بسم الله الرحمن الرحيم
في حقبة تفوُّق الغرب المادي وقدرته على التسويق لأفكاره ومبادئه، وأثناء غياب العدل في أنظمة الدول العربية والإسلامية؛ دعا كثير من المفكرين المسلمين إلى الديمقراطية، وألبسوها ثياباً إسلامية، واستخرجوا لها ما يسندها من نصوص الكتاب والسنة، زاعمين أن الإسلام سبق الغربيين إلى الديمقراطية التي هي من صميم الإسلام!!
والحقيقة أن الديمقراطية مناقضة للإسلام في أصول عدة، هي:
الأصل الأول: أن الديمقراطية نظام سياسي عَلماني يُعنى بأمور الدنيا ولا يلتفت للآخرة لا من قريب ولا من بعيد، وليس له علاقة بالدين مطلقاً، واعترافه بحق تديُّن الشخص واحترام اختياره لما يدين به ليس احتراماً للدين ذاته، وإنما هو احترام للإنسان الذي يدين به؛ ولذا فإن كل الأديان والمذاهب في الميزان الديمقراطي سواء، إلا ما ينافي الديمقراطية باعتبارها عند القائلين بها حقيقة مطلقة نهائية، فما عارَضها يجب نفيه وعدم الاعتراف بحقه في ذلك.. بينما النظام السياسي في الإسلام يراعي مسألتي الدين والدنيا، ويقدم الدين على الدنيا؛ ولذا كان حفظ الدين أولى الضرورات الخمس التي راعت الشريعة حفظها، وهو أهمها وأعلاها وأصلها، وبقية الضرورات تبعٌ له، بل إن الإسلام يجعل الدنيا مطية للدين، وليس العكس، فكل ما يتعارض مع الشريعة مما يظن فيه مصلحة فهي مصلحة ملغاة لا اعتبار لها، قال السعدي - رحمه الله تعالى: حقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية[1]. ولذا يقرن علماء الحضارة والاجتماع والعمران من المسلمين في معالجة الحكم والسياسة وشؤون الدولة؛ بين أمور الدين والدنيا، ويرعون مصالح الدنيا والآخرة، ولا يفصلون بينهما في المعالجة.
قال ابن خلدون - رحمه الله تعالى: والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة[2]. وفي تفسير قول الله تعالى: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] قال ابن عاشور - رحمه الله تعالى: تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة دليلاً على أن جعل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها... فالخليفة آدم وخلفيته قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي، وتلقين ذريته مراد الله من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسنِّ النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر لإقامة خليفة؛ لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم، إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر دون ذلك، وقد بعث الله الرسل، وبيَّن الشرائع، فربما اجتمعت الرسالة والخلافة، وربما انفصلتا، بحسب ما أراد الله من شرائعه، إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة؛ لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع، وهو الشريعة الخاتمة؛ ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر الخطتين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام على إقامة الخليفة؛ لحفظ نظام الأمة، وتنفيذ الشريعة، ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة[3].
الأصل الثاني: اختلاف مفهوم الأمة والشعب بين الفكر الغربي والتقرير الشرعي؛ ففي الفكر الغربي الشعب أو الأمة هم من يعيشون في حدود جغرافية، فهي رابطة عنصرية حادثة، بينما في الإسلام فالأمة هي من تجمعها عقيدة الإسلام وشريعته[4].. هذا هو الأصل، وهو الذي يجب تكريسه في وجدان المسلم أياً كان جنسه أو لونه أو لسانه، وهو المعمول به في أمة الإسلام يوم أن كانت تجمعهم خلافة واحدة إلى سقوط الدولة العثمانية، فحاول الغربيون فصم عرى الرابطة الإيمانية بين المسلمين، وإحلال روابط أخرى كالقومية والوطنية ونحوها على غرار ما حصل في الغرب، فالاستفتاء الشعبي في العملية الديمقراطية يكون للأمة، لكن من هي هذه الأمة؟!
في الفكر الغربي هي الدولة الوطنية التي تجمعها حدود جغرافية، وأما في مفهوم الإسلام فالأمة مجموعة أفراد تجمعهم رابطة الدين، فكيف يكون الاستفتاء حينئذ على دول مجزَّأة؟!
إضافة إلى أن مفهوم الأمة بالمعنى الشرعي لا يدخل فيه غير المسلم ولو كان من البلد نفسه، وأما مفهوم الأمة بالمعنى الغربي فيدخل غير المسلم فيه، وهو شريك في عملية الاستفتاء بل والترشح للمناصب العليا في الدولة ما دام داخلاً في الحدود الجغرافية للدولة أو يحمل جنسيتها، وهذا يهدم أصلاً في الإمامة العظمى بالمفهوم الشرعي، وهو اشتراط الإسلام والعدالة في الإمام.
وفي بيان حقيقة الأمة، وانتماء الأفراد إليها قال الله تعالى مخاطباً المسلمين {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، وقال أيضاً: {وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، قال القرطبي - رحمه الله تعالى: وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماع أهلها على مقصد واحد[5].
الأصل الثالث: أن السيادة في النظام السياسي الإسلامي للشريعة الإسلامية، بينما تكون السيادة في النظام الديمقراطي للأمة أو للمجالس التشريعية التي رشحتها الأمة. والأدلة على أن السيادة في الإسلام للشريعة كثيرة جداً، منها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى: فأمرَ الله بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه؛ فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة[6].
وقال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، وقال أيضاً: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْـخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].. وفي ذم تشريع غيره واتخاذه قانوناً قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْـجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، قال السعدي - رحمه الله تعالى: فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي؛ ولهذا أضافه الله للجاهلية. وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم والعدل والقسط والنور والهدى[7].
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، نقل المفسرون عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم»[8]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية: 18].
والحقيقة أن موضوع السيادة في الإسلام كان محل تجاذب بين المفكرين المسلمين وفقهاء القانون الوضعي؛ بسبب تأثر كثير منهم بمفهوم السيادة في الغرب ومحاولة تنزيله على شريعة الإسلام[9]، ذلك أن الغرب كان يعمل بنظرية التفويض الإلهي، ومفادها: أن الحاكم يستمد سلطته مباشرة من الله، ويشرِّع للناس قوانينهم وأنظمتهم، وعلى الناس طاعته طاعة مطلقة، وكان هذا الفكر هو الشائع في الغرب قبل الثورة الفرنسية، ثم في الثورة الفرنسية وما أعقبها من ثورات جاءت نظرية العقد الاجتماعي التي تم بموجبها نقل السيادة من الحاكم الذي يدَّعي أنه مفوض من الله تعالى إلى مجموع الأمة في الفكر الديمقراطي الرأسمالي، فنُقلت السيادة من فرد وهو الحاكم إلى مجموعة أفراد وهم الشعب فيما يسمى العملية الديمقراطية[10].
ولم يجترئ أرباب المدرسة العقلية العصرانية من قبل على انتهاك سياج الشريعة لصالح الديمقراطية الغربية ونقل السيادة منها إلى الشعب، إلا ما كان من المتأخرين منهم، ثم من القانونيين الذين يجهلون الشريعة، ثم عمت هذه اللوثة كثيراً من الكتَّاب والمفكرين والصحفيين بسبب علو الغرب واستكباره وفرض قيمه على الأمم بالدعاية الإعلامية الخادعة، وبالضغوط السياسية والاقتصادية، وبالقوة العسكرية إن لزم الأمر، كما في مشروع فرض الديمقراطية في العراق وأفغانستان بالاحتلال والقتل.. وهذا التباين في هذا الأصل الكبير له نتائج كثيرة أخطرها اثنتان:
أنه في النظام الديمقراطي تختار الأمة من يحكمها ومن يمثلها في المجالس التشريعية والتنفيذية، بغض النظر عن دينه أو عدالته أو أهليته، فمن الممكن أن يحكم الكافر والمرأة والفاسق ما دام أنه حصد أكثر الأصوات، وتؤثر الدعاية ورجال المال والإعلام في تسيير عملية الترشيح لمصلحتهم، وهذا باطل في الإسلام؛ إذ إن لمن يتولى الولاية العظمى أو ما دونها شروط لا بد من توافرها، جاءت بها الشريعة، ورضا الأمة عمن يحكمها أو يمثلها في المجالس الشورية والتنفيذية يكون تالياً لما جاء في الشريعة، إذ لا يجوز أصلاً ترشيح من لا تتوافر فيه الشروط الشرعية ولو رضيه أكثر الناس، فضلاً عن انتخابه أو تنصيبه وتوليته.
أن المجالس التشريعية التي انتخبتها الأمة لها الحق في التشريع للناس من دون الله تعالى، بمعنى أن الواجبات والمحرمات تخضع لعملية التصويت: فالواجب والمشروع قد يمنع الإنسان منه ويعاقب عليه إذا فعله، كما لو صوتت الأغلبية بمنع الحجاب للمرأة، وحظر التعدد في الزواج، ورتبت عقوبات على ذلك؛ صار ممنوعاً قانوناً، ويعاقب فاعله، مع أن الشريعة شرعته أو أوجبته.. وفي المحرم قد يباح الخمر والزنا وعمل قوم لوط وغير ذلك إذا كانت الأغلبية تؤيد حله، وتنتقل من كونها محرمات تقام الحدود على من يفعلها إلى مباحات يحمي القانون فاعليها، وترعاها الدولة.
وهذا في الواقع يهدم الشريعة من أركانها، ويحول الناس من عبوديتهم لله تعالى إلى عبودية أهوائهم وشهواتهم، والله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، ونهى سبحانه عن اتباع الهوى في آيات كثيرة فقال {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى}[النساء: 135]، وقال: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فالحق هو ما جاء به الإسلام لا من اختارته أغلبية الناس، بل إن الله تعالى نهى عن طاعة أهل الهوى؛ لأنهم سبب في ضلال الناس وهلاكهم وصدهم عن دين الله، فقال سبحانه {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٨٢]، وقال أيضاً:{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16]، وبيَّن أن أهل الأهواء هم أضل الناس فقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
ومع الأسف، فإن بعض المفكرين المسلمين انزلقوا في هذه الهوة فزعموا أن السيادة للأمة على غرار ما أوجبه النظام الديمقراطي، مستدلين بالآيات التي يتوجه فيها الخطاب للأمة نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، و{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، باعتبار أن الأمة هي المتلقية للأوامر الربانية المنفذة لها، وهذا غلط فاحش يدل على عدم فهم فكرة السيادة في الفكر الديمقراطي، كما يدل على عدم التفريق بين مشرِّع القانون ومنفِّذه.
فالسيادة في الفكر الديمقراطي هي السلطة الدائمة المطلقة، وصاحب السيادة هو من يملك قدرة تحديد فكرة القانون الصحيحة في الجماعة، وقد يكون شخصاً كالملك، وقد يكون طبقة كما في النظم الأرستقراطية، وقد يكون الأمة كلها كما في الديمقراطية.. والسيادة لا تقبل التنازل عنها، لكن ممارستها يمكن أن تعهد بها الأمة إلى فرد أو مجموعة أفراد، كما أنها لا تقبل التقييد، فهي إما أن توجد كاملة دون قيد، وإما أن لا توجد، وليس هناك أمر وسط بين الحالتين، وتقييد السيادة يعني هدمها[11].
وفي الفكر الديمقراطي مصدر التشريع ومنفذه كلهم بشر، أما في الإسلام فمصدر التشريع الكتاب والسنة، والحاكم منفذ للشريعة، والأمة رقيبة عليه في تنفيذها؛ ولذا لو بدلها أو حاد عنها وجب رده إليها، أو عزله عن إمامة المسلمين.
وفي جواب للدكتور يوسف القرضاوي عن أدلة من رفضوا الديمقراطية بأنها حكم الشعب للشعب، والحاكمية إنما يجب أن تكون لله تعالى، قال القرضاوي: هو قول غير مسلَّم، فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الدكتاتورية المتسلطة، ورفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت... إلى أن قال: والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصاً إذا وصلت إلى كفر بواح فيه من الله برهان[12].
وقال القرضاوي: ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة: إن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع فهو باطل وهو في الواقع تأكيد لا تأسيس[13].
قلت: هذا جواب لا إقناع فيه؛ إذ إن الديمقراطية نظام للحكم يقوم على منح السيادة للأمة أو لممثلين عنها، وهذا ركنها الأساس، فسلبها هذا الركن - وهو سيادة الشعب - يخرجها عن كونها ديمقراطية إلى شيء آخر، ودعوى أن المسلم الذي ينادي بالديمقراطية لا يخطر بباله تحويل سلب الشريعة سيادتها - على فرض التسليم به - هو بسبب أن بعض المفكرين المسلمين حشروها في الإسلام، واستدلوا لها بأدلة شرعية، فانطلى ذلك على من يقول بها وهو لا يعلم حقيقتها من عامة الناس، فظنوا أنها من الإسلام بسبب التلبيس عليهم.
وأما مقترح إضافة مادة في الدستور مفادها: أن كل ما يخالف قطعيات الشرع فهو باطل؛ كلام غير صحيح عملياً، وعليه مأخذان:
المأخذ الأول: أن هذا ينافي الديمقراطية أصلاً، فإذا حولت السيادة من الشعب أو من يمثله إلى الشريعة انتفت الديمقراطية.
المأخذ الثاني: أن الاقتصار على القطعيات معناه انتهاك حرمة الشرع في غيرها، والقطعيات قليلة في الشريعة، وأكثرها على غلبة الظن، والعمل به واجب؛ لأنه يفيد العلم، وفي تفسير قوله تعالى: {إنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] قال جمع من المفسرين: وإنما أجري الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام[14]. وقال التاج السبكي - رحمه الله تعالى: فكلٌّ من القطعي والظني يُحتج به[15]. فاقتصار الشيخ القرضاوي على استثناء القطعيات فقط فيه إخراج لظنيات الشريعة وهي الأكثر.
فتبيَّن بذلك أن اعتماد الديمقراطية نظاماً للحكم، والرضا بها، فيه تجويز لتعطيل أحكام الإسلام كلها أو بعضها، فهذا يلزم من قال بالديمقراطية، وإن حاول بعضهم التخلص منه، كالشيخ القرضاوي، الذي قال للخروج من هذا المأزق: لا يلزم إذن من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلاً عن حكم الله؛ إذ لا تناقض بينهما، ولو كان ذلك لازماً من لوازم الديمقراطية فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأنه لا يجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذاً لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيها بالمرة. اهـ[16]. والحقيقة أن استدلاله بقاعدة (لازم المذهب ليس بمذهب) بعدم لزوم لوازم الديمقراطية لمن يقول بها؛ غريب جداً؛ لأن العلماء حينما قرروا هذه القاعدة أرادوا الاعتذار لمن جهل لوازم مذهبه أو قوله التي قد تكون كفراً وهو يجهل ذلك، فعذروه بالجهل، لكنهم لم يصححوا المذهب الذي لازمه خطأ حتى يحتج القرضاوي بقاعدتهم على أن ما في الديمقراطية مما يناقض الإسلام لا يلزم القائلين بالديمقراطية من المسلمين، وهي زلة في الاستدلال تُستكثر على مثله.
قال الشاطبي - رحمه الله تعالى: ولازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضاً، أن لازم المذهب ليس بمذهب؛ فلذلك إذا قُرر على الخصم أنكره غاية الإنكار[17].
فقوله: إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار يدل على أنه لا يقر بما هو لازم مذهبه جهلا منه بذلك.
أما القائلون بالديمقراطية فإنهم يعلمون لوازمها التي تناقض الشريعة ولا يجهلونها في الغالب، لكنهم يقولون: لا تلزمنا لوازمها، فنقضوها من حيث أقروا بها، وهذا تناقض.
ومن يجهل لوازم الديمقراطية مما هو مناقض للإسلام، فإنه يُعذَر بجهله، لكن لا يصحح قوله، والشيخ القرضاوي يستدل بهذه القاعدة على تصحيح قوله، وهذا باطل.
ويجلي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - هذا المعنى بقوله: فلازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق؛ فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض... ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ كونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول[18].
الأصل الرابع: أن أساس الاختيار في النظم الديمقراطية يعتمد على الأكثرية، فمن حصد أصواتاً أكثر رُشِّح لما تم التصويت عليه، بغض النظر عن أهليته، بينما كان أساس الاختيار في الإسلام هو الأصلح.
والأكثرية ليست ميزاناً صحيحاً حتى يعتمد عليه، وقد جاءت الأكثرية في القرآن محل ذم في كثير من الآيات، قال تعالى: {وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال أيضاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
والسبب هو ميل العامة إلى ما تهواه أنفسهم، وفي النظم الديمقراطية يجتهد السياسيون ومن وراءهم من رجال المال والأعمال والإعلام في صياغة الرأي العام وتشكيله بحسب ما يحقق مصالح المتنفذين، فلا يساق العامة في التصويت للأصلح، بل يساقون إلى من يخدم الرأسماليين والإعلاميين، وفي التصويت للرئيس الأمريكي أوباما صوت له كثير من النساء والفتيات؛ لأنه وسيم وجذاب!!
وفي ظل هذا النظام في الانتخاب ينتشر الكذب والفضائح ومحاولة الإيقاع بين المتنافسين على الاقتراع، فبعضهم يكيد لبعض، بينما في النظام الإسلامي يكون الاختيار للأتقى لله والأصلح للناس، ودليل ذلك حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ، قال: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قال: إذا وُسِّدَ الْأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ[19].. قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى: أي أسندت الإمارة والولاية[20].
وقال عمر رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين[21].
هذا فيما يتعلق بالترشيح والاختيار، أما ما يتعلق بالدستور والتشريع؛ فإن الأكثرية قد تختار إسقاط واجب أو إباحة محرم لغلبة الهوى، أو انتشار الجهل، وحينئذ يقر ما يخالف الشريعة الربانية، وتنتهك سيادتها باختيار الأكثرية.
وقد أجاب الشيخ القرضاوي عن رفض الديمقراطية بسبب اعتمادها على رأي الأكثرية، مع أن الأكثرية مذمومة في القرآن، فقال: وهذا الكلام مردود على قائله، وهو قائم على الغلط أو المغالطة؛ فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون، ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله، ثم إن هناك أموراً لا تدخل مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها؛ لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً، فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة، وإنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها[22].
والحقيقة أن جوابه هذا ينطوي على مغالطتين:
الأولى: أن الموافقة على عقد يصوت فيه على الشريعة هي موافقة على انتهاكها ولو لم يقع ذلك الانتهاك، والذي يبيح الزنا أو الربا أو الخمر ولو لم يفعلها أشد إثماً ممن فعلها وهو يقول بتحريمها، فإذا وافق المسلمون على عقد الديمقراطية لزمهم الموافقة على مقتضى العقد، ومقتضاه أن الشريعة خاضعة لتصويت الجمهور.
الثانية: أن ادعاء كون العملية الديمقراطية تتم في مجتمع مسلم يعلمون ويعقلون ويشكرون، دعوى باطلة من جهات عدة:
أ - ففي بعض بلاد المسلمين، بل في أكثرها، طوائف من غير المسلمين، سواء كانوا كتابيين أم باطنيين، وفيهم أيضا عَلمانيون ويساريون، فإذا شكلوا تحالفات بينهم مع أهل الأهواء من المسلمين كانوا أكثرية تؤثر في مجرى التصويت ضد الشريعة أو شيء منها.
ب - أن أكثر المسلمين من العامة الذين تؤثر فيهم الدعاية المضللة، وما على من أرادوا إسقاط واجب أو إباحة محرم إلا شراء مشايخ ممن يشترون بعَهد الله تعالى وأيمانهم ثمناً قليلاً ليبيحوا لهم ما أرادوا، مع بث دعايات مغرضة ضد أهل الحق؛ ليتحول الرأي العام إلى رأي من يحركونه.
ج - أن كثيراً من المسلمين ينساقون خلف شهواتهم وأهوائهم فيصوتون لإباحة محرم بدافع الشهوة والهوى.
:: مجلة البيان العدد 301 رمضان 1433هـ، أغسطس 2012م.
------------------------------
[1] تفسير السعدي: 389.
[2] تاريخ ابن خلدون: 1/239.
[3] التحرير والتنوير: 1/399.
[4] النظريات السياسية الإسلامية، ص: 378، د.محمد ضياء الدين الريس، طبعة: القاهرة عام 1952.
[5] تفسير البغوي: 5/353.
[6] إعلام الموقعين: 1/48.
[7] تفسير السعدي: 235.
[8] أخرجه الطبري في تفسيره: 14/210، وابن أبي حاتم في تفسيره: 6/1784.
[9] ينظر: الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، ص: 207-208، د.عبد الحكيم حسن العيلي، دار الفكر العربي، 1403هـ.
[10] ينظر: النظرية السياسية في الإسلام: 70-71.
[11] الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام: 202-203.
[12] من فقه الدولة في الإسلام، ص: 139، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، 1417هـ، الطبعة الأولى.
[13] المصدر السابق: 141.
[14] الكشاف: 4/89، والتفسير الكبير: 30/99، وتفسير النسفي: 4/275، وتفسير الخازن: 7/145.
[15] رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب: 2/207.
[16] من فقه الدولة في الإسلام: 141.
[17] الاعتصام: 2/64، وينظر: الفروق: 4/357.
[18]القواعد النورانية: 128.
[19] أخرجه البخاري، رقم (59).
[20] غريب الحديث: 2/467.
[21] حسن السلوك الحافظ دولة الملوك: 82.
[22] من فقه الدولة في الإسلام: 142.