وإذا كان الهدف من العملية التربوية هو قيام المربي بعمليات ثلاث مع المربَّى (تخلية- تحلية- تنمية) فإن نجاح ذلك يتوقف على مراعاة المربِّي لمكونات النفس البشرية الثلاثة (العقل- الروح- الجسد)، ولكل واحد من هذه الثلاثة حالةُ صحةٍ وحالةُ مرضٍ، فتأتي التخلية للتخلص من الحالة المرضية، وتأتي التحلية والتنمية للحالة الصحية، ولأجل ذلك كانت الأهداف التربوية ذات محاور ومجالات ثلاثة (المعرفية- الوجدانية- المهارية)؛ بحيث تخدم الأهداف المعرفية الجانب العقلي في الإنسان، وتخدم الأهداف الوجدانية الجانب الروحي، وتخدم الأهداف المهارية السلوكية الجانب الجسدي، وبالتالي تتكامل التربية ويتحقق الشمول التربوي في المتربي.
ولذلك رأينا سيدنا عمر بن الخطاب يمكث أكثر من 9 سنوات في حفظ سورة البقرة، ليس ضعفًا في حفظ لديه، ولكن لأنه كان لا يتجاوز العشر آيات إلى غيرهن حتى يعمل بهن، وفي مثال واضح على تحقق الأهداف الثلاثة جنبًا إلى جنب في العملية التربوية تأتينا وصية أم سفيان الثوري لولدها قائلةً:
1- يا بني احفظ العشر كلمات (المجال المعرفي).
2- وانظر إلى نفسك (المجال الوجداني).
3- هل زادت في خشيتك وحلمك ووقارك (المجال السلوكي).
4- فإن لم تفعل فاعلم أنها تضرُّك (معيار الإنجاز) وهو الهدف المطلوب تحقيقه.
ومن هنا لا بد أن يدرك المربي أن تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية متداخل، وأنها متكاملة، بمعنى أنها تتمثَّل في فهم وإدراك واقتناع عقلي لدى المربَّى، والذي يثمر تفاعلاً قلبيًّا واختلاجًا في الوجدان، ثم يفيض أثرها على الجوارح بعمل لا يتوقف، وقد نبَّهَنا إلى ذلك الحبيب بقوله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، وقد يحدث العكس، بأن يكون كل فعل بالجوارح له أثر يرتفع منه إلى القلب، ومن هنا فلا يمكن الفصل بين الأهداف الثلاثة لأنها متداخلة.
والمربي الفعَّال يدرك من ناحية أخرى أن قاعدة "ليس بالإمكان أفضل مما كان" لا مكان لها في العمل التربوي، فإن التخلُّق بهذه الثلاث (المعرفية- الوجدانية- المهارية) ليس مستحيلاً، بل يمكن أن يتحقَّق من خلال المحضن والمناخ والبيئة التربوية، فالأخلاق يمكن أن يُفطَر عليها الإنسان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" وقوله لأشجّ عبد قيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
كما يمكن أن تُكتسب بالتدريب والتربية والتعوُّد عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يتقِ الشرَّ يوقه"، وهذا ما يجب أن يستشعره المربي أثناء قيامه بعملية التربية، وليدرك أن التدرج البطيء والتربية المتأنية والرفق بالمربَّى سيحقق فيه المستهدفات التربوية ويكسبه الأخلاق، وأن تكون عينه دائمًا على تحقيق الثلاثية (المعرفية والوجدانية والمهارية) جنبًا إلى جنب.
الإمام حسن البنا :
ولذلك وضع الإمام البنا الأركان الثلاثة الأولى (الفهم والإخلاص والعمل) لتعمل على تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية.
وقبل أن نختم لنا معك كلمات نتوجه بها إليك أيها المربي، عساها أن تكون لك زادًا ونبراسًا على الطريق، وعونًا لك في تحقيق أهدافك التربوية:
* اجعل عملك التربوي مشروعًا قيِّمًا يستحق العَناء والجهد والمال الذي ستبذله من أجله، واجعله مشروعًا ذا معنى وقابلاً للإنجاز، ليكون لبنةً جديدةً في بناء صرح الإسلام.
* راقب خطوات سير مشروعك التربوي جيدًا، وتفقَّده كل حين، ولا تدَع الهفوات الصغيرة تفلت من رقابتك الشخصية في بداية رحلتك مع مشروعك التربوي الجديد، وتحرَّ الأمانة والإتقان فيه، واحترِم كرامة المربَّى وآدميته، ولا تتعامل معه كفرد في قطيع.
* أعطِ النموذج والقدوة والأسوة من نفسك فيما تدعو إليه وفيما تربِّي عليه الآخرين، ولا تنسَ أنك مستهدف من هذا العمل التربوي في المقام الأول، وتذكر قولة المؤسس: "إن العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا فجاهدوا أنفسكم".
* عندما يمنُّ الله عليك بنجاح تربوي، فلا تركن إلى نفسك، ولا يأخذك العُجب، بل تذكر فضل الله عليك واحمده، وتذكر مقولة الكيلاني رحمه الله: "كلما رأيت وجه مريد هُدي على يدي شبعت وارتويت".
* أولاً وأخيرًا اربط نيتك بالله تعالى، وجدِّدها على الدوام قبل العمل وأثناءه وبعده، وإذا عزمت فتوكل على الله.
ولنتذاكر معًا ما قاله الإمام المؤسس رحمه الله: "أعدوا أنفسكم وأقبِلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل القوي، البغيض لديها، الشاقّ عليها، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها".
والله الهادي والموفق لما يحبه ويرضاه ،،،