قصة كعب بن ماك وتخلفه عن تبوك
* عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب ابن مالك ـ وكان قائد كعب من بنيه حين عمى ـ قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك ، قال كعب :
لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في عزوة بتوك ، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا علىالإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها .
كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها ، حتىكانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد واستقبل سفرا بعيداً وعددا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العزوة حين طابت الثمار و الظلال .
وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا , فأقول في نفسي : أنا قادر عليه . فلم يزل يتمادى بي حتى استد بالناس الجد ، فأصبح رسول الله والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً ، فقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم . فغذوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم اقض شيئاً ، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضي شيئاً . فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ،وهممت أن أرتحل فأدركهم ـ وليتني فعلت ـ فلم يقدر لي ذلك .
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق ، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء .
ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكاً ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : " ما فعل كعب؟ " فقال رجل من بني سلمة : يارسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يارسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي ، وطفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج عذاً من سخطه ؟ واستعنت علىذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل ، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه .
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله عزوجل .
فجئته ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال : " تعال " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : " ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك " فقلت : بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ـ ولقد أعطيت جدلاً ـ ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك على ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله , لا والله ما كان لي من عذر ، ووالله ماكنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك " .
فقمت فثار رجال من بني سلمة فأتبعوني فقالوا لي :والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقدعجزت ألا تكون أعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر غليهالمخلفون ؟ وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . فوالله مازالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي .
ثم قلت لهم : هل لقى هذا معي أحداً ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك . فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة . فمضيت حين ذكروهما لي . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف .
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف فلبثنا على ذك خمسين ليلة .
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فاشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتى رسول الله فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت علىصلاتي أقبل إلي ، وأذا ألتفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ،وهو ابن عمى وأحب الناس إلىـ فسلمت عليه ، فوالله مارد علي السلام ، فقلت : يا أبا قتادة انشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت . فعدت له فنشدته فسكت ، وفعدت له فنشدته فقال : الله ورسوله أعلم .
ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .
قال : وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له ، حتى إذا جاءني دفع إلىكتاب من ملك غسان في سرقة من حرير فإذا فيه : أما بعد ، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت لما قرأتها : وهذا أيضا من البلاء ! فتيممت بها التنور فسجرته بها .
فأقمنا على ذلك , حتىإذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك . فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : لا بل أعتزلها ولا تقربها . وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لا امرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر .
قال كعب : فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله فقالت : يارسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : " لا ولكن لا يقريك " قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء والله مازال يبكي منذ كان من أمره إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي : لو أستأذنت رسول الله في امرأتك كما أستأذن هلال بن أمية أن تخدمه ؟ فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .
قال : فلبثت بعد ذلك عشر ليال ، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا : فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس علىالحال التي ذكر الله عز وجل ، قد ضاقت علي نفسى وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفي على جبل سلع بأعلى صوته : ياكعب أبشر .
فخررت ساجداً ، وعرفت أن قدجاء فرج ، وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهبت الناس يبشرننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلى فرساً ، وسعى ساع من أسلم فأوفى علىالجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس .
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه ، والله ما أملك غيرها يومئذ ! واستعرت ثوبين فلبستهما وأنطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجاً فوجا يهنئونني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك . قال كعب : حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس ، فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره ، ولا أنساها لطلحة . قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" .قال : قلت : أمن عندك يارسول الله أم من عندالله ؟ قال : " لا بل من عند الله " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت : يارسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلىالله وإلى رسوله . قال رسول الله : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يارسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق ، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقاً ما بقيت . فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني ،ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما يقيت . وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار }إلى قوله : { وكونوا مع الصادقين } فوالله ما أنعم الله على من نعمة قط بعدأن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكون كذبته فأهلك كماهلك الذين كذبوا ، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قاله لأحد ، قال الله تعالى : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم } إلى قوله : { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } .
قال كعب : وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال الله تعالى{ وعلى الثلاة الذين خلفوا} ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وأعتذرإليه قبل منهم .
غريب القصة :
- روى بغيرها : أي أوهم غيرها .
- تفارط الغزو : أي فات وسبق .
- فثار رجال : أي وثبوا .
- نبطي من أنباط أهل الشام : أي من أهل الفلاحة ،وهم الذين يستنطبون الماء ويستخرجونه .
- فتيممت بها التنور فسجرته بها : أي قصدت بها التنور وأحرقتها به