الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى إخوانه من النبيين وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
فإنَّ من أصول العقيدة الإسلامية ما يتعلق بالولاء والبراء.
قال الله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [التوبة:71].
وفي الصحيحين « عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهِم وتعاطُفِهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ».
وفي رواية لمسلم: « المسلمون كرجلٍ واحدٍ ، إن اشتكى عينهُ اشتكى كلُّه ، وإن اشتكى رأسَه اشتكى كلُّه ».
فتبين بذلك: أن المسلم ينبغي له أن يقوم بواجبه تجاه إخوانه حتى يكون قوي الإيمان، وحتى يخرج من المؤاخذة بين يدي الله.
ولأجل ذلك جاء التحذير من تخلف المسلم عن قيامه بهذا الواجب، فقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئٍ مسلمٍ يخذُلُ امرأً مسلماً في موطنٍ تنتهك فيه حُرمتُه ، ويُنتقص من عرضه ، إلا خذله الله في موطنٍ يحبُّ فيه نصرته » الحديث.
وثبت في المسند، عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أُذلَّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره وهو يقدرُ على أن ينصره ، أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ».
وإذا كان هذا هو التحذير والترهيب من التخلف عن القيام بنصرة المسلمين ونجدتهم ممن كان قادراً على ذلك، فقد جاء الحث والترغيب في نجدة المسلمين ودفع المضار عنهم، ففي صحيح مسلم، « عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرب الدنيا، نفَّس الله عنه كُربةً من كُرب يوم القيامة » الحديث.
والولاء يكون لأهل الإسلام بمحبتهم ونصرتهم والفرح بعزتهم والحزن لما يصيبهم، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ».
ومما يحزن اليوم كثيراً ما يتعرض له المسلمون من أنواع الاضطهاد والاعتداء من قبل الكفار في أقطار شتى.
ولا يخفى على أحدٍ أن المسلمين المعتقلين المأسورين في قاعدة ( غوانتانامو ) بكوبا من قبل القوات العسكرية الأمريكية قد نالهم من الظلم والجور المخالف لأعراف الأَسْرِ شيءٌ فظيع، حتى نددت بذلك مؤسسات حقوق الإنسان ومعظم دول العالم على اختلاف مللها، وذلك بسبب ما اكتنف اعتقال هؤلاء الأسرى من أنواع الإذلال والامتهان للإنسانية، سواءً ما كان منها في طريقة الاعتقال، أو في توجيه التهم، أو في طريقة نقل الأسرى، أو في إسكانهم في الزنزانات، أو في عموم التعامل معهم.
إن حدث اعتقال الأسرى ونقلهم إلى ( غوانتانامو ) ليُعد لطخة سوداء في تاريخ هذه الدولة الأمريكية، فإن من الأمور التي يدركها من سبر منهج هذه الدولة في التعامل مع الإنسان لا يملك إلا أن يقر بأنَّ هناك جوانب مضيئة في إعطاء الإنسان مساحةً واسعة من الاحترام تتناسب مع إنسانيته ( مع التحفظ على عدد من المجالات )، وهذا من العدل في الحكم على الناس ولو كانوا غير مسلمين، لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة:8].
إلا أن هذا الحادث المتعلق بالأسرى ليضاف إلى القائمة السوداء في التاريخ الأمريكي. كما أنه يبين الطريقة التي يتعامل بها الكفار مع المسلمين حين يتمكنون منهم، على نحو ما أخبر الله عنهم: { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [التوبة:10].
ولكن السؤال الكبير الذي يوجه لأهل الإسلام اليوم هو: ما دوركم نحو إخوانكم الأسرى في ( غوانتانامو )؟؟
نعم هناك عدد من الأمور المعقدة في تعاطيها والتعامل معها ضمن ما يمر عبر دهاليز السياسة العالمية، لكن قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم » وهو وإن كان حديثاً معلولاً في سنده، لكن معناه صحيح ، تدل عليه عمومات الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [التوبة:71]، وقوله صلى الله عليه وسلم: « مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد » الحديث رواه مسلم.
قال الله تعالى: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً } [النساء:75].
وفي هذا السياق روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فكُّوا العاني يعني الأسير وأطعموا الجائع وعودوا المريض ».
وهذه الثلاثة من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله تعالى وأجزلها أجراً ومن قام بها وسعى إليها نال رفعة الدنيا والآخرة، وبعضها قد يكون واجباً.
قال ابن بطال: فكاك الأسير واجبٌ على الكفاية، حتى قال ابن العربي ولو استنفذت في ذلك جميع الأموال قال ابن حجر: وبه قال الجمهور. قال الله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [الأنفال:72].
ولهذا فإن المسلم مأمورٌ -على الأقل- بأن يكون عنده تأثرٌ وجداني لحال إخوانه الأسرى، ويتعين عليه أن يدعو الله لهم بالفرج والخلاص من مأزقهم، فإن شأن الدعاء عند الله عظيمٌ وجليل، وقد كانت الرسائل التي وصلت من بعض الأسرى (مثل رسائل : خالد سعود البواردي / عبد الحكيم بخاري / بندر عايض العتيبي/ عبد الله المطرفي) تجمع فيما بينها على طلب الدعاء لهم بالثبات والصبر وفك الأسر.
أما الحكومات الإسلامية، فلا أدري ما مدى تفاعلها مع هذه القضية، والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، لكن مما طمأن النفوس إلى حد لا بأس به ما صرح به سمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز حيث قال: (عدد المعتقلين السعوديين في غوانتانامو نتيجة الأحداث الأخيرة في أفغانستان يقدر بـ ( 127 ) شخصاً وتتم متابعة أوضاعهم باستمرار، وقد ذهب فريقٌ سعوديٌّ إلى هناك، وذلك للتعرف على أوضاعهم، وجهودنا واتصالنا بشأنهم مستمر، ونحن نفضل أن تتم هذه الجهود في إطارها الطبيعي بعيداً عن التناول الإعلامي؛ لما في ذلك من مصلحةٍ للمعنيين بهذا الأمر) (الشرق الأوسط 8688).
وجملة القول أن أسرى جزيرة ( غوانتانامو ) من أهل الإسلام فصلٌ من فصول المأساة الكبرى التي يعيشها العالم اليوم نتيجة اختلال العدل في أرجائه، ومظهرٌ من مظاهر تسلط الكفار على المسلمين.
وفي خاتمة هذه الأسطر التي أرجو أن يكون بها أداء بعض الواجب نحو إخواني الأسرى، أسوق كلاماً يكتب بماء الذهب حرره العالم الجليل أبو بكر بن العربي (المتوفى عام 543هـ رحمه الله) فيما يتعلق بأسرى المسلمين، وكأنما يتحدث عن إخواننا الأسرى لدى القوات الأمريكية، فيقول رحمه الله عند قوله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } [الأنفال:72]، قال الحافظ أبو بكر ابن العربي: إلا أن يكونوا أُسَرَاءَ مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عينٌ تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم، إن كان عدَدُنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم.
كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون على ما حَلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجَلَد.
وقوله تعالى: { وَأَسِيراً } [الإنسان:8] ففي إطعامه ثوابٌ عظيم، وإن كان كافراً فإن الله يرزقه، وقد تعين بالعهد إطعامه، لكن من الفضل في الصدقة لا من الأصل في الزكاة، ويدخل فيه المسجون من المسلمين، فإن الحق قد حبسه عن التصرف وأسره فيما وجب عليه.
وفي ضوء كلام ابن العربي يتضح أيضاً ما يجب على الأغنياء ورجال الأعمال، فإن عليهم أن يبذلوا من الأموال ما يستطيعون لتعيين محامين ومتخصصين في القانون الدولي يدافعون عنهم ويتابعون قضيتهم في المحافل الدولية، خاصةً وأنه قد تشكلت لجنة من المحامين للقيام بذلك ومقرها بالمنامة ويرأسها د. نجيب محمد النعيمي من قطر وعضوية محامين من المملكة والكويت والأردن واليمن والدنمارك وأمريكا وفرنسا.
كما أن المحامين والقانونيين -وخاصةً من لهم وكالات وتعاملات دوليةٌ- معنيون بهذه القضية إلى حدٍّ كبير، فجديرٌ بهم أن يكون لهم مساهمتهم في هذه القضية الكبرى.
ومن المهم أن يتم تبني مثل هذا المشروع عبر الغرف التجارية الصناعية، لكونها منتدى الأغنياء، ليتم تقديم ما يمكن من دعم مادي ومعنوي.
فنسأل الله تعالى أن يخذل الباطل وأهله، وأن ينصر دينه وأولياءه، وأن يصلح أحوال أئمة المسلمين وعامتهم ويوفقهم لما يرضيه عنهم، وأن يربط على قلوب إخواننا الأسرى وأن يجعل لهم من أمرهم مخرجاً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
نشر ضمن تحقيق صحفي بجريدة الرياض العدد ( 12625 ) - الجمعة 14 ذو القعدة 1423هـ يوافقه 17 يناير 2003.