بأي شيء بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده:
ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الشهر والشهران لم يوقد في بيت من بيوته نار للطبخ وإنما الطعام التمر والماء فقط، كما كان فراشه من أدم حشوها ليف وربما نام على الحصير فيؤثر في جنبه الشريف، وكان يخرج في غزواته على قل من الزاد ونقص في الراحلة إلى حد أن يتعاقب ثلاث من أصحابه على راحلة واحدة كما وقع في غزوة بدر، وربما جاءه الضيف فيمر على بيوته فلا يجد له طعاماً فيقول: منْ لهذا الضيف؟ فيبادر أحد أصحابه إلى أخذ الضيف إلى منزله فيقدم له القرى الكافي مؤثراً إياه على حاجته وحاجة أولاده للطعام، وكان يأتيه بعض أصحابه الراغبين في الخروج معه للجهاد في سبيل الله فيقول لهم:
" لا أجد ما أحملكم عليه " فيرجعون وأعينهم تفيض بالدموع حزناً لعدم وجود ما يقدرون به على الجهاد في سبيل الله.
فهل معنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان فقيراً عاجزاً حتى عن الحصول على ضروريات العيش ومتطلبات الجهاد؟ والجواب بالطبع لا بل هو اختيار من النبي صلى الله عليه وسلم وإيثار للآخرة على الأولى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما بكى حين رأى الحصير أثر في جنبه الشريف وقال: يا رسول الله ألا نصنع لك فراشاً وذكر له ما عند كسرى وقيصر من الأسرة والأرائك. قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالمغضب: (يا عمر أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) وهذه يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ترفع عن زخرف الحياة الدنيا ومتاعبها القليل والزائل رغبة فيما عند الله من النعيم المقيم، وظهر هذا الترف السامي في تواضع عيشه وبيوته ومسجده، وحين خُيِّرَ بين البقاء في الدنيا إلى نهايتها وبين لقاء ربه اختار لقاء ربه.
ولم يرضَ صلى الله عليه وسلم وضع أقل زينة في بيوته، ولهذا لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة دومة الجندل وجد أم المؤمنين ( أم سلمة ) رضي الله عنها بَنَتْ حجرتها - ولا أقول قصرها - باللبن وطينت سقفها بالطين لأنه كان يخر بالماء إذا نزل المطر، فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك قال لأم سلمة لِم فعلت هذا؟ فقالت: يا رسول اللّه أردت أن أكف أبصار الناس فقال لها: (يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان).
وهذا لا يعني أنه حرم على الإنسان أن يتخذ لنفسه داراً لسكناه أو داراً يكتسب بكرائها فالكسب بالتجارة والإجارة حلال لأمته صلى اللّه عليه وسلم وإنما المراد تقبيح التطاول في البنيان والتفاخر بزخرفتها وتجميد الأموال في الحجر والطين حتى لا يستفيد منها قريب أو بعيد، وحتى تقام بهذه الأموال المشاريع الحية التي تفيد الأمة وتساعد في الرخاء. وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده الشريف بالجريد والطين كما بنى حجراته الشريفة بنفس الشيء وترك مساحة كبيرة من المسجد رحبة غير مسقوفة، وكان ارتفاع مسجده في بنائه الأول خمسة أذرع وبعد فتح خيبر بناه ووسعه وجعل ارتفاعه سبعة أذرع كما تقدم