديد المؤقت ويعالج بالضمادات الدافئة والمسكنات ومضادات الالتهاب. أما التهاب الأوردة العميقة (ويحدث عادة في الطرفين السفليين) فذو شأن كبير ويمكن تقسيمه سريرياً لنوعين: الخثار الوريدي phlebothrombosis الذي يطغى فيه عامل التخثّر على الآفة المرضية، والتهاب الوريد الخثري thrombophlebitis وعامل الالتهاب فيه هو الأخطر. يأتي شأن التهاب الأوردة الكبير من الوجهة الطبية من اختلاطين قد يحدثان من جرائه أولهما: وهو الأخطر، الصّمة الرئوية، التي تنتج عن انفصال جزء من خثرة الوريد وصعود هذه الخثرة الجزئية من خلال الجملة الوريدية العميقة ووصولها إلى القلب فالشريان الرئوي الذي تتوضع فيه أو في أحد فروعه وتهدد الحياة بالخطر إن كانت ذات حجم كبير، ويحدث هذا الاختلاط غالباً بعد الإصابة بالنوع الأول من المرض (أي الخثار الوريدي). والاختلاط الثاني هو التغيرات الركودية في الساق التي تحصل نتيجة انسداد الأوردة العميقة والأوعية اللمفية المحيطة بها بعامل الالتهاب ويحدث هذا الاختلاط غالباً بعد الإصابة بالنوع الثاني (أي التهاب الوريد الخثري). 1ـ الخثار الوريدي: يحدث الخثار الوريدي على العموم من اختلاط ناتج من العمليات ولاسيما العمليات التي تحتاج إلى نقاهة في السرير مدة طويلة، وخاصة المتعلقة بالموثة والحوض والصدر، كما يحدث الخثار الوريدي بعد الرضوض الكبيرة والكسور، ولاسيما كسور الحوض، وبعد السكتات الدماغية والاحتشاءات القلبية، والأمراض الالتهابية الحادة. ومن العوامل المساعدة الإصابة بالسرطان (ولاسيما سرطان جسم المعثكلة والموثة)، والحمل والولادة، وأمراض القلب، وبعض أمراض الدم، والبدانة، وتقدم السن، وتناول بعض الأدوية كالإستروجينات. إلا أن خثار الأوردة قد يحدث عفوياً من دون سبب ظاهر. يبدأ خثار الأوردة بتجمع الصفيحات في الجيب الوريدي (على طرفي الدسام الوريدي) وتَكوّن خثرة «بيضاء» من الصفيحات والليفين fibrin تؤدي إلى بطء العود الوريدي وركود الدم في الوريد، وتكون خثرة «حمراء» قد تحلُّها الخمائر الحالَّة لليفين في الدم، أو تتطور لتتطاول في اللمعة الوريدية وتكوّن التهاباً في جدار الوريد، ثم تتعضَّى organization وتتولد فيها قنوات recanalization بعد أسابيع من تكوّنها. ومع أن العالم الألماني Virchow حدد عوامل خثار الأوردة الثلاثة منذ أكثر من قرن وهي: ركود الدم stasis وأذية جدار الوعاء trauma بالالتهاب أو الرض أو غيره وفرط قابلية التخثر hypercoagulability فالسبب الأساسي لخثار الأوردة في شخص دون آخر لا يزال مجهولاً. يبتدئ خثار الأوردة العميق في معظم الأحيان في الجيوب الوريدية في عضلات الساق، ويبتدئ بعضها في الأوردة الحرقفية الفخذية، وتتطاول الخثرات أحياناً من موضعها الأصلي باتجاه الناحية المركزية في الحالة الأولى، في حين تتطاول نحو الساق في الحالة الثانية. وفيما يتعلق بالنواحي السريرية فأعراض خثار أوردة الساق العميقة وعلاماته المدرسية هي ألم عضلات الساق الخلفية وتوترها، ويزداد ذلك في أثناء الوقوف والسير أو العطف الظهري للقدم (علامة هومان Homan's sign)، ويرافق ذلك أحياناً بعض الوذمة الانطباعية في القدم والساق وارتفاع درجة الحرارة وتسرع النبض وقد يبقى الأمر محدوداً بهذه التغيرات بضعة أيام ثم تزول سائر الأعراض من تلقاء نفسها مع الراحة. أو تزداد وتبقى الساق متوذّمة أياماً طويلة. وقد تتحول الصورة إلى حالة التهابية (التهاب الوريد الخثري). أما خثار الأوردة الحرقفية الفخذية فيندر أن يشخص قبل أن يتظاهر سريرياً بوذمة منطبعة في الطرف السفلي كله، ولا تترافق هذه الوذمة بعلامات التهابية كبيرة في حالة الخثار الوريدي الحرقفي الفخذي الذي يسبب الالتهاب الوريدي الأبيض المؤلم phlegmasia alba dolens. إلا أن الخثار الوريدي يحدث في نسبة كبيرة من الحالات من دون أي أعراض، وقد تكون أولى علاماته صّمة رئوية صغيرة، أو كبيرة قاتلة. وبالمقابل فإن هذه الأعراض والعلامات قد تُشاهد في حالات مرضية أخرى مفصلية أو عضلية أو جهازية. وفيما يتصل بالاختبارات التشخيصية فهي غير باضعة كتخطيط التحجّم وفائق الصوت، ومنها قياس الضغط الوريدي وحجم الدم وجريانه في الأوردة، والومضان بالنظائر المشعّة radioisotope scanning ومنها تصوير الأوردة الظليل الذي يعدّ أدق طرائق التشخيص المتوفرة للطبيب. أما من ناحية الوقاية والعلاج فقد يفيد في الوقاية إعطاء السوائل والشوارد بكميات كافية بعد العمليات الجراحية، ورفع الساقين في المرضى الذين يتوقع استعدادهم للخثار الوريدي أو ربطهما، وتحريك المرضى بعد العمليات باكراً، وإعطاء الأدوية المضادة لتكتل الصفيحات. إلا أن الإجراء الوقائي الذي تحققت فائدته بعد دراسة عالمية جرت عام 1965 هو إعطاء مادة الهيبارين بمعايير صغيرة ابتداء من الساعات القليلة التي تسبق العملية في الأحوال ذات الخطورة العالية. أما العلاج، إذا وضع التشخيص فله هدفان هما منع حدوث الصمات الرئوية، وإيقاف الآفة عند حدها لإعطاء المجال للتفاعلات الطبيعية لحل الخثرة تدريجياً fibrinolysis واتقاء عقابيل الالتهاب الوريدي الركودية. ويتحقق الهدف الأول بإعطاء مميعات الدم الوريدية (الهيبارين) التي تضمن الوقاية من الصمات الرئوية في نحو 75% من الحالات. أما إذا كان هناك مضاد استطباب لإعطاء المميعات (وجود قرحة هضمية مثلاً) أو إذا ظهرت علامات صمة رئوية والمريض مازال يتناول المميعات، فالوقاية من الصّمات الرئوية تتم بإغلاق الوريد الأجوف السفلي بعملية جراحية، إما إغلاقاً كاملاً بالربط ligation أو بشكل تترك فيه فراغات صغيرة (الطيّ) plication تسمح بمرور الدم من دون الخثرات، وتمنع نظرياً على الأقل حصول التهاب الوريد الخثري في الساق السليمة الذي يحدث في نحو 10% من عمليات ربط الأجوف السفلي الكامل.
ما الهدف الثاني فيتحقق بالراحة في السرير مع رفع الساقين فوق مستوى الصدر، وإعطاء المريض كميات كافية من السوائل، وإعطاء مميعات الدم الوريدية نفسها لمنع تطاول الخثرة، وذلك حتى اختفاء العلامات الموضعية، ويستعاض بعدئذٍ عن الهيبارين بالمميعات الفمية (مثبطات البروترومبين كالكومادين coumadin) بضعة شهور. ويمكن الابتداء بالسير تدريجياً بعد اختفاء العلامات كلياً. وقد يُضطر المريض إلى استعمال الجوارب أو الرباطات الطبية المرنة في أثناء الوقوف والمشي. ويستعمل بعضهم الخمائر منشطات مكوِّنات البلازمين plasminogen activators كالستربتوكيناز واليوروكيناز streptokinase, urokinase لحل الخثرة في المراحل الباكرة، إلا أن استعمال هذين الإنظيمين لا يخلو من عواقب كالنزف والتحسس عند استعمال الستربتوكيناز وكالكلف chloasma عند استعمال اليوروكيناز. وهنالك أشكال أخرى من الخثار الوريدي منها خثار الوريد الإبطي وتحت الترقوة الذي يحدث بعد جهد عضلي غير عادي في الشباب (متلازمة باجيت ـ شروتر Paget-Schroetter syndrome) وخثار الأجوف العلوي superior vena cava syndrome نتيجة سرطان الرئة أو أورام المنصف mediastinum العلوي أو تليفاته، وخثار الأجوف السفلي الممتد من خثار الجملة الوريدية الحرقفية ـ الفخذية، وخثار الوريد الكلوي المسبب للمتلازمة الكلوية nephrotic syndrome وخثار الوريدين الكبديين (متلازمة باد ـ شياري Budd-Chiari syndrome) وخثار وريد الباب في الرضع والأطفال. 2ـ التهاب الوريد الخَثري: قد يتحّول الخثار الوريدي سريرياً إلى التهاب وريد خثري، لذا كانت العوامل المسببة لهذا الالتهاب الأخير هي نفسها التي تسبب الخثار الوريدي ويضاف إليها الأخماج التي قد تصيب القدم أو الساق عن طريق جرح جلدي فتسبب الالتهاب الخلوي اللمفي إضافة إلى التهاب الأوردة العميقة. وفيما يتعلق بالنواحي السريرية، يلاحظ أن الألم يكون أشد وطأة في هذه الحالة منه في الخثار الوريدي، ويتطور المرض بسرعة فتصاب القدم والساق بالقساوة والألم عند الجس، وتصبح بعد مدة قصيرة ذات لون أحمر محتقن، وكثيراً ما يشمل الالتهاب الوريدين الفخذي والحرقفي معاً والنُّسُجَ حولهما مما يجعل كل الطرف مصاباً بالوذمة وارتفاع الحرارة والاصطباغ البنفسجي، وتدعى هذه الحالة التهاب الوريد الأزرق المؤلم phlegmasia cerulea dolens. ويحدث مع التهاب الوريد الخثري التهاب الأوعية اللمفية وانسدادها مما يزيد من وذمة الساق. ويندر أن تعوق الوذمة الشديدة السريعة التكوّن التروية الشريانية، وقد ينتج منها تموت في نهاية الطرف. ومن المضاعفات الأساسية لهذه الآفة التغيرات الركودية في الساق التي تنتج من بقاء نسبة من الأوردة العميقة والأوعية اللمفاوية مسدودة بعد انتهاء الالتهاب، ومن تخرب دسامات الأوردة العميقة والثاقبة، ويحدد درجة هذه التغيرات مقدار الإصابة الأولية، ومكانها في الجملة الوريدية وشدتها وسرعة معالجتها أو التأخر في تلك المعالجة. يُصرَّف الدم من الساق بعد انتهاء الالتهاب والانسداد عن طريقين: أولهما القنوات التي تتكوّن ضمن اللمعة المتخثرة recanalization، والثاني أوعية المفاغرة التي تنمو تحت سطحي اللفافة العميقة (الدوالي الثانوية) إلا أن الطريقين كليهما غير ناجع، لتخرب الدسامات وانعدام وظيفتها. لذلك يكون تطور المرض بعد الإصابة بالتهاب الوريد الخثري الشديد نحو مضاعفات ركودية في الجلد وتحت الجلد مع وذمة مزمنة في النسيج الخلوي وتليف النسيج الشحمي تحت الجلد وتموته، والتهابات جلدية تنتهي بالتقرحات، ودوالٍ ثانوية، ما لم تتم المعالجة الباكرة الهادفة إلى حلِّ الخثرات حلاً طبيعياً قبل تخرب الدسامات الوريدية. أما المعالجة فالحالة الباكرة تعالج بالراحة ورفع الساقين فوق مستوى الصدر والصادّات (إن كان هناك شك في التجرثم) وإعطاء الهيبارين حتى تنتهي أعراض الالتهاب. وإذا شوهدت الحالة في الأيام الأولى، وكان الالتهاب الوريدي شديداً بلغ جدار البطن، أو كان يهدد التروية الشريانية للأصابع، فيمكن اللجوء إلى استئصال الخثرة جراحياً بالتخدير الموضعي venous thrombectomy ثم المعالجة كما سبق. ويثابر على المعالجة برفع الساقين والهيبارين، ومن بعده المميعات الفمية، حتى تختفي الوذمة تماماً كما هي الحال في الخثار الوريدي، ثم يسمح للمريض بالتحرك والسير تدريجياً بمساعدة الرباطات أو الجوارب الطبية. فإذا أمكن التحكم بوذمة الساق يمكن عندئذٍ سحب الدوالي الثانوية واستئصال أماكن التليف والتموت الجلدي، وتغطية المناطق الجلدية المكشوفة بطعوم جلدية. الصِّمات الرئوية تسبب الصّمات الرئوية 10% من مجمل الوفيات عامةً، وتنشأ من خثرات في أوردة الطرفين السفليين والحوض، في حين تنتهي في معظم الأحيان في فروع الشريان الرئوي للفصَّين السفليين ولاسيما الأيمن منهما. وأسباب الصِّمات الرئوية هي أسباب الخثار الوريدي نفسها. أما ما يتعلق بالفيزيولوجية المرضية فقد تغلق صمّة كبيرة مجرى البطين الأيمن بكامله مسببة الوفاة في دقائق قليلة وقد تسدّ الصّمة الشريان الرئوي الأصلي فتؤدي إلى الوفاة في مدى ساعات، إلا أن معظم الصّمات القاتلة تنقسم لأكثر من جزء واحد، وتتوضع في أحد الشريانين الرئويين، وبعض فروع الشريان الآخر. وتحدث الوفاة من جراء الصّمات الخطرة في مدى الـ24 ساعة الأولى نتيجة إغلاق أكثر من 50% من مجرى الشريان الرئوي آلياً، وفي أقل من ذلك الزمن إذا كانت وظيفة القلب أو الرئة سيئة في الأساس. ويعتقد أن من العوامل المساعدة على تفاقم الحالة السريرية وحدوث الوفاة، إفراز الصفيحات في الصمة مركب السيروتونين serotonin وأشباهه، مما يؤدي بفعل منعكس إلى تشنج القصبات وتضيق الشرايين الرئوية البعيدة. أما الصّمات غير المؤدية إلى الوفاة فتتلوها صّمات أخرى خطرة على الحياة في 30% من الحالات. ويكون تطور الصّمة نفسها إما بالانحلال التلقائي الفيزيولوجي التام وإما بتكوّن خثرات بعيدة في فروع الشرايين الرئوية قد تؤدي إلى ارتفاع التوتر الرئوي واسترخاء القلب الأيمن، كما تؤدي الصّمة إلى احتشاء النسيج الرئوي في 10% من الحالات. ويعتمد تأثير الصّمة على حجمها، وموقعها من الشجرة الشريانية الرئوية، وحالة أوعية المفاغرة في النسيج الرئوي، ووجود آفة قلبية أو رئوية مرافقة. وفيما يتعلق بالنواحي السريرية يجب أن يفرق بين أعراض الصّمة وأعراض احتشاء الرئة، إذ إن الوفاة قد تحصل من جراء حدوث الصمة قبل أن يمر الوقت الكافي لتشكل الاحتشاء وكثيراً ما تكون أعراض الصمات الرئوية الصغيرة والمتوسطة الحجم غامضة وغير محددة مما يجعل التشخيص صعباً. ومن الأعراض الباكرة الزلة التنفسية (عسر التنفس) وتسرع حركات التنفس، وحس الانقباض بالصدر وتسرع نبضات القلب. ويفيد كشف علامات الخثار الوريدي في إحدى الساقين في وضع التشخيص، إلا أن هذه العلامات لاتوجد إلا في ثلث الحالات. أما الصمات الكبيرة والخطرة، فتؤدي إلى الصدمة، وارتفاع الضغط الوريدي المركزي واحتقان أوعية العنق وبعض الزرقة. فإذا تشكل احتشاء الرئة وهو لا يحدث قبل مرور 12 ساعة على الأقل من انطلاق الصّمة أُضيف إلى الأعراض ألم الصدر الجنبي، ونفث الدم، وارتفاع الحرارة، وأصوات احتكاك الجنب وعلامات الانصباب الجنبي. وفيما يتصل بالتشخيص، يلاحظ أن عدد الكريات البيض يرتفع بعد ساعات من حدوث الاحتشاء الرئوي، كما ترتفع خميرة الـ LDH والبليروبين بعد أيام قليلة، وقد تفيد صورة الصدر وتخطيط القلب الكهربائي في التوجه نحو تشخيص الصّمة الرئوية، كما يفيد ومضان الرئتين في الكشف عن وجودها، ولاسيما إذا ترافقت علامات الومضان الإيجابية مع صورة شعاعية طبيعية للصدر. إلا أن تأكيد التشخيص تأكيداً قاطعاً لا يتم إلا عن طريق قثطرة القلب وتصوير أجوافه، كما أنه يجب ألا تجرى العمليات الجراحية لاستئصال الصمات ما لم تحدد مواقعها بالضبط بتصوير أجواف القلب. أما ما يتصل بالوقاية فإن الإجراءات الوقائية إزاء الصمات الرئوية هي نفسها التي يُنصح بها إزاء تكوّن الخثرات الوريدية: التحرك الباكر بعد العمليات، والتمارين الرياضية، وإبقاء الساقين في حالة الرفع فوق مستوى الرأس في أثناء النقاهة، ووضع الرباطات الطبية وقائياً على الساقين. وتفيد مميعات الدم الوريدية المعطاة بعيار منخفض (5000 وحدة تحت الجلد قبل العملية بساعتين، ثم كل ساعة حتى يصبح المريض قادراً على التنقل) في الوقاية من الصمات الخطرة في المرضى والمعرضين لعوامل تساعد على تكوّن الخثرات الوريدية. كذلك يفيد بعض العقاقير التي تحول دون تجمع الصفيحات (الأسبرين aspirin والديبيريدامول dipyridamole) في الوقاية من تكوّن الخثرات وانطلاق الصمات. وأما ما يتصل بالعلاج فهناك هدفان علاجيان أساسيان: ـ إنقاذ المصاب في المرحلة الأولى الحرجة بإعطاء الأكسجين ومميعات الدم الوريدية ومنشطات القلب، فإذا لم يستجب المصاب للإجراءات الإسعافية في مدة 6 ساعات ودخل في حالة الصدمة (وهو أمر نادر الحدوث) كان لابد من التحضير بسرعة للقثطرة القلبية وتصوير أجواف القلب، وإجراء العمل الجراحي الإسعافي الذي يشمل استئصال الصمة الرئوية بمساعدة المجازة القلبية ـ الرئوية المؤقتة (قلب مفتوح) الذي يتبعه عادة إغلاق الأجوف السفلي. ـ الوقاية من صمات لاحقة بوساطة مميعات الدم، ويستعمل الهيبارين أولاً مدة أسبوع إلى أسبوعين (وهي المدة الضرورية لالتصاق الخثرات على جدران الوريد ومنع تجزئها وانطلاقها على شكل صمة)، يُعطى المريض من بعدها المركبات الفمية المميعة للدم عدة أشهر. أما إذا كان هناك مضادّ استطباب لاستعمال الهيبارين، أو إذا حدثت صمات متكررة بالرغم من استعمال الهيبارين، أو إذا كانت الصمات إنتانية الطبيعة، فيلجأ معظم الجراحين عندئذٍ إلى عملية إغلاق الأجوف السفلي تحت مستوى تفرع الوريدين الكلويين.