يا ابنتي إن حدثتك بما كان عليه أبوك في بعض لأطوار صباه أن تضحكي منه قاسية لاهية ، وما أحب أن يضحك طفل من أبيه وما أحب أن يلهو أو يقسو عليه . *** عَرِفَت لنفسه إرادةٌ قوية ، ومن ذلك الوقت حرم على نفسه ألواناً من الطعام لم تبح له إلا أن جاوز الخامسة والعشرين ، حرم على نفسه الحساء والأرز وكل الألوان التي تؤكل بالملاعق لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة ، وكان يكره أن يضحك عليه إخوته ، أو تبكي أمه ، أو يعلمه أبوه في هدوء حزين . *** كان يجلس بين الطاعمين خجلاً وجلاً ، مضطرب النفس مضطرب حركة اليد ، لا يحسن أن يقتطع لقمته ، ولا يحسن أن يغمسها في الطبق ، ولا يحسن أن يبلغ بها فمه ، ويخيل إلى نفسه أن عيون القوم كلها تلحظه ، وأن عين الشيخ خاصة ترمقه خفية ، فيزيده هذا اضطراباً ، وإذا يده ترتعش ، وإذا بالمرق يتقاطر على ثوبه وهو يعرف ذلك ويألم له ولا يحسن أن يتقيه . *** ولم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان قد وعي من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جملة صالحة ، وحفظ إلى ذلك القرآن كله . *** كان مجلسه عن شماله إذا دخل الغرفة ، يمشي خطوة أو خطوتين فيجد حصيراً قد بسط على الأرض ألقي عليه بساط قديم لكنه قيم ، هناك يجلس أثناء النهار وهناك ينام أثناء الليل تلقى له وسادة يضع عليها رأسه ولحاف يلتف به . *** عاد إلى سكونه وجموده في ركنه الذي اضطر إليه ، وقد أخذ لنهار ينصرم والشمس تنحدر إلى مغربها وأخذ يتسرب إلى نفسه شعور شاحب هادئ حزين ، ثم يدعو مؤذن المغرب إلى الصلاة فيعرف الصبي أن الليل قد أقبل ، ويقدر في نفسه أن الظلمة قد أخذت تكتنفه ، ويقدر في نفسه أن لو كان معه في الغرفة بعض المبصرين لأضيء المصباح ليطرد هذه الظلمة المتكاثفة ، ولكنه وحيد لا حاجة له إلى المصباح فيما يظن المبصرون ، وإن كان ليراهم مخطئين في هذا الظن ، فقد كان في ذلك الوقت يفرق تفرقة غامضة بين الظلمة والنور .وكان يجد في المصباح إذا أضيء جليساً له ومؤنساً . وكان يجد في الظلمة وحشة لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ ومن حسه المضطرب .. والغريب أنه كان يجد للظلمة صوتاً يبلغ أذنيه ، صوتاً متصلاً يشبه صوت البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ وكان هذا الصوت يبلغ أذنيه فيؤذيهما ، ويبلغ قلبه فيملؤه روعاً ، وإذا هو مضطر إلى أن يغير جلسته فيجلس القرفصاء ويعتمد بمرفقيه على ركبتيه ويخفي رأسه بيديه ويسلم نفسه لهذا الصوت الذي يأخذه من كل مكان . *** وسعى إلى مكان الامتحان في زاوية العميان خائفاً أشد الخوف مضطرباً أشد الاضطراب ، ولكنه لم يكد يدنو من الممتحنين حتى ذهب عنه الوجل فجأة ، وامتلأ قلبه حسرة وألماً ، وثارت في نفسه خواطر لاذعة لم ينسها قط ، فقط انتظر أن يفرغ الممتحنان من الطالب الذي كان أمامهما ، وإذا هو يسمع أحد الممتحنين يدعوه بهذه الجملة التي وقعت في أذنه ومن قلبه أسوأ وقع : ( أقبل يا أعمى ) ولولا أن أخاه أخذ بذراعه في غير رفق وقاده إلى الممتحنين في غير كلام لما صدق أن هذه دعوة قد سيقت إليه ، فقد كان تعود من أهله كثيراً من الرفق به وتجنباً لذكر هذه الآفة بمحضرة ، وكان يقدر ذلك وإن كان لم ينس قط آفته ولم يُ شغل قط عن ذكرها . *** اشتد ضيقه بالأزهر وأهله وبحياته في القاهرة .....، من الأزهر إلى الجامعة هو رمز لانتقال المجتمع العربي من ثقافة القرون الوسطى إلى أبواب الحضارة الحديثة . *** حتى إذا أنشئت الجامعة وعلم الفتى علمها ذهب عنه الخوف وملأ الأمل نفسه رضا وبهجة وسرور ، واستمع الفتى لأول درس من دروس الجامعة في الحضارة الإسلامية ، فراعه ما راعه شيء لم يكن له بمثله عهد في الأزهر ... ، كان تحرقه لدرس اليوم الثالث أشد من تحرقه إلى الدرسين اللذين سبقاه ، فسيكون الأستاذ إيطالياً ، ويتحدث باللغة العربية ... *** هذا الأستاذ كارلو نالينو المستشرق الإيطالي يدرس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأموي .. وهذا الأستاذ سنتلايا يدرس بالعربية تاريخ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الترجمة بخاصة .. وإذا الفتى يخرج من حياته الأولى خروجاً يوشك أن يكون تاماً ، لكن عقله قد نأى عن بيئته نأياً تاماً واتصل بأساتذته أولئك اتصالاً متيناً .