الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد,,
طلبت من طفلتي كأس ماء فأحضرَته بعد أن أغريتها بالحلوى..
وسألت أختي أن تعد لي كأس شاي ففعلت ذلك على تثاقل تحاول إخفاءه..
وزرت أمّي المسنة في بيتها فقلت لها: أمّي إني جائع!
فنهضَت من سرير مرضها فرحة مسرعة إلى المطبخ لتعد لي طعاماً، ناسية آلام العملية التي أجرتها في عمودها الفقري.
هل عرفتم لماذا أحبها؟
عذراً أماه .. لم أرد إيذائك ولكني أردت إدخال السرور عليك.. لعلمي بأنك تفرحين بتلبية طلباتي.
في خضم العلاقات التي تربط بين الناس .. نجد المصالح المتبادلة بين الطرفين توجّه الكثير منها..
فالجار يحترم جاره لأن كل واحد منهما محتاج للآخر..
وزميل العمل يتعاون مع زميله لأنه ينتظر منه تعاوناً..
والزوجة تهتم بزوجها عندما يهتم بها الزوج..
والابن ينصاع لأوامر والده لأنه ينتظر منه مكافأة.. وقد يكون وفاء لدين أبيه عليه..
لكن أمي أعطتني الحب منذ اللحظات الأولى التي خرجتُ فيها إلى الحياة رغم عدم حاجتها إلي..
بل على العكس ..! كنت عبئاً عليها..
فهي من كان يدير كل شؤوني .. وتبذل جهدها ووقتها وصحتها في خدمتي وإطعامي وحمايتي من كل ما يؤذيني..
فهل تلومونني في حب أمي؟
ومهما كان صدق علاقتي بالغير.. فإن الناس تتضايق ممّن تكثر طلباته ..
أما أمّي فلا تزيدها طلباتي إلا حباً وسروراً..
ولا شيء يحزنها أكثر كحزنها عندما تشعر أني استغنيت عنها بسبب زوجة أو طفل..
إنه باب من البر يغفل عنه كثير من الأبناء..!
فيا أيها الابن.. مهما بلغت من القدرة والاستغناء والعلم والفهم ..
اذهب إلى أمك وأشعرها بحاجتك إليها.. استشرها في نوع السيارة التي تشتريها ..
تحدث معها عن الصفقة المليونية التي تعزم إبرامها..
خذ رأيها في الثوب الذي تلبسه وفي طلاء بيتك الفاخر الذي بنيته..
فأنت قد لا تستشعر عظم فرحتها بذلك..
أيها الأمير.. أيها الوزير.. أيها الطبيب.. أيها المهندس.. أيها المثقف.. أيها الشاعر.. أيها القوي.. أيها الذكي ..
إن أعجبتك فصاحة لسانك فلا تتحذلق بها أمام أمك البسيطة.. فهي من فتقت لسانك لتعرف الفرق بين الحاء والخاء..
وإن أعجبت بذكائك وشهاداتك فلا تتفاخر بها على أمك الأمية.. فهي من جهدت في تعليمك وحمايتك حتى تفرق بين الجمرة والتمرة.
وإن تجرأت بنظرة تعالي على رثاثة حالها.. فتذكر أنها هي من كانت تزيل قاذوراتك دون أنفة أو كبر.
وإن تثاقلت من مرضها وضعفها.. فليتك تذكر سهرها وأرقها وخوفها وتنقلها بك بين المستشفيات في مرضك دون ضجر أو تذمر.
وإن حدثتك نفسك بسخرية على انحناء ظهرها وتعثر خطاها.. فتذكر أنها كادت تطير فرحاً عند أولى محاولاتك للوقوف، وكانت تقضي يومها واقفة معك لتحميك من أي تعثر يؤذيك.. دون سخرية أو ملل.
هل عرفتم لماذا أحب أمي؟
أيها الابن..
قد يبلغ منك البر بأمك أن تكسي صدرها بأغلى الحلي..
ولكن هل جربت أن تلقي برأسك على ذلك الصدر الحاني..
لتترك لأصابعها متعة العبث بخصلات شعرك الذي ربما كساه الشيب؟
هل تصورت بأن هذا قد يكون أغلى لديها من ألوان الزينة ونفائس المجوهرات؟
كم هي عظيمة تلك الأم!
فلا شيء يقلقها أكثر من الجحود والنكران.. ولا شيء يفرحها أكثر من الوفاء..
سمعنا بصديقٍ يُغضِبُ صديقَه .. وحبيبٍ يهجر حبيبه.. وزوجٍ يفارق زوجته .. وابنٍ يعق أباه..
لكن يندر أن نسمع بأم تنكرت لولدها أو طردته.
قد يزداد إقبال الناس عليك في وقت الرخاء والصحة ..
أما أمّك فهي أقرب ما تكون إليك في وقت شدتك ومرضك ..
فهل تظنون أن هناك أحق بالوفاء من أمّهاتنا ؟
عجباً لبعض من يحرص على إرضاء زوجة قد تفارقه يوماً ما..! أكثر من حرصه على رضى أُمٍّ يستحيل أن تهجره..!
وعجباً لمن يبذل مهجته لابنه الذي ربما ينساه يوماً ما ..! ويذر أُمَّه التي لم ولن تنسه يوماً ما..!
عجباً لمن لم يستشعر قدر والديه برغم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن: ( رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما )! صححه الألباني
إن صاحب الحق والفضل المطلق علينا هو الله .. ثم إن أعظم من له حق علينا بعد الله ورسوله هم والدينا ..لذلك قرن الله حقه بحقهم فقال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.الإسراء
ولعِظم فضل الوالدين ومكانتهما في الإسلام رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي الذي استأذنه في الجهاد، وقال: ( أحي والداك ) . قال: نعم ، قال: ( ففيهما فجاهد ). متفق عليه
ولأجل مكانتهما رد صلى الله عليه وسلم الصحابي الذي قال : ( جئت لأبايعك وتركت أبوي يبكيان قال : "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" وأبى أن يبايعه ) رواه أحمد.
فهل عرفنا حقهم؟
عذراً أماه ومهما فعلت فلن أوفيك حقك..
وأنا أكتب هذه الكلمات لعلها توقظ ابناً غافلاً فيحنو قلبه على أمٍ أضناها الوجد وأرهقها البعد..
فيتبدل حزنها إلى سرور يزيد في رصيد حسناتكِ!
لم لا؟ وأنتِ السبب في هذه المشاعر والكلمات..
وأنت من علمني معنى التضحية والصدق والنصح في هذا العالم المليء بالجحود والنكران..
فأطمح بذلك أن أكون قد بررتك مرتين.. بل مرات..
نعم ..
فأنت من عرّفني هدف الحياة..
ومن صدرك تذوقت طعم النقاء..
وفي عينيك قرأت سطور الوفاء..
وفي رحمك تلقنت دروس الحب..
وفي حضنك أدركت حقيقة الأمان..
ومن اسمك استقيت معاني العزة..
هل عرفتم من هي؟ إنها أمّي..
كم أنت عظيمة يا أمّاه وأنت تشجعيني وتدفعيني بقوة لأنطلق وأتفوق في هذه الحياة.. حتى ولو ترتب على نجاحي البعد عنك.. لأنك لا زلت تربطين سعادتك بسعادتي.. ومنتهى رضاك ان أحقق ذاتي.. فأنت لا تعرفين معنى الأنا..
أمّي.. وفي هذه الأيام وقد قدر الله بيننا البعد بسبب العمل والدراسة ..
عجبي من ابتسامتك التي ارتسمت في مخيلتي لحظة تحدثت إليك عبر سماعة الهاتف وأنت ترسلين عبارات ملؤها الرضى.. رغم علمي بأن وراءها آلام تكتمينها..
ما أشبه هذه الابتسامة بتلك التي ارتسمت على وجهك عندما أخرجتِني لهذه الحياة رغم شدة آلام الطلق.. ولكنك كتمتيهما بل نسيتيها لحظة تنفست رئتاي الحياة..موقفان عظيمان متشابهان.. يحكيان عن
ألم لم أدركه.. وابتسامة لم أرها.. وتضحية لم أشهد مثلها..
اعذريني أمي إن كنت تسببت لك بالألم يوماً ما.
أماه.. مهما قلت وفعلت.. ووصفت وكتبت.. فلا أظن أني سأستطيع الوفاء بدينك علي.. لكن حسبي أني أحبك.. وحسبك أن لك رباً شكوراً أرحم بك من رحمتك بولدك..
واستمراراً في تحقيق هوايتك المفضلة بتلبية طلباتي.. فلي طلب أخير..
وهو أن لا تنسي ابنك.. من دعوة صالحة بين يدي ربك.. الذي قرن حقه بحقك.. بأن أكون عبداً صالحاً له وابناً صالحاً لك..
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربوناً صغارا..
وارزقنا خفض جناح الذل لهم كبارا..
ابنك الصغير
أمين
محرم 1433