بتـــــاريخ : 10/7/2008 4:42:47 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 2118 0


    تفسير سورة النور

    الناقل : heba | العمر :43 | المصدر : www.quran-radio.com

    كلمات مفتاحية  :
    تفسير

    سورة النور

     

    حد الزنى وحكم الزناة

    حد القذف

    حد اللعان

    قصة الإفك

    الجزاء الأخروي للقاذف

    آية غض البصر والحجاب

    التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى

    نور الله يملأ السماوات والأرض

    المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى

    أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة

    التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده

    ادعاء المنافقين الإيمان

    الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين

    وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض

    حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز

    إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها

    الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره

    بَين يَدَي السُّورَة

          * سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام التشريعية، وتُعنى بأمور التشريع والتوجيه والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغي أن يُربى عليها المسلمون أفراداً وجماعات، وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة، التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.

          *وضحَّت السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة، كالاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة و"البيت المسلم" من العَفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله، صيانةً لحرمتها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب 

          * وقد ذكرت في هذه السورة الكريمة بعض الحدود الشرعية التي فرضها الله كحد الزنى، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، وحفظاً للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع الأنساب، وذهاب العرض والشرف 

          *وباختصار فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحية من أخطر النواحي الاجتماعية هي "مسألة الأسرة" وما يحفها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عقبات ومشاكل، تودي بها إلى الانهيار ثم الدمار، عما فيها من آداب سامية، وحكم عالية، وتوجيهات رشيدة، إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم : علّموا نساءكم سورة النور 

    التسمَية:

          سُميت سورة النور لما فيها من إشعاعات النور الرباني، بتشريع الأحكام والآداب، والفضائل الإنسانية التي هي قبسٌ من نور الله على عباده، وفيضٌ من فيوضات رحمته وجوده {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اللهم نور قلوبنا بنور كتابك المبين يا رب العالمين.

    حد الزنى وحكم الزناة

           {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(2)الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)}

          {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي أنزلنا فيها ءاياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم -أيها المؤمنون- قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال لإِبراز كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين- غير المحصنين- مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتخففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةً من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإمام الفخر الرازي: "من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث- الذي من شأنه الزنى والفِسق -لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين، وهذا على الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقيٍّ فكذا هنا" {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي وحرم الزنى على المؤمنين لشناعته وقبحه، أو حرم نكاح الزواني على المؤمنين لما فيه من الأضرار الجسيمة. 

    حد القذف 

          {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(4)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}.

          ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهن بما نسبوا إليهن من الفاحشة {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أي هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة والثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.

          {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم {وَأَصْلَحُوا} أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إِليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب واصلح سيرته وحاله.

    حد اللعان

          {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ(6)وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ(8)وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ(9)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)}.

          ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي يقذفون زوجاتهم بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ } أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة {إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه {إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه بالزنى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل شهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحان ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته.

    قصة الإفك

         {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(19)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(20)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)}. 

          ثم بيَّن تعالى "قصة الإِفك" التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكذب والبهتان فقال {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر الرازي: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم "ابن سلول" رأس النفاق {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ} أي لكل فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو "ابن سلول" رأس النفاق {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي هلاً حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} أي هلاّ ظنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قولة عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، روي أن امرأة "أبي أيوب" قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك. {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين {لَوْلا جَاءوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيحٌ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي لأصابكم ونالكم بسبب ما خضتم فيه من حديث الإِفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي عذاب شديد هائل يُستحقر دونه الجلد والتعنيف قال القرطبي: هذا عتابٌ من الله بليغٌ لمن خاضوا في الإِفك، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي وذلك حين تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال مجاهد: أي يرويه بعضُكم عن بعض، يقول هذا سمعته من فلان، وقال فلانٌ كذا {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم} أي تقولون ما ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو محض كذبٍ وبهتان {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} أي وتظنونه ذنباً صغيراً لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أي والحال أنه عند الله من أعظم الموبقات والجرائم لأنه وقوع في أعراض المسلمين قال في التسهيل: عاتبهم تعالى على ثلاثة أشياء: الأول: تلقيه بالألسنة أي السؤال عنه والثاني: التكلم به والثالث: استصغاره حيث حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإِشارة إلى أنَّ ذلك الحديث كان باللسان دون القلب لأنهم لم يعلموا حقيقته بقلوبهم {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} عتابٌ لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه أول سماعكم له وتقولوا لا ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله الطاهرة البريئة فإن هذا الافتراء كذبٌ واضح، عظيم الجرم قال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يُسبَّح الله عند رؤية العجائب {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي يذكركم الله ويعظكم بالمواعظ الشافية لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم حقاً مؤمنين فإن الإِيمان وازع عن مثل هذا البهتان، وفيه حثٌ لهم على الاتعاظ وتهييج {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي ويوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، لتتعظوا وتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بما يصلح العباد، حكيم في تدبيره وتشريعه { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ} أي يريدون أن ينتشر الفعل القبيح المفرط في القبح كإشاعة الرذيلة والزنى وغير ذلك من المنكرات {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المؤمنين الأطهار {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لهم عذاب موجع مؤلم في الدنيا بإقامة الحدِّ، وفي الآخرة بعذاب جهنم قال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين فإنهم أحبوا وقصدوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفرٌ وملعون صاحبه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هو تعالى عالمٌ بالخفايا والنوايا وأنتم لا تعلمون ذلك قال الإمام الفخر الرازي: وهذه الجملة فيها حسنُ الموقع بهذا الموضع، لأن محبة القلب كامنةٌ ونحن لا نعلمها إلاّ بالأمارات أما الله سبحانه فهولا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهايةً في الزجر لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة وإن بالغَ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلمذلك منه ويعلم قدر الجزاء عليه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} جواب {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر أي لولا فضله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم، وكان ما كان مما لا يكاد يتصوره الإِنسان لأنه فوق الوصف والبيان.

    المنَاسَبَة:

          لما ذكر تعالى حادثة الإِفك، أتبعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أتبعها بآيات غضِّ البصر. 

    سَبَبُ النّزول:

          أ- كان أبو بكر الصدّيق ينفق على "مسطح بن أُثاثة" لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ..} الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.

          ب- عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إِليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط "أي صدمه الحائط" فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ..} الآيات.

          {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإصغاء إِلى الإِفك والقول به {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بل أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب.

    الجزاء الأخروي للقاذف

         {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)}.

    سبب النزول:

          أخرج الطبراني عن الضحَّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية.

          وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.

          وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رُميتُ بما رُميتُ به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أُوحي إليه، ثم استوى جالساً، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} حتى بَلَغ {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}.

          وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية، وهو مرسل صحيح الإِسناد.

          ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} أي المتصفات بالإِيمان مع طهارة القلب {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي طردوا وابعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه ... ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولهذا قال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.

    الاستئذان لدخول البيوت

         {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (27):

          أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الآية. 

    نزول الآية (29):

          أخْرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ }الآية.

          {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ذلك الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخلوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال أبو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات.

    آية غض البصر والحجاب

          {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)}

    سبب النزول:

          أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلاً مرَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذا استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.

          وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت بُرَتَين من فضة، واتخذت جَزْعاً (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الْجَزْع، فصوَّت، فأنزل الله {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية. 

          ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً

          كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها       فتك السهام بلا قوس ولا وتر

    {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجل بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن لها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدروهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء أزواجهن وهو أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين.

    التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى

         {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ(33)وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(34)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (33):

          {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ}: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحُوَيْطب بن عبد العُزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل يوم حُنَيْن في الحرب.

    نزول آية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ }:

          أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مُسَيْكة وأُميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الآية.

          وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومُسَيْكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقُتَيْلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرَّم الزنى، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

          {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأيامي جمع أَيِّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيِّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي وأنكحوا كذلك أهل التقوى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانة التقى والصلاح في الإِنسان {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، ففي فضل الله ما يغنيهم {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث (ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله) {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء {فَكَاتِبُوهمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ولا تكرهوا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في "عبد الله بن سلول" المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى "مُسَيْكة" والثانية تسمى "أميمة" فكان يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسينتقم ممن أكرههن شر انتقام {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات {وَمَثَلا مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وعظة وذكرى للمتقين. 

    المنَاسَبَة:

          لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل الوحدانية والإِيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.

    نور الله تعالى يملأ السماوات والأر 

         {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)}

          {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:

          نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى     نوراً ومن فلق الصباح عمودا

          وقال جرير "وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة" يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله: "الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم" وفي الحديث (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" وقال ابن مسعود: "ليس عند ربكم ليلٌ أو نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه" وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال ابن جزي: المعنى صفةُ نور الله في وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإِضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لأن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي في قنديل من الزجاج الصافي {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي تشبه الكواكب الدري في صفائها وحسنها {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة {زَيْتُونِةٍ} أي هي من شجرة الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي ليس في جهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول النهار لتكون ثمرتها أنضج، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور فوق نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أيّ يبين لهم الأمثال لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإِيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي تَوقَدَّ هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر لو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.

    المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى

          {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36)رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38)}.

          ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وان تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإِشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي يعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء المؤمنون قال ابن عباس: كلُ تسبيح في القرآن فهو صلاة {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفتها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يلهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله {وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناس وأبصارهم {لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر الرازي: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.

    أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة

         {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (39):

          {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبَّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدِّين، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافراً.

          ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعمله والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} أي حتى إذا وصل إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي لم ير ماءً ولا شراباً، وإنما رأى سراباً فعظمت حسرته {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي هم ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإِسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مقابل قوله في المؤمن {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!! 

    التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده

         {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ(44)وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)لَقَدْ أَنزَلْنَا ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)}.

          ولما وصف سبحانه أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوه؟ {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهرة كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي يجعله كثيفاً متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بينالسحاب الكثيف {وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأً للخير والشر {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي يقرب ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأَبْصَارِ} أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإِنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر الرازي: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على السويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يرشد من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام. 

    ادعاء المنافقين الإيمان 

          {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50)}.

    سبب النزول:

          قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بِشْر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.

          وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محق أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يَظْلم، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.

          وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي، لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 

          ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي وليس أولئك الذي يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وإذا دعوا إلى حكم الله أو حكم رسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاؤوا إلى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر الرازي: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحقَّ لغيرهم، أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا} أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:

          ألستَ من القوم الذين تعاهدوا   على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

    {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله.

    الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين

         {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51)وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(52)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(53)قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(54)}.

          {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي كان الواجب عليهم عندما يُدعون إلى رسول الله للفصل بينهم وبين خصومهم أن يسرعوا ويقولوا سمعاً وطاعة، فلو كان هؤلاء مؤمنين لفعلوا ذلك قال الطبري: ولم يقصد به الخبر ولكنه تأنيبٌ من الله للمنافقين وتأديب منه لآخرين {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك المسارعون إلى مرضاة الله هم الفائزون بسعادة الدارين {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ومن يطع أمر الله وأمر رسوله في كل فعلٍ وعمل {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} أي ويخاف الله تعالى لما فرط منه من الذنوب، ويمتثل أوامره ويجتنب زواجره {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي هم السعداء الناجون من عذاب الله الفائزون برضوانه .. ذكر أن بعض بطارقة الروم سمع هذه الآية فأسلم وقال: إنها جمعت كل ما في التوراة والإِنجيل.

    المنَاسَبَة:

          لما ذكر تعالى المنافقين وما هم عليه من صفاتٍ قبيحة، أعقبه بذكر ما انطوت عليه نفوسهم من المكر والاحتيال والحلف الكاذب بأغلظ الأيمان، وختم السورة الكريمة بالتحذير من سلوك طريق المنافقين.

    سبب النزول:

          روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر ابن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائما، فدقَّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الآية قد أنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. } فخرَّ ساجداً شكراً لله تعالى.

          {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت {قُلْ لا تُقْسِمُوا} أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة {طَاعَةٌ مَعْرُوفةٌ} أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بصير لا يخفى عليه شيء من خفاياكم ونواياكم {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول بالاستجابة لأمره والتمسّك بهديه {فَإِنْ تَوَلَّوا} أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي على الرسول ما كلف به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عليه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة.

    وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض

          {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ(57)}.

           {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأَمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عز وجل!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة وفي الحديث بشارة كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف في الأرض أي يوحدونني ويخلصون لي العبادة، لا يعبدون إلهاً غيري {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي فمن جحد شكر هذه النعم {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأن اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال {وَمَنْ كَفَرَ} أي كفر هذه النعمة {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالنُّصرة أي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين {وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي مرجعهم نار جهنم {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المرجع والمال الذي يصيرون إليه.

    حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز

          {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(58)وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءاياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(59)وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(60) }.

    سبب النزول:

          قال ابن عباس: وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج ابن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وَدِدْت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. }.

          وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مَرْثَد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.

          وفي رواية: ثم انطلق - أي عمر - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرَّ ساجداً، شكراً لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.

          وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية.

          فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاباً للرجال والنساء بطريق التغليب، لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول.

          {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والإِماء الذين تملكونهم ملك اليمين {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} أي في ثلاثة أوقات {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} أي في الليل وقت نومكم وخلودكم إلى الراحة {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ} أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَليْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيثون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ} أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم {وَإِذَا بَلَغَ الأَطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات كما يستأذن الرجال البالغون {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي يفصّل لكم أمور الشريعة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في تشريعه قال البيضاوي: كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ} أي والنساء العجائز اللواتي قعدن عن التصرف وطلب الزواج لكبر سنهن {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام دوافع الشهوة فيهن {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي لا حرج ولا إثم عليهنَّ في أن تخفّف في ملابسها {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن قال أبو حيان: وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤُه، وربَّ عجوزٍ شمطاء يبدو منها الحرصُ على أن يظهر بها جمال {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي وأن يستترن بارتداء الجلباب ولبس الثياب كما تلبسه الشابات من النساء، مبالغةً في التستر والتعفف خيرٌ لهنَّ وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم خفايا النفوس ويجازي كل إنسان بعمله، وفيه وعدٌ وتحذير.

    إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها

          {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(61) }.

          {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي ليس على أهل الأعذار "الأعمى، والأعرج، والمريض" حرج ولا إثم في القعود عن الغزو لضعفهم وعجزهم {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } أي وليس عليكم أيها الناس إثم أن تأكلوا من بيوت أزواجكم وعيالكم قال البيضاوي: فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه السلام: إن أطيبَ ما يأكل المرءُ من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} أي لا حرج في الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب قال الرازي: والظاهر أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان لأن العادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل الأقارب {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} أي البيوت التي توكّلون عليها وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها قالت عائشة: كان المسلمون يذهبون مع رسول الله في الغزو ويدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون: قد أحللنا لكم الأكل منها فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا من غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله {أَوْ مَا مَلكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين قال المفسرون: نزلت في حيٍ من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً: وربما كانت معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأخبرهم تعالى بأن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّموا عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي إذا دخلتم بيوتاً مسكونة فسلموا على من فيها من الناس {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي حيُّوهم بتحية الإِسلام "السلام عليكم" وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين قال القرطبي: وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن كثير: لما ذكر تعالى في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحكمة، والشرائع المُبْرمة، نبَّه عباده على أنه يبين لهم الآيات بياناً شافياً ليتدبروها لعلهم يعقلون.

    الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره

         { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(64)}.

    سبب النزول:

          أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة - بئر بالمدينة - قائدها أبو سفيان، وأقبلت غَطَفان، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أُحُد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه، وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} إلى قوله: {والله بكل شيء عليم}.

          وقال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته ، حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.

    نزول الآية (63):

          {لا تَجْعَلُوا} الآية: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.

          { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إنما المؤمنون الكاملون في الإِيمان الذين صدقوا الله ورسوله تصديقاً جازماً لا يخالجه شك {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي وإذا كانوا مع الرسول في أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي لم يتركوا مجلسه حتى يستأذنوه فيأذن لهم قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان فنزلت تمدح المؤمنين الخالصين، وتُعرِّض بذم المنافقين {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا توكيدٌ لما تقدم ذكره تفخيماً وتعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم أي إن الذين يستأذنونك يا محمد أولئك هم المؤمنون حقاً قال البيضاوي: أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فإِن جعل المستأذنين هم المؤمنين عكس الأسلوب الأول وفيه تأكيد للأول بذكر لفظ الله ورسوله فيكون مصدقاً ودليلاً على صحة الإِيمان {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي فإِذا استأذنك هؤلاء المؤمنون لبعض شئونهم ومهامهم {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} أي فاسمح لمن أحببت بالانصراف إن كان فيه حكمة ومصلحة {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ} أي وادع الله لهم بالعفو والمغفرة فإِن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم العفو واسع الرحمة {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي لا تنادوا الرسول باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا : يا نبيَّ الله ويا رسول الله تفخيماً لمقامه وتعظيماً لشأنه قال أبو حيان: لمّا كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أُمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله، يا نبيَّ الله، ألا ترى إِلى بعض جفاةِ من أسلم كان يقول يا محمد فنهوا عن ذلك قال قتادة: أمرهم تعالى أن يفخموه ويشرّفوه {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} أي قد علم الله الذين ينسلُّون قليلاً قليلاً ويخرجون من الجماعة في خفية يستتر بعضهم ببعض قال الطبري: واللواذ هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي فليخف الذين يخالفون أمر الرسول ويتركون سبيله ومنهجه وسنته {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له جل وعلا ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي قد علم ما في نفوسكم من الإِيمان أو النفاق، والإِخلاص أو الرياء {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي ويوم القيامة يرجعون إِليه فيخبرهم بما فعلوا في الدنيا من صغيرٍ وكبيرٍ، وجليل وحقير ويجازي كلا بعمله {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي لا تخفى عليه خافية لأن الكل خلقه وملكه.

     
    كلمات مفتاحية  :
    تفسير

    تعليقات الزوار ()