بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، ولا يخفى عن الإخوة الكرام أن العبرة من هذه الدروس أن نستنبط من فعل رسول الله e ، ومن سيرته ، ومن مواقفه القواعد الصحيحة في التعامل ، بل إن الأحداث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقعت وهي مقصودة لذاتها ، وقعت ليقف النبي صلى الله عليه وسلم منها موقفاً كاملاً يعبر به عن سلوك يرضي الله عز وجل .
ذلك أن الحقيقة حينما يعبر عنها بالسلوك تكون أقوى في التأثير ، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم لها وجه آخر ، وهو أن هناك مثالية حالمة ، هناك من لا يلتفت إليها ، يقول : ليست واقعية ، وهناك واقع مرّ مؤلم ، فالنفس تبتعد عن مثالية حالمة ، وعن واقعية مقيتة ، ولكن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجمع بين المثالية والواقعية ، بحق يمكن أن نسميها واقعية مثالية ، أو مثالية واقعية ، والناس لا يتعلمون بآذانهم فحسب ، بل يتعلمون بعيونهم ، ولعل موقف النبي صلى الله عليه وسلم الموقف العملي أبلغ في الدلالة على فهم النبي في كتاب الله من كلامه ، الموقف العملي حدي ، بينما الكلام يحتمل التأويل .
فرأيي في موضوع إذا كان كلامياً فكلامي يحتمل التأويل ، بينما إذا كان رأيي في الموضوع سلوكياً ، السلوك حدي ، من هنا جاءت قيمة فقه السيرة النبوية ، والنبي كما تعلمون صلى الله عليه وسلم مشرّع في أقواله ، وفي أفعاله ، وفي إقراره ، وفي صفاته ، وألصق شيء في حياتنا من هذا الدين العظيم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً نحن نتعلم من سيرة النبي الشيء الكثير ، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال :
( سورة الأحزاب )
لأن الله جعله أسوة حسنة أذاقه كل شيء ، أذاقه الفقر قالت عائشة رضي الله عنها : (( دَخَلَ عَليّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ فَقُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَإنّي صَائِم )) .
[ مسلم]
وأذاقه الغنى ، سأله رجل : (( لمن هذا الوادي من الغنم ؟ قال : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟! قال : لا ، قال : أشهد أنك تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، أشهد أنك رسول الله )) .
[ رواه مسلم ] .
أذاقه القهر في الطائف ، كذبوه ، وسخروا منه ، وأغروا صبيانهم بإيذائه ، فقال دعاءه المشهور : (( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى )) .
[ السيرة النبوية لابن هشام]
وأذاقه النصر في فتح مكة ، فسألهم : (( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم ، وابن أخٍ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء )) .
[ السيرة النبوية لابن هشام]
وأذاقه موت الولد ، فقال : (( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) .
[ رَوَاهُ البُخَارِيُّ عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهما ] .
وأذاقه موت الزوجة ، وأذاقه تطليق البنات ، وأذاقه الهجرة ، لأن الله سبحانه وتعالى أذاقه كل شيء وقف الموقف الكامل .
إخوتنا الكرام ، حقيقة دقيقة جداً ، ليست بطولتك ألا تصاب بمصيبة ، حتى إن بعضهم سمى هذا الإنسان الذي ينجو من كل مصيبة سمي بالعفريت النفريت ، ولكن البطولة أنه إذا أصابتك مصيبة أن تقف الموقف الكامل منها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نقف في المصائب الموقف الكامل .
وننتقل في سيرته صلى الله عليه وسلم إلى حادثين مأساويين مؤلمين وقعا في السنة العاشرة ، حتى سمى كتاب السيرة السنة العاشرة عام الحزن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد إنسانيين ، الأول سنده من الداخل ، والثاني سنده من الخارج ، فَقَدَ خديجة زوجته الحبيبة ، وفَقَدَ عمه أبا طالب الذي كان داعماً له في مكة.
إخوتنا الكرام ، (( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشدة ، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ويبتلي ليجزي )) .
[ رواه الديلمي عن ابن عمر ] .
أيها الإخوة الكرام ، أنتم كمؤمنين حينما توطنون أنفسكم على أن هذه الدنيا دار ابتلاء ، منزل ترح ، إذا أيقنا أنها دار ابتلاء لا نفاجأ ، هكذا .
مرةً جيء بطيار قصف مدينة ، ووقع أسيراً ، وأروه الدمار الذي سببه ، فابتسم وقال : هكذا الحرب ، الحرب غير ذلك ؟ هكذا الحرب .
وأنت كمؤمن حينما توقن أنه لا بد من أن تبتلى ، سيدنا الشافعي سُئل : أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ ابتسم ، وقال : لن تمكَّن قبل أن تبتلى ، بل إن في حياة المؤمن مراحل ثلاث ، إما أنها متمايزة ، أو متداخلة ، مرحلة التأديب ، ومرحلة الابتلاء ، ومرحلة التكريم ، أحياناً تأتي شدة هي تأديب لمخالفة ، أو تقصير ، أو تجاوز ، أو عدوان ، لأن الله رب العالمين ، ولأننا في العناية المشددة ، ولأننا في مستوى نفهم على الله .
وأنا أذكر لكم أن الذي يغرق في المعاصي والآثام ، ولا يؤدبه الله عز وجل فهو ملعون ومنبوذ ، وخارج العناية المشددة ، افرح إذا زلّت قدمك ، وجاء التأديب ، المعنى أنه مطموع فيك ، المعنى أنك مطلوب ، المعنى أنه بإمكانك أن تعود إلى الله .
تماماً لو جاء طبيباً مريض ، فحصه ، فإذا فيه مرض الورم الخبيث المنتشر في كل أنحاء جسمه ، لو أن هذا المريض سأل الطبيب : ماذا آكل ؟ يقول له : كُل كلَ شيء ، ماذا افعل ؟ افعل ما تشاء ، أسافر ؟ سافر ، لأنه منتهٍ ، لا أمل ، مادام لا أمل ولا معالجة ، لو جاء هذا الطبيب مريض معه التهاب معدة حاد ، يعطيه قائمة طويلة من الممنوعات من الطعام ، ويشدد عليه ، ويضغط عليه ، ويحذره إن تجاوز هذه القائمة ، لماذا وقف هذا الموقف الشديد والعنيف ؟ لأن هذا المرض يشفى ، وهناك أمل في شفائه .
فأنت والله أبشرك ، وأبشر نفسي ، لمجرد أنك إذا أخطأت ، أو تجاوزت ، أو قصرت ، أو زلت قدمك ، أو خرجت عن منهج الله ، وجاء التأديب ، وجاء التوجيه ، وجاءت الشدة فأنت ضمن العناية المشددة ، وأنت مطلوب لرحمة الله ، هذه حقيقة .
فلذلك المصائب أنواع ، النبي عليه الصلاة والسلام في السنة العاشرة للهجرة أصيب بمصيبتين كبيرتين ، لكن يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم دائماً ، حينما قال مرةً :
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكنه أخي وصاحبي ، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا )) .
[مسلم]
الحقيقة الناصعة أن الله وحده حي وباق على الدوام ، وأن كل حال يزول ، وإن كل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابد من نزل القبر
***
وإن كل ابن أنثى وإن طـالت سلامته يوماً على آلة حـــــدباء محمول
فإذا حملت إلى القبــــور جـنازة فاعلـــــــم أنك بعدها محمول
***
إذاً البطولة لا أن تنجو من أية مصيبة ، البطولة أن تقف الموقف الكامل منها ، لكن ما دمنا في مصيبتين كبيرتين ألمتا بسيد الخلق وحبيب الحق ، مصيبة فقدِ السند من الداخل بالسيدة خديجة ، ومصيبة فقدِ السند من الخارج ، أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، البطولة أن تقف الموقف الكامل من المصيبة ، الآن المصائب تصيب المؤمنين ، قال تعالى :
( سورة البقرة ) .
مصائب المؤمنين مصائب دفع أو رفع ، ضعفت همته ، أفرغت صلاته من الخشوع ، قرأ القرآن فلم يشعر بشيء ، تأتيه شدة تحثه على مضاعفة جهده ، تنعقد صلته بالله عز وجل ، يكون قد قفز قفزة ، قفز وتابع ، فكلما ضعفت همته ، وكلما بطأ سيره ، وكلما لانت إرادته ، تأتيه شدة تدفعه إلى الله عز وجل ، تعزز مسيرته ، تقوي إرادته ، تسرع خطاه إلى الله عز وجل ، هذه مصيبة الدفع ، لذلك ورد في بعض الآثار : " أن أوحى ربك إلى الدنيا أن تشدّدي ، وتكدّري ، وتضيقي على أوليائي حتى يحبوا لقائي " .
والله أيها الإخوة ، رجل كان شارداً عن الله شروداً كثيراً ، أصيب بأزمة قلبية ، ودخل في العناية المشددة ، وألقي في رُوعه أنه سيموت ، فناجى ربه ، وقال : يا رب ، أريد أن أقابلك عرياناً ، وبلا عمل صالح ، أعطني مهلة كي أقابلك على عمل صالح ، مد الله في عمره ، التزم ، درس ، تعلم ، جاء إلى مسجدنا ، تأثر كثيراً ، ندم كثيراً ، بكى كثيراً ، قال لي : مرةً وأنا أناجي ربي قلت : يا رب ، كل هذه السعادة التي منحتني إياها عقب هذا المرض العضال ، لمَ لم ترسل لي هذا المرض قبل عشر سنوات ؟ من شدة سعادته .
يد الله يد رحيمة ، يد كريمة ، يد معطاءة ، يد الله تعمل في الخفاء ، ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ، الحزانى في كنف الله ، الحزانى معرضون إلى الرحمة ، إن الله يحب كل قلب حزين ، الحزن خلاق ، الحزن يصنع البطولات ، يصنع الأمجاد ، ولكن الرخاء ، والغنى ، والصحة ماذا تفعلان بالإنسان ؟ لا تفعل شيئاً .
إذاً المصيبة الأولى دفع ، هناك مصيبة أيضاً تصيب المؤمنين ، رفع ، له عند الله مقام لم يبلغ هذا المقام بعمله الصالح ، عمله أقلّ من بلوغ هذا المقام ، فساق الله له شدة ، إن صبر عليها ارتقى إلى هذا المقام ، فإذا قلت : مؤمن المؤمن مبتلى ، والمؤمن مصاب ، لكن مصيبته مصيبة دفع إلى الله ، ورفع لمقامه ، والآية المتعلقة بالمؤمنين : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ .
أما العصاة والشاردون والكفار والمشركون فمصائبهم نوعان : مصائب قصم ، أو ردع ، إذا في المليون واحد من الخير فمصائب ردع ، وإن علم الله أنه لم ينتفع بهذه المصيبة :
( سورة هود )
تأتي مصيبة القصم ، يبطش الله به ، للكفار والمشركين المصيبة مصيبة ردع ، إن كان ثمة بقية خير ، أو قصم حتى ينتهي كلياً .
بقيت مصائب الأنبياء والمرسلين ، هذه مصائب كشف ، هؤلاء قمم البشر ، ينطوون على كمال لا يظهر أبداً بالأحوال العادية ، كما لو اقتنيت مركبة ، مثلاً 250 حصانًا ، ومعظم المركبان من 15 إلى 20 ، 250 ، هذه المركبة التي تسوق بقدرتها المركبات العادية عشرة أمثال لا تبدو قيمتها في طريق مستوٍ ، ولا في طريق نازل ، تبدو قيمتها في طريق صاعد تنطلق بأعلى سرعة ، في هذا الطريق الصاعدة ، إذاً هذا المحرك القوي جداً لا يظهر في الأحوال العادية ، لذلك مصائب الأنبياء مصائب كشف ، مصائب كشف لكمالاتهم ، إنسان يمشي على قدميه ليس في الشام ، في الحجاز ، درجة الحرارة 56 ، بلاد لا نبات فيها ، جبال وصحارى ، والحر لا يحتمل ، والله في بعض مواسم الحج إن خرجت من البيت المكيف ، والله كأنني داخل إلى فرن ، الساعة العاشرة ليلاً فرن ، في هذه البيئة القاسية الحارة مشى على قدمين ، لا بسيارة مكيفة ، لا ، مشى على قدميه إلى الطائف ، كم كيلو قطع ؟ 80 كم ، من هنا إلى النبك مشياً على قدمين ، وجبال عالية ، وطرق وعرة ، وصل إليهم ، ينتظر أن يؤمنوا به ، ويدعموه ، ويعززوا موقفه بعد موت عمه وزوجته ، فما كان منهم إلا أن كفروا به ، وسخروا منه ، وأغروا صبيانهم كي يضربوه ، وألجؤوه إلى حائط ، ودعا ربه الدعاء المشهور ، فقال : (( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي )) .
[السيرة النبوية لابن هشام]
جاءه ملك الجبال ، قال : يا محمد ـ الآن أعطي صلاحية الانتقام ـ لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين .
إذا استفز إنسان إنسانًا ، وتمكن منه يسحقه ، قال : لا ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده ، ما تخلى عن قومه ، ودعا لهم ، واعتذر عنهم ، ورجا لهم ذرية صالحة ، هذا الموقف ، هذه مصيبة أن تُكذب ، وأن يُسخر منك ، و تُضرب .
لكن مرةً خطر في بالي خاطر ، لماذا سمح الله لهؤلاء الصبية أن يضربوا سيد الخلق e ، وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، ومن أقسم الله بعمره الثمين ، ومن بلغ سدرة المنتهى ، في المقام الأعلى ، لأن أية داعية إلى يوم القيامة لو أنه أوذي في طلب دعوته له في رسول الله e أسوة حسنة ، جبر خاطر ، إذا كان سيد الخلق قد ضُرب فأي داعية بسبب دعوته ذاق شدة ، أو فقد حريته فله في رسول الله أسوة حسنة .
لماذا اتهمت السيدة عائشة في أعز ما تملك امرأة ؟ لأن أية مؤمنة ليوم القيامة لو أنها اتهمت خطأ وظلماً وعدواناً وهي بريئة مما اتهمت به فلها في السيدة عائشة أسوة حسنة .
أيها الإخوة ، إذاً المصائب مصائب رفع ودفع للمؤمنين ، ومصائب ردع وقصم للكفار والمشركين ، ومصائب كشف للأنبياء والمرسلين .
إذاً في حياة المؤمن مرحلة اسمها التأديب ، ومرحلة اسمها الابتلاء ، الطالب أجاب إجابة صحيحة ، يقول له المدرس : متأكد ؟ يقول : لا ، أخطأت ، الآن يمتحن ، هل متأكد من معلوماته ، أم سمع هذه الكلمة من صديق له ، الابتلاء ليس شرطاً أن يسبقه معصية ، الابتلاء امتحان المصداقية ، امتحان التأكد ، فمرحلة يؤدب فيها المؤمن ، ومرحلة يبتلى ويمتحن ، وفي مرحلة يكرم ، هذه المراحل تكون متمايزة أو متداخلة ، لكن أطمئنكم أن حياة المؤمن أدبه الله ، واستقام على أمره ، والذي امتحنه الله ، ونجح في الامتحان لا تستقر ، ولا تستمر إلا على الإكرام ، هذا معنى قوله تعالى :
( سورة النحل الآية : 97 ) .
هذا معنى قوله تعالى :
( سورة الرحمن ) .
هذا معنى قول بعض العلماء : " في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة " ، هذا معنى قوله تعالى :
( سورة الرعد ) .
هذا معنى قول أحد العارفين :
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لــــــغيرنا
ولـــــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولـــــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً في حبنا
ولـــــو نسمت من قربنا لك نسمة لــــمت قتيلاً و اشتياقاً لقربنا
***
إذاً هذه المصائب ، وتلك حكتها ، وتلك الإجراءات التي تقتضي سلامة المؤمن ، مرحلة التأديب ، مرحلة الامتحان ، مرحلة التكريم .
لكن أيها الإخوة ، كتعليق دقيق جداً ، ونحن في أمسّ الحاجة إلية ، الله عز وجل كريم ، لطيف ، ورحيم ، في حديث قدسي أيها الإخوة يذوب القلب له ، يقول ربنا جل جلاله فيما يرويه عنه النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما ترددت ـ الله لا يتردد ـ ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المسلم ، يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ولا بد له من الموت )) .
[ أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة ] .
رنا عز وجل قبل أن يقبض عبده المؤمن إليه يتردد ، هكذا الحديث ، (( أكره مساءته )) ، هو يكره الموت ، (( وأنا أكره مساءته )) ، فالله عز وجل يرحم ، (( وأنا أكره مساءته )) ، إذاً الله عز وجل قبل أن يسوق للإنسان المصيبة لا بد من أنها ضرورية جداً ، فلذلك الله عز وجل يبدأ بالهدى البياني ، وأنت صحيح معافًى ، تتمتع بحواسك الخمس ، ولك بيت وأهل وزوجة ، ولا تشكو من شيء ، يسمعك موضوعاً إسلامياً ، يبين لك خطيب مسجد ، وأنت جالس في المسجد حكماً شرعياً ، أو موقفًا لصحابي كبير ، هذا اسمه الهدى البياني ، بيان فقط ، مرتاح ، خطبة ، درس ، كتاب مقالة ، ندوة ، يبين الله لك الحقيقة ، وأنت صحيح معافى ، هذا اسمه الهدى البياني ، أكمل موقف هذا للهدى البياني أن تستجيب لله :
( سورة الأنفال الآية : 24 ) .
فإن لم نستجب أخضعنا الله لإجراء آخر ، التأديب التربوي :
( سورة السجدة ) .
أكمل موقف في التأديب التربوي أن تتوب إلى الله ، فإن لم تتب أخضعك الله لإجراء ثالث ، الإكرام الاستدراجي :
( سورة الأنعام الآية : 44 ) .
فإن لم تذكر وتعُدْ إلى الله جاء الإجراء الرابع الذي لا بد منه ، وهو القصم ، دعوة بيانية ، تأديب تربوي ، إكرام استدراجي ، قسم ، هكذا ، فأسأل الله لي ولكم أن نكون في المرحلة الأولى ، بالمرحلة الأولى الهدى البياني .
فكانت مصيبة النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة بوفاة عمه أبي طالب ، وزوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، في آخر السنة العاشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن غادر المسلمون ، هذه بعد المقاطعة التي استمرت سنوات ثلاثًا ، وكان أبو طالب يحوط النبي e ، ويغضب له ، ولكن الشيء والله الذي أتمنى ألا أذكره أن أبا طالب رغم كل جهده في صون النبي e ، وفي الدفاع عنه ، وفي تعزيز مكانته لم يُسلِم ، هذا المغزى خطير جداً ، العمل الصالح إن لم يُبْنَ على الإيمان فلا قيمة له ، وما من إنسان في أول البعثة قدم خدمة لسيد الأنام كعمه أبي طالب ، ومع ذلك لم يُسلِم ، وكان أبو طالب يحوط النبي صلى الله عليه وسلم ، ويغضب له ، كما كان ينصره ، وكانت قريش تحترمه ، وقد جاء زعمائها حين حضرته الوفاة ، فحرضوه على التمسك باللات والعزى ، وعدم الدخول في الإسلام ، وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بإلحاح طالباً منه أن يتلفظ بالشهادتين ليشهد له بها يوم القيامة ، وكان رد عمه عليه : لولا أن تعيرني بها قريش ، يقولون : إنما حمله عليها الجزع ، لأقررت بها عينك ، رفض أن ينطق بالشهادة ، ولا أحب أن أكمل ، وهذه حكمة بالغة أنه ما مِن عمل إن لم يُبْن على إيمان بالله فهذا العمل يكون هباءً منثورا .
أيعقل أن يموت الإنسان ، وهذا الكون كله ينطق بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، أنزل الله عز وجل بعد هذه الحادثة :
( سورة القصص ) .
فإذا كان أيها الإخوة منا مؤمن بخالق الأكوان فهو في نعمة كبيرة ، هناك من لا يستطيع أن ينطق بالشهادة عند الموت ، بل عند الموت يذكر الإنسان الشيء الذي كان مهتماً به في حياته ، فالذي أمضى حياته في لعب النرد لا يذكر وقت مغادرة الدنيا إلا لعب النرد ، والذي أمضى حياته في المعاصي والآثام لا يذكر إلا المعاصي والآثام .
الآن مع الألم الشديد هناك روايات كثيرة تناقض هذا الكلام لا أصل لها ، أنهما بعد الموت بعثا وأسلما ، أو أنهما أسلما ، الروايات الأخرى ليست موثقة ، وليست صحيحة ، فنحن لا علاقة لنا بذلك ، الله عز وجل هو ربه ، وهو يتولى أمره ، ونحن نتألم ألماً شديداً ، ونتمنى أن هذا الإنسان الذي أحاط الدعوة بكل طاقته ، وأمدها بقوته ، ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم لعل الله يقبل منه هذا العمل الطيب ، وتقييم العباد اطمئنوا ، تقييم العباد من شأن الله وحده ـ .
أما ما نقله ابن إسحاق من أن العباس نظر إلى أبي طالب يحرك شفتيه ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ، فقال عليه الصلاة والسلام لم أسمع ، فهو خبر لم يصح .
لا نريد وهمًا مريحًا ، نريد حقيقة مُرّة ، الوهم المريح ما له قيمة ، مثلاً : ما الذي يحدث الآن ؟ يكون تاركًا للصلاة ، ما توجه إلى القبلة في حياته ، وماله حرام ، وغارق بالمشروبات ، يموت ، يقول أهله : رأيناه في الرؤيا كبة نور ، يرتدي ثيابًا بيضاء ، هذا كلام لا يصح ، أرح نفسك من تقييم الأشخاص ، تقييم الأشخاص من شأن الله وحده ، وأنت حينما تقييم تطاولت على الله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أحد أصحابه ، وقد توفاه الله ، واسمه أبو السائب ، فسمع امرأة تقول : هنيئاً لك أبا السائب ، لقد أكرمك الله ، لو أن النبي سكت لكان كلامها صحيحاً ، فسألها : ومن أدراكِ أن الله أكرمه ؟ قال : قولي : أرجو الله أن يكرمه ، وأنا نبي مرسل لا أدري يفعل بي ولا بكم ، وهو سيد الخلق ، هذا سماه العلماء التألّي على الله أن تقول : فلان من أهل الجنة ، من أنت ؟ قل : أرجو أن يكون من أهل الجنة ، أو تقول : فلان في النار ، من قال لك ذلك ؟ إذا تاب قد يسبقك ، فأن تحكم على العباد مستقبلاً هذا تألي على الله ، وهذا تطاول على الذات الإلهية .
بل إن العلماء السابقين رحمهم الله تعالى إن كلفوا بتقييم إنسان يقولون : نحسبه صالحاً ، ولا نزكي على الله أحداً .
لما استخلف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب ، وخوفه بعض الصحابة بأن عمر شديد على أصحابه ، فقال الصديق : أتخوفونني بالله ؟ والله لو أن الله سألني يوم القيامة : لمَ وليت عليهم عمر لأقولن له : يا رب استخلف وليت عليهم أرحمهم ، هذا علمي به ، فإن بدل وغيّر فلا علم لي بالغيب ، هذا علمي به ، فإن بدل وغيّر فلا علم لي بالغيب .
تأدب مع الله ، لا توزع ألقاب الهلاك والإيمان على من حولك ، قل : أحسبه صالحاً ، ولا أزكي على الله أحداً ، إن رأيت إنساناً عاصياً ، هو الآن عاصٍ ، لكن قد يتوب ويسبقني ، لكن ، هناك أناس يجعلون الدين شيئًا غير مقول ، أحياناً يرون شارب خمر ، هذا وليّ ، لا نعرف نحن ، لا هذا ليس ولياً ، هذا شارب خمر ، أناس يتأولون ، ويتألّون على الله ما ليس من حقهم .
مثلاً : الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ، هذا الإنسان العظيم الذي ترك الإحياء ، قال بعد أن مات ، ورآه بعض تلاميذه في الرؤيا ، وقد قيل له : يا إمام ، ما فعل الله بك ؟ قال : لم ينفعني عملي من شيء ، له أعمال كالجبال ، قال : لم ينفعني من عملي شيء ، لكن الله غفر لي بذويبية ـ كائن متحرك ، حجمه أقل من واحد على مئة بالميليمتر ، نقطة سوداء تتحرك على الكتاب ، هذه الذويبية ، قال : وقفت ذويبية على كلمة كتبتها لتشرب من الحبر ، فانتظرتها ، فرحمني الله بها ، هذا خلل في الدين ، أعمال ، مؤلفات ، وهاجر ، حتى يقنعك أن الدين ليس بالعمل ، أما الحقيقة : ادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم .
( سورة النحل ) .
أي اقتسموا الجنة بأعمالكم ، أما أصل دخولها فبرحمة الله .
وقد فَقَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفاة عمه سنداً كبيراً ، إذ لم يعد بنو هاشم مستعدين يعد لتقديم القدر نفسه من الحماية للنبي e لما يصيبهم من أضرار مادية ونفسية ، كما تبين من المقاطعة ، أما خديجة بنت خويلد فإنها امرأة عملاقة ، إنها امرأة تعلم النساء جميعاً كيف تكون الزوجة ، لا تنسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فنح مكة دعاه سادتها لبيت عندهم ، قال : انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة ، وركز لواء النصر أمام قبرها ، ليعلم العالم كله أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر ، أما خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقد توفيت قبل الهجرة النبوية إلى المدينة بثلاث سنين ، في عام وفاة أبي طالب نفسه ، وكانت خديجة وزيرة صدق .
إخوانا الكرام ، هناك ملمح في هذه المرأة لا يصدق ، حينما جاءه الوحي ، وجاء إلى البيت مضطرباً عليه الصلاة والسلام ، ماذا قالت له ؟ لم يأتِ الوحي بعد ، لم تستمع لكلمة من الوحي ، ولم تأتِ السنة بعد ، قالت : والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتطعم الجائع ، وتكسو العاري ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتصل الرحم ، وتعين نوائب الدهر ، أنى لها هذه المعرفة ؟ هذه الفطرة .
أنا أقول لكم أيها الإخوة : والله لا أعتمد إلا على الله ، أي شاب مؤمن ، مستقيم يجب أن يتفاءل مهما تكون الظروف صعبة .
( سورة السجدة ) .
( سورة القلم ) .
( سورة الجاثية ) .
دقق فيما سأقول : مستحيل ، وألف ألف ألفِ مستحيل أن يعامل المستقيم كالمنحرف ، والصادق كالكاذب ، والأمين كالخائن ، والمنصف كالجاحد ، وأن يستوي هؤلاء مع هؤلاء ، هذا لا يتناقض مع عدل الله فحسب ـ دققوا فيما سأقول ـ بل يتناقض مع وجو د الله ، بأي زمان كنت ، بأي مكان ، بأي ظرف صعب ، بأي حالة اضطراب ، لك معاملة خاصة .
( سورة الأنبياء ) .
يا معاذ ، (( سأل النبي معاذ بن جبل ، وكان رديفه على الدابة ، ما حق الله على عباده ، فقال : الله ورسول أعلم ، فأعاد عليه السؤال ثانية ، يا معاذ ، ما حق الله على عباده ؟ قال : الله ورسول أعلم ، ثم سأله ثانية ، ما حق الله على عباده ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : حق الله على عباده أن يعبدوه ، وألا يشركوا به شيئاً ، ثم سأله يا معاذ ـ الآن دقوا ـ ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه ؟ قال : الله ورسول أعلم ، سأله ثانية ، وثالثة ، ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : حق العباد على الله إذا هم عبدوه ألا يعذبهم )) .
[مسلم]
اطمئنوا ، أنت إذا عبدت الله أنشأ الله لك حقاً عليه ألا يعذبك ، لذلك : ﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ .
( سورة الروم ) .
أيها الإخوة الكرام ، ننتقل في درس قادم إن شاء الله إلى رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، وهذا العام ، العام العاشر هو عام الحزن ، لأن النبي فقد سنده من الداخل ، وفقد سنده من الخارج ، فسماه علماء السيرة عام الحزن ، ولنا في رسول الله e أسوة حسنة .
والحمد لله رب العالمين