قال الإمام ابن القيم –رحمه الله-:
وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها.
فتوبة العبد بين توبتين من ربه، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولًا إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة، قال الله –سبحانه-: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118،117].
فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا مقتضيًا لتوبتهم، فدلَّ على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتفي لانتفاء علته.
ونظير هذا: هدايته لعبده قبل الاهتداء، فيهتدي بهدايته، فتُوجِب تلك الهداية هداية أخرى من الله يثيبه الله بها هداية على هدايته، فإن من ثواب الهدى الهدى بعده، كما أن من عقوبة الضلالة الضلالة بعدها، قال الله –تعالى-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17]، فهداهم أولًا فاهتدوا، فزادهم هدى ثانيًا.
وعكسه في أهل الزيغ، كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف : 5]، فهذه الإزاغة الثانية عقوبة لهم على زيغهم وضلالهم.
وهذا القدر من سرِّ اسميه الأول والآخر فهو المُعِدّ، وهو الممدّ، ومنه السبب والمسبب، وهو الذي يُعيذ من نفسه بنفسه، كما قال أعرف الخلق به: (وأعوذ بك منك).
والعبد تواب، والله تواب، فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق.
وتوبة الله نوعان: إِذْنٌ ثم توفيق، وقبول وإمداد.
المرجع: موسوعة الأعمال الكاملة للإمام ابن قيِّم الجوزية (جامع الآداب)
جمعه ووثَّق نصوصه وخرَّج أحاديثه: يسري السيد محمد
دار الوفاء - ط: الأولى، 1423 هـ