للقاص المبدع عند كل التفاتة قصة، وكلِّ وهلة فكرة، وفي كلِّ شيء عبرة، ومن واقعةٍ صغيرة تنبع في خياله مئات الحكايات والقصص، سنواته الطويلة ثوبٌ جميل خاطه في دقائقٍ وثوانٍ قصيرة، ودقائقه سنواتٌ طويلة من التأمل والتفكر من خلال تراكم الخبرات والتجارب، وهو يبدع أساليب جديدة للقص، من خلال تغيير الراوي، أو تغيير الإطار، يقول فرانك أوكونور(وهذا ملخص آخر عبارة نقلت إليَّ من كاتب آخر ممتاز يكبرني سنّاً، إذ قال لي ليام أوفلاهرتي فيما بعد(إذا كنت تستطيع أنْ تَصِفَ دجاجة تعبر الطريق فأنتَ كاتب حقاً)[1]، أنا أقول بدوري(إذا كنتَ تستطيع أن تصف شخصاً جلس في مقهى وتناول قدحين من الشاي ثم غادر وتقول له بعد أنْ تقصَّ عليه حكايته هو نفسه وفي النهاية(رفعتَ رأسكَ إلى السماء وكنتَ تبتسم من القلب لهواء المطر البارد:-حقّاً المطر جميل) فأنتَ قاص).
وله عند كل حادثةٍ حكاية، يتأثر بعبق المطر في شوارع المدينة ليبني سرده الخاص بداية من العنوان ثمَّ يتفرَّع ويتشظّى في اتجاهات لا يتوقعها القارئ.
1-خطاب العنوان:
في قصة(ليلة المطر)[2] عنوانها يعبر عنها، لا بل العنوان حدَّدَ إطاراً للقصة وأغلق النص، فعنوان القصة يفتح باباً يؤدي بنا إلى الاقتراب من(الرؤية-الفكرة-الحدث) ومعرفة النتيجة مما يولد شوقاً للبحث عن الأسباب، وكلمة المطر التي ازدانت بال التعريف، جعلت هذه الليلة تتميز عن ليالي أخرى، إنها ليست مجرد(ليلة ماطرة) لكنها(ليلة المطر) المعنيَّة بالذات والتي يعرفها كلٌّ من البطل والقاص وربما يكونان شخصاً واحداً، يعرفها الجميع ربما إلا أنا، ولهذا ابحث هذه الليلة التي جرتْ فيها أحداث هذه الحكاية، أو القصة القصيرة.
والعنوان مؤشرٌ مهم في البحث عن خط سير القاص، فـ (ليلة المطر) عنوان مجازي، ويحمل دلالات عدّة تنبثق من النص خصوصيته، فهوـ من حيث البنية- قائم على آلية رومانسية في وصف الطبيعة حيث لا أحد منا يخلو من ذكريات عن المطر وعبقه، والقاص يستخدم العنوان لإحداث أثر دلالي معين، وعليه، سينفعل القارئ وتعمل مخيلته وذاكرته بشكلٍ أنشط وكلمة(ليلة) لها دلالات كثيرة حيث تنام الخلائق وتغفو ثم تصحو بعيداً عن عذابات الشعراء والكتاب الذين يسهرون ويؤرقهم هم الإنسانية وما صارت إليه من بلاء ولا إنسانية ويستيقظون وقد أضافوا فكرة جديدة إلى أفكارهم ونصاً جديداً إلى الوجود، فهم يبغون أن يضيفوا شيئاً إلى هذا العالم، وطالما تغنى الشعراء بالليل، رمز القلق والتوتر والسهاد والأرق، وكلمة (المطر) تشير إلى الرحمة النازلة من السماء وفي انعكاس لها إلى الشر الصاعد من البشر، والمطر يندرج كواحدة من أقسام نعمة الله-التي لا تحصى-ورحم الله الرجل الصالح الذي كان إذا أمطرتْ السماء خرج إلى المطر ونزع عنه عمامته لتغسل حبات المطر صلعته، ولمَّا سئل عن هذا أجاب:إنَّه قد جاء من عند ربي توّاً، لكنَّ الناس في عصر العولمة يطلبون المطر فإذا نزل بهم يفرون منه-كَأَنَّهُمْحُمُرٌمُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْمِنقَسْوَرَةٍ-، وهكذا فالعنوان دلَّ على فحوى النص، وتجذِّر في بنيته، مشكلاً البؤرة التي تأتى منها النص ونمى، منفتحاً على كثير من دوال تنوعات الخطاب، ما يجعله جديراً بتجنبه إلى عنوان أكثرُ لبساً وغموضاً يستحق حمله وتتويج هامته، وبهذا فالعلاقة بين النص والعنوان وثيقة عهد متبادلة، وقد انعكست دلالة العنوان على المفردات وبنية الصورة الفنية ودلالات الرؤيا والقيم الجمالية، ولكن هل كان هدف القاص من عنوان قصته هو تعيين أو تحديد مضمون النص داخل إطار العنوان؟ أم كان لاجتذاب عدد أكبر من القراء؟ وأظنُّ أنَّ تحقيق الهدف الثاني بالنسبة للأول أقرب إلى الواقع، وهو ما فوته القاص وإذا وَلَجْنا إلى متن القصة سنصطدم بهذا السؤال كجلة يستهلُّ بها القاص نصه:( أ هناك أجمل من المطر؟) وليتَ هذا السؤال كان عنواناً للقصة بدون همزة الاستفهام، وهذا العنوان هو أكثر جاذبية من ليلة المطر وهو عنوان شائع استخدامه في النصوص الأدبية...
2-خطاب السرد:
ثم يَلِجُ خيال القارئ إلى سلسلة من المشاهد القصيرة والواضحة في أسلوب يمتاز بالتركيز وتكثيف المعنى دون أن يكون لتغيير أسلوب القص أدنى تأثير، ومعظم القصص القصيرة التي قرأتها، تنقسم قسمين من ناحية الراوي، فإما ضمير الأنا(غادرتُ-ذهبتُ-أقفلتُ) أو ضمير الغائب بصيغة فعل الماضي(غادرَ-قفلَ-مشطَّ-علَّق...) وبدأت مؤخراً المزاوجة بينهما، والمناورة بهما في القصة الواحدة، ويبتدر القاص خطابه القصصي بأسلوبٍ جديد، ضمير الغائب بصيغة فعل المضارع الدال على الحاضر والمتضمن في طياته صيغة الخطاب الإبداعي الذي يخاطب به القاص نفسه، فهو عندما يقول(مشطَّت شعرك، مسدَّت شاربيك، غادرتَ الغرفة، أقفلتَ الباب، علقت المفتاح في اللوح العتيق...نزلتَ الدرج لم تكن بحاجة إلى فتح الباب فقد كان نصف مفتوح)لكن الإشارة إلى أنَّ الباب نصف مفتوح تغني عن قول أنَّه لم يكن بحاجة إلى فتح الباب لأنه كان ولازال حاجته لفتح الباب قائمة لم تنتفِ لكن كون الباب نصف مفتوح أغناه عن عملية فتح كاملة، ولذا فهو وجده نصف مفتوح فأكمل فتحه، أما صرف الأفعال فقد أدى إلى نصبها وكأنَّه يقول(مشطت-أنت-شعرك-كما أمرتك أو كما أعتدت أن تفعل وكذلك بقية الأفعال-غادرتَ-أنت ...الخ)وتعتبر معظم الأفعال التي استعملها القاص في نصه منصوبة بالصرف والنصب بالصرف كقولهم لا أركب وتمشي ولا أشبع وتجوع فلا أسقط الكناية وهي أنت لأن معناه لا أركب وأنت تمشي ولا أشبع وأنت تجوع فلما أسقط الكناية وهي أنت نصب لأنه مصروف عن جهته وقال الله عز وجل(فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم)[3] معناه والله أعلم وأنتم تدعون إلى السلم فلما أسقط أنتم نصب الفعل وكما قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
فنصبَ الفعل تأتي بسبب فقدان أنت وتقدير الكلام و(تأتي أنتَ-عيكَ أنتَ-فعلتَ أنتَ)، وكذلك أفعال القاص لما فقدت أنت نصبها، والراوي استخدم هذه الأفعال لأنَّه يخاطب بطله في هذه القصة، ويخبره بما كان منه، ويقول القاص(سحبتَ نفساً عميقاً من هواء المطر) ليس وقت نزول المطر كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، بل الهواء المنبعث من الجو بعد توقف المطر، وكرر القاص مصطلح هواء المطر في خاتمة القصة(وكنتَ تبتسم لهواء المطر البارد: حقا المطر جميل)وهو يقصد هواء الجو الماطر، كما يقول قباني(وبرغم الجوِّ الماطر والإعصار) فالمطر ليس له هواء خاصٌ به، وإن كان له فليس ذاك الذي قصده القاص، بل قصد الهواء العذب والنقي بعد توقف المطر والخالي من الأتربة والغبار، ولكن للجو هواء فيقال هواء الجو كما قال الشاعر إمرؤ القيس:
ويلُّمها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
وقول الشاعر أبن دراج القسطلي:
حَفَرْتَ لَهُمْ فِي يَوْمِ قَبْرَةَ بالقَنا قُبوراً هَواءُ الجَوِّ مِنهنَّ ملآنُ
3-خطاب تيارات الوعي:
ويستمرُّ في سرده على هذه الطريقة إلى أنْ ينقطعَ البث المباشر ليبدأ مونولوج داخلي من الماضي القريب قبل أن يبدأ البطل رحلته، وهو يمهِّد للمونولوج، بنفس الصيغة السابقة التي ابتدأ بها القصة(وضعتَ يديك في جيبي البنطلون الوحيد الذي جلبتَه معك)أمَّا المونولوج فهو عبارة عن حوار من جملتين اثنتين فقط:
(-خُذْ الجوزي أيضاً، قد تحتاجه.
-هذا يكفي، لَنْ أتأخرَّ كثيراً)
ويعود مباشرةً إلى أسلوبه(سُرتَ خطوات في الوحل) واعتمد القاص على إنعاش المخيلة بمونولوج تيار الوعي لمرتين منفصلتين داخل نص القصة في حوار يتجه نحو الماضي، في الأولى إمرأة-زوجته ربما- تحاوره حول حقيبة سفره(وضعتَ يديكَ في جيبي بنطلونِكَ الوحيد الذي جلبته معك.(انقطاع البث المباشر وبداية للمونولوج الأول)
-خذ الجوزي أيضاً قد تحتاجه.
-هذا يكفي، لن أتأخر كثيراً.)
والمونولوج الثاني يبدأ بمحاورة امرأة قد تكون غيرها أو نفسها:
(-يا لكَ من مُحبٍّ للشاي!!
-ولكِ أيضاً يا حلوتي)
4-خطاب ميول القاص:
نستنتج أنَّ قصة القاص(ليلة المطر) هي بالأصل تعبير عن ميول شخصية للقاص، تتفاعل مع القارىء من جانبين اثنين:
الأول من جانب عملية السرد: ميل القاص الشديد إلى تيار الوعي وهو يعتمد السقوط الحر للأفكار وربط الماضي بالحاضر، وتداخل الوعي مع اللاوعي وبهذه الطريقة يصل القاص بقارئه إلى أعماق كل شخصية يتناولها، وهي بالتالي تمنح القارئ معرفة مرتبطة بالواقعة والحدث لا يحصل عليها من طرق السرد التقليدية، والذكريات التي تتخلل نصوصه كما في تيار وعي زوج عاليا في قصة(خبز محلى بالسكر) لكن مونولوج تيار الوعي في قصة (ليلة المطر) وكان الأول في قصة خبز حلى بالسكر سلبياً محفزاً للحزن والقعود والتثبيط والثاني في(ليلة المطر)إيجابياً سعيداً مستنفراً مشاعر السعادة والفرح والحب والحنان من المرأة التي كانت تهتم به والذي افتقده الرجل في رحلته، كتب القاص رواية تعتمد كلياً على تيار الوعي وطريقة تيار الوعي طريقة جديدة في السرد ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين.
الثاني من جانب الميول الشخصية: فالقاص يحب هواء الجو الماطر، يميل إلى التفاؤل والبياض والهدوء والنقاء ويشمئز من السواد والظلم والظلام ويكره التدخل السافر في حياة الآخرين وتعكير صفوهم وخاصةً من الرجال الذين من المفروض بهم أنْ يحموا هذه الحريات لا أنْ ينتهكوها، فالشخص الذي سأله كان شرطياً، لأنَّ سيارات الشرطة زمن كتابة القصة كانت سوداء اللون كأفعالها دوماً، ميله الشديد إلى واقعية جديدة تختلف عن الواقع الذي يراه جميع الناس ويدركه من النظرة الأولى، من حيث استخدام القاص أسلوباً جديداً في التعبير، وهي صيغة مخاطبة القاص للبطل أو مخاطبته لنفسه من خلال الأفعال(غَادرتَ-أقفلتْ..الخ)وترافقت هذه الصيغة مع انسيابية القص التي يلتزم بها القاص ويضعها نُصبَ عينيه.
من هذين الجانبين يحصل القارئ على صورة أوضح بسيطة وخالية من التعقيد في نص مختصر ولغة مكثفة اعتمدت على مونولوج تيار الوعي ألاسترجاعي والمشهد السينمائي الذي ينعش الصورة وإعطاء حزمة من الضوء ومعلومات أوسع عن البطل بإعطاء تفاصيل عن ماضيه.
5-خطاب التنويه والإشارة غير المباشرة:
العبدُ يُقرعُ بالعصا والحرُّ تكفيه الإشارة، الإيماءة تغنيه عن العبارة، فالحر لا يقول إلا الحق والعبد ينساق وراء سيده إمَّعة، ولقول الحق لذة لا تدانيها لذة، والقاص يلمِّح ولا يصرح، يُلَّوِّح لنا للولوج في متاهات لا يرشدنا للخروج منها، فذلك المندَّس الفضولي الذي يعكر صفو بطل القصة، وهو يمثل السلطة التي تتقاطع مع ما للمعرفة من سلطة كما يقول ميشيل فوكو، وفي اللحظة الشاعرية يتسلل ليخلخل هدوء النص وهدوء البطل في بجاحته وتدخله السافر في حرية الآخرين ويقابله هدوء البطل المتمثل في نأيه عن الصخب والعنف وردود الأفعال الآنية غير المدروسة, والذي اختزلَ غضب المعتدي، وهذا المشهد العفوي يعكس صورة حقيقية بسيطة عن حياة الإنسان بما يحمله من تباين سلوكياته ورغباته في السيطرة والاستحواذ على الآخرين بسبب اعتقاده الراسخ من أنَّه مركز لهذا الكون، بسبب من اختلاف هموم الشخصين حيث الأول(لم يقدر أن يتمالك نفسه وبانفعالٍ صارخ خرج من السيارة وقصدكَ وقالَ لكَ بصوتٍ جاف:-على مَنْ تضحك؟)ولو اختصر الوصف قائلاً(لم يتمالك نفسه)بدون ذكر للقدرة، همومٌ مختلفة تتفاعل في اللا وعي وتنجح في حشد هذه الرؤى الإنسانية المكتظة بطاقات انفعالية، ثم يستمر الحوار الذي يظهر التدخل السافر في شؤون الآخرين:(-وهل أعرفك لكي أضحك عليك
-وهل هناك في هذه المدينة من لا يعرفني؟
-لكنني لستُ من هذه المدينة.)
هنا للتقريب وهناك للتبعيد، وهذه للإشارة إلى الشيء الحاضر المعين بالذات، لذا كان من ألأجمل الاقتصار على واحدةٍ منهما(هناك-هذه)في جملة(وهل هناك في هذه المدينة من لا يعرفني؟).لتصير(هل هناك في المدينة من لا يعرفني)أو(هل في هذه المدينة من لا يعرفني).
6-خطاب الغربة:
مشهد اغتراب البطل في عالم ذو تحولات سريعة، ويخفي القاص قلقه من بعض المظاهر الاجتماعية البالية خلف هذه المشاهد التي كتبها في سياقات تصويرية اختبأت وراءها ماهية البطل المتفاءل من فرط سيطرة تيار الوعي، ومونولوج القاص هو من النوع غير المباشر، والذي لا يكتشفه القارئ بسهولة لأنَّ القاص يخاطب نفسه(غادرتَ-أنتَ-أقفلتَ-أنتَ)وهكذا ويفترض القاص بالقارئ المخاطب أنَّه يعرف كل شيء، فالمرء عندما يتكلم مع نفسه تغنيه بعض الإشارات المختصرة عن كثير الكلام والإيضاحات لأنَّه يفترض به المعرفة، فهو يتذكر الحوار الذي جرى بينه وبين تلك المرأة للمرتين ويعرف بالتأكيد من تكون لكن القارئ غير المخاطب لا يعرف على وجه الدقة من تكون المرأة وبالتالي ستنتعش مخيلته بأخذ فرص أكبر في تخيلها كنهها ومواصفاتها، وشخصية البطل تتوضح بصورة واضحة من خلال حواره المتعاطف والهادئ مع المرأة التي تهتم به، وبالتالي هو أيضاً يتذكرها في غربته، والبطل يخاطب عائلته أيضاً بود حقيقي حين يقول(وصلتَ إلى جثث التلفونات المتراصة وددتَ أن تسمع صوتَ أطفالك، لكنَّكَ تذكرتَّ أنَّ دراهمك قد نفذت..مرةً أخرى ضحكتَ، رفعتَ رأسك إلى السماء القاتمة وكنتَ تبتسم من القلب لهواء المطر البارد) اعتقدتُ لو ذكر الهواء بدون الإضافة إلى المطر لأنَّ المطر لا بد كان قد توقف وإن لم يتوقف فالإشارة للهواء كافية، ولكن منْ هذا الذي يضحك ودراهمه قد نفذت لو لم يملك من الحكمة ما ينير بصيرته ويريه المستقبل المشرق؟ ومن هذا الذي يريد أن يكلم عائلته فيفشل لأي سببٍ كان ثم يضحك ويبتسم من قلبه؟.
7-خطاب الألوان:
يعتبر الأساس الوحيد لصياغة الشكل الخارجي بصورة جمالية متكاملة في ذهن القارئ، أو المتلقي، فالمشاهد لنص مسرحي أو مشهد سينمائي مظلم، تدور أحداثه في ليلةٍ ليلاء، لا يتعرف على لون الجدار ولا لون الوجه ولا ألوان أخرى تنعكس في ذهن المتلقي لتمنحه صورة أفضل، سيختلف نشاط مخيلته عن الذي يشاهد فلماً متنوعاً في مشاهده بين الطبيعة الساحرة، وبين الألوان الزاهية(أثاث-ملابس-وجوه-) أي شيء آخر مهما كان فلا بدَّ أن يرتدي لوناً ما بحسب وظيفته، ويتغير استخدام اللون تبعًا لتغيرات الشكل الخارجي للنص، وللألوان حقائق خاصة تعكسها في الأخيلة، لكل مكان لون خاص ولكل زمان لونه الخاص فالأشياء الجديدة تلمع والقديمة تبهت ألوانها، وللألوان أثرها النفسي، وهي في كل مكان فأينما التفت ستصدم بلون معين وهو دال له دلالة خاصة بحسب الرائي والناظر والمبصر، فاللون الأخضر الطبيعي يبعث هدوء الأعصاب كما كشفت تجارب علماء النفس، ويقول علماء الدين بأنَّه لون الجنة، والفلاح يراه دليلاً على خصوبة العام الزراعي، ولقد أثبتت أبحاث الدكتور فريلنينج النفسية ببافاريا الشمالية والذييعتبر أشهر طبيب نفساني في العالم يستخدم الألوان في العلاج إن اللونالأخضر يهدئ ضربات القلب، ويساعد على تحسين الدورةالدموية، وقد قام في أحد تجاربه بطلاء جدران بع ض المصانع التي تستخدم آلات شديدة الضجيج فتبين إن العمال كفوا عن الشكوى منالضجيج بسبب تأثير اللون الأخضر المحيط بهم.
مزج القاص بين اللونين الأبيض والأصفر(وصلتَ الشارع المزدان بالكاشي الأصفر والأبيض)واللون الأبيض يبعث مشاعر النقاء والوفاء والإخلاص والأصالة، والأبيض تزدان به العرائس في حفلات الزفاف باعتباره رمز العذرية والطهارة ، وتطلى بهِ جدران المستشفيات ويرتديه الأطباء ومعاونيهم، ويكفن به الميت كدالة على حسن الخاتمة،
فالأبيض هو الأصل، والأصفر هو الدخيل الغريب المندس في مكانٍ لا ينتمي إليه، ولا يحبه ولا يحترم أهله بل يحتقرهم ويسلبهم حقوقهم وحرياتهم، فقد كانت الأرض تحتوي اللونين الأبيض والأصفر، يعتبر اللون الأصفر ينتج من مزج الأحمر مع الأخضر، والأصفر الصارخ يدل على الغرور والكبرياء، أما في لون بشرة إنسان يثير إحساساً بالمرض أو الخوف أو لون أوراقٍ شجرة في الخريف يثير إحساسا بالموت، والفناء، وفي لون رمال الصحراء يثير الإحساس بالقحط والجفاف، وفيالغلاف الجوي يثير شعوراً بالقلق من اقتراب عاصفة هوجاء.
(وضعتَ يديك في جيبي البنطلون الوحيد الذي جلبته معك:
-خذ الجوزي أيضاً، قد تحتاجه.
-هذا يكفي لن أتأخر كثيراً.)
لم يجلب معه البنطلون الجوزي، رغم أنَّها قد هيأته له، فهو لا يحب اللون القاتم، فهو رجلٌ محايد يحب الهدوء والحرية كاللون الرمادي الموصوف بالحياد، لكنَّ الجوزي لون التطرف والمغالاة والانحياز، اللون الجوزي هنا دال، ومدلوله الجو السياسي المكفهر القاتم آنذاك، وموت الحياة الجميلة ولكن بطل القصة متفائل ويرى مستقبلا ناصعا قادما لذا فهو يرفض الانحياز، يرفض أن يكون إمَّعة، حيث سار الناس سار ورائهم، يبتسم لهواء المطر المنعش، وفي الحقيقة القاص هو الذي يبتسم ابتسامته المفعمة بالأمل الذي لم يفقده طيلة حياته ولا يزال يحلم بمستقبل أفضل لشعبه فيعمل ماكنته وينشطها ليبدع أدباً وفناً يُودِعُ فيه رؤيته المتفائلة.
ثمَّ تنتقل فرشاة القاص إلى اللون الأسود (ثمة سيارة سوداء كانت تقطع الشارع)(وقفت السيارة السوداء قبالتك)، والقاص استخدم اللون الأسود كدالة على ذلك الشرطي المندَّس، الشرطي أو رجل السلطة الغريب الذي لا ينتمي إلى أهالي المنطقة، هو دخيل على المنطقة وهو تعبير عن هضم أبسط الحقوق الإنسانية وضياع حقوق المواطنة.
(نظرتَ إلى وجهه الأسمر وضحكت ثانية من الأعماق, ولم تجبه)
واللون الأسمر دلالة للأغراب الذين كانوا يتحكمون فينا. (نظرتَ إلى وجهه الأسمر وضحكت ثانية من الأعماق, ولم تجبه)
واللون الأسود يعني الظلام والظلام ظلم وبغي، فعندما يغيب الضوء(الحق) عن مكانٍ ما ينتج اللون الأسود(الظلام-الظلم)وللون الأسود دلالات أخرى فهو يدلُّ على الخزي والعار وعلى الكسوف والحزن والمآتم والمناسبات الحزينة لذا فهو باعثٌ لمشاعر التشاؤم في النفس، لكن بفضله علمنا قيمة الضوء، ولولاه لما تلألأت النجوم والكواكب في صفحة السماء المظلمة.
[1]فرانك أوكونور-الصوت المنفرد-ترجمة الدكتور محمود الربيعي-دار الكاتب العربي-الجمهورية العربية المتحدة-1969-ص55.
[2] قصص من بلاد النرجس-حسن سليفاني-مطبعة هوار-دهوك-ط2-2005-ص69.