بتـــــاريخ : 6/2/2008 6:42:57 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 841 0


    اليقين - 3

    الناقل : heba | العمر :42 | الكاتب الأصلى : خالد بن عثمان السبت | المصدر : www.islammemo.cc

    كلمات مفتاحية  :
    فقه قلوب

    * والأمر الحادي عشر مما يورثه اليقين: هو أنه يحمل صاحبه على الجد في طاعة الله عز وجلّ والتشمير والمسارعة والمسابقة في الخيرات: ولذلك فإن أصحابه يمتطون العزائم، ويهجرون اللذات، وكما قيل:' وما ليل المحب بنائم' . فعلموا طول الطريق، وقلة المقام في منزل التزود؛ فسارعوا في الجهاز، وجدّ بهم السير إلى منزل الأحباب، فقطعوا المراحل، وطووا المفاوز- كما يقول ابن القيم رحمه الله [مفتاح دار السعادة 1/149] - . وهذا كله من ثمرات اليقين فإن القلب إذا استيقن ما أمامه من كرامة الله، وما أعدّ لأوليائه بحيث كأنه ينظر إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلم أنه إذا زال الحجاب

     

    ، رأى ذلك عياناً؛ زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون، ولان له ما استوعره المترفون؛ ولذلك ما الذي يجعل هذا الإنسان يقدم نفائس الأموال التي تعب في جمعها وتحصيلها، ويجعل الآخر إذا أراد أن يتصدق بصدقة- ولو قلّت- يفكر ويحسب الحسابات؟ ما الذي يجعل هذه المرأة إذا أرادت أن تتصدق تُقَلِّب هذه الثياب والملابس والأثاث، فترفع هذا بحجة أنه يمكن الاستفادة منه، وترفع الآخر بحجة أنه جيد مستحسن، وترفع الثالث باعتبار أنه لم يَبْلَ بعد، وترفع الرابع باعتبار أنه جديد لم يستعمل إلا قليلاً، ما الذي يجعلها كذلك؟! ويجعل الآخر يبحث عن الأشياء الجيدة، فيتصدق بها؟ والله عز وجل يقول:} لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...[92]{ [سورة آل عمران]. الذي يجعل الناس يتفاوتون هذا التفاوت هو اليقين.

     

    الآن انظر إلى ما يُدعى إليه الناس في هذه الدنيا من ألوان التجارات، فربما استشرفتهم الأرباح العالية التي يُدعون إليها، وكم تبلغ هذه الأرباح؟ هي في جميع الأحوال لا تكاد تبلغ الضعف، وإنما هي تتراوح بين نِسَب قد لا تصل إلى خمسين بالمائة، فما الذي يجعل هؤلاء الناس يبيعون بيوتهم، ويجعل بعض الناس يُصَفُّون مؤسساتهم، وما الذي يجعل بعضهم يقترضون، ويشترون سيارات بالأقساط، ثم يبيعونها بخسارة من أجل أن يساهموا في الشركة الفلانية؟! الذي يجعلهم يفعلون ذلك- لا أقول هو اليقين بهذا الطمع القليل- إنما هو ظنٌ غالب عندهم أنهم يربحون، مع أنه يحتمل أن رءوس الأموال تذهب برمتها، ولا يبقى لهم لا ربح، ولا رأس مال، وإنما تكون لهم الخيبة والخسارة محققة!!

    ومع ذلك رأيناهم يبيعون سياراتهم، ويبيعون أثاثهم، ويبيعون ممتلكاتهم! ورأينا من يقترض من أجل أن يساهم هنا أو هناك، ما الذي جعلهم يفعلون ذلك؟ هو ظن غالب، وما الذي يجعل العبد يحسب ألف حساب إذا أراد أن يتصدق؟ ما الذي يجعل كثيراً من النساء يسألن أهل العلم ذلك السؤال الذي يتكرر دائماً: هل يجب عليّ أن أُزكى الذهب المستعمل وأنا أتصدق أثناء السنة، أم ذلك يجزئ عنه؟

    هل يجب عليّ أن أُخرج زكاة مالي، أو أنه يكفي أن أُسقط الديون المتعثرة المتعذر تحصيلها على فلان وفلان؟ هو يريد أن يخرج الزكاة بواسطة أشياء وديون معجوز عنها، فجعل حق الله عز وجل هو الآخِر، وهو الأقل في اهتماماته، ما الذي يجعل هذا الإنسان يبخل على الله عز وجل بركعة يضحي بها بلذة نومه؟ بل ما الذي يجعل هذا الموظف، أو هذا الطالب يوقت الساعة قبل وقت الدوام، ثم بعد ذلك ينام عن الصلاة، ويفرط فيها؟ وإذا احتُج عليه بهذا قال: ليس مع النوم تفريط! ما الذي يجعل المعلمة تنام ملء جفنيها، ولكنها لا يمكن أن تتأخر عن مدرستها حتى لا توقع تحت الخط الأحمر؟!

    السبب هو ضعف اليقين، لو أن أحداً من هؤلاء الموظفين، أو هؤلاء المعلمات يذهب دائماً الساعة التاسعة إلى عمله، وعمله يبدأ في الساعة السابعة ماذا يقال عنه؟ يقال: إنه إنسان لا يبالى، مستهتر، فما الذي يجعل بعض المسلمين لا يحضر مع المصلين في صلاة الفجر، ولا يعرف المسجد في صلاة الفجر إلا في رمضان؟

    أقول: ما الذي يجعل الناس يتأخرون عن طاعة الله عز وجلّ، ولا يتأخرون عن الدنيا؟ لماذا يتردد الإنسان عن الصيام تقرباً لله عز وجلّ وتطوعاً- وهو من أَجَلّ القربات- ثم إذا كان ذلك بنصيحة من الطبيب، وأن عافيته تتوقف على ذلك؛ فإنه يترك هذا الطعام والشراب، ويترك أنواع الطيبات، ويبقى في حال يرثى له بها عدوه، حيث منع نفسه أشياء كثيرة جدًّا، وصار لا يأكل إلا بعض الأمور التي يصعب تحصيلها، ما الذي يجعله يفعل ذلك؟ هو صحة متوقعة، وعافية مرجوة ليست متيقنة، فما الذي يمنع العبد من المسارعة في أمور أخبر الله عز وجلّ عنها، وخبره صدق وحق:} وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[87]{ .[سورة النساء] . }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[122]{[سورة النساء].

    فلذلك يقول بلال بن سعد رحمه الله:' عباد الرحمن: أمَّا ما وكَّلَكُم الله به فتضيعونه، وأما ما تكفل لكم به فتطلبونه، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين، أَذَوُواْ عقول في طلب الدنيا، وبُلْهٍ عما خُلقتُم له؟! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدونه من طاعة الله عز وجل، فكذلك أشفقوا من عذاب الله مما تنتهكون من معاصى الله عز وجلّ'[صفة الصفوة 4/219 ، الحلية5/231]. ويقول الحسن البصرى:'ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه من شك لا يقين فيه من أمرنا هذا'. يعني: أننا نوقن بالموت، وبالجزاء والحساب، ولا نعمل لذلك، ولا نستعد له، نوقن بالنار، ولا نرى حَذِراً خائفا منها، وإنما نهجم على معاصى الله عز وجلّ ومساخطه.  ويقول سفيان الثورى رحمه الله- مبيناً هذا المعنى: وهو أثر اليقين في قلب العبد بالتشمير في طاعة الله جلّ جلاله-:' لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي؛ لطار فرحاً، وحزناً، وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار'[الحلية 7/17].

     

    الثاني عشر: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك العبد: أنه يجعل صاحبه ثابتاً على الحق الذي اتبعه وعرفه: ولهذا فإن أهل الحق هم أكثر الناس ثباتاً، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في جملة الخصائص السلوكية لأهل السنة والجماعة:وتجد أن أصحاب الرأى من المتكلمين، وأصحاب العقائد الفاسدة، والجدل الباطل؛ هم أكثر الناس تنقلاً من قول إلى قول، ومن مذهب إلى مذهب، وتجد الواحد منهم يحكم بكفر القول، أو بكفر قائله، وتجده بعد مدة يقرر هذا القول في بعض كتبه، يقول قولاً، ثم يقول نقيضه تماماً بعد مدة وجيزة أو طويلة، بخلاف حال المؤمن الثابت، الذي رزقه الله عز وجلّ اليقين؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قال: لا، قال: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.

    يقول شيخ الإسلام:'وأما أهل السنة، فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم؛ رجع قط عن قوله، أو اعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتُحنواْ بأنواع المحن، وفُتنواْ بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود، ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء'[مجموع الفتاوى 4/50].

    الثالث عشر: من الأمور التي يورثها اليقين: الثبات أمام الأعداء حتى النصر أو الشهادة: وأخبار أهل اليقين في هذه الأمة كثيرة جدًّا، وهكذا أهل اليقين الذين كانواْ من قبلنا، وتعرفون جميعاً خبر الغلام مع الملك وثباته العظيم الذي ثبته، وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حينما ثبت أمامهم، وقد توعدوه بالإحراق، بل وأوقدواْ ناراً عظيمة أمامه وطالبوه أن يرجع عن دينه، فلما أبى؛ ألقوه فيها، وهو لم يتردد إطلاقاً، ولا طرفة عين، وهكذا موسى صلى الله عليه وسلم، ثبت أمام فرعون ثباتاً عظيماً مع أنه معروف بطغيانه واستعباده للناس، وكان يقول لهم:} أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[24] { [سورة النازعات]. وكان موسى صلى الله عليه وسلم، يقول له:} وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[102] {[سورة الإسراء]. فلما أمره الله عز وجلّ بالانطلاق في بني إسرائيل، ولم يجد إلا البحر أمامه، وتردد من تردد ممن كان معه، وقالوا: } إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61] {[سورة الشعراء]. قال بكل ثبات:} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62]{[سورة الشعراء] . فأمره الله عز وجلّ بأن يضرب البحر بعصاه، فضربه، فانفلق، فكان كل فوق كالطود العظيم.


    ومن أخبار القادة المسلمين الذين كانوا يتحلون باليقين، وكان لهم عجائب، وغرائب بسبب ذلك: القائد المجاهد، الزاهد، أبو عبد الله مردنيش، قَاتَل الكفار من الرومان، واستطاع أن يُحرز غنائم هائلة، ثم بعد ذلك كان مع طائفة من أصحابه لا يزيدون عن ثلاثمائة، وهو قائد كبير، فأحاط به من الرومان أكثر من ألف، فلما نظر إليهم قال لأصحابه: ما ترون؟ قالواْ نترك الغنيمة، وننطلق فينشغلواْ بها عنا، فقال: ولكن القائل يقول:} إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ...[65] {[سورة الأنفال] . ألم يقل القائل ذلك؟؟-وظنوا أنه لم يعرف من قال ذلك- فقال بعضهم: هذا قاله الله عز وجلّ! فقال: إذا كان الله قال ذلك، فكيف تقعدون عن لقائهم؟! فثبتواْ أمامهم، فهو يعرف القائل، ولكنه كان يريد أن يختبرهم، وقاتلوهم حتى هزموهم، وفروا من مواجهتهم .[نزهة الفضلاء 1545].

    وانظر خبر شيخ الإسلام رحمه الله وهو خبر مشهور مع التتار: فإن التتار لما زحفوا من المشرق، أغاروا على بخارى، وسمرقند، وخراسان ثم قتلواْ في بغداد أكثر من مليوني إنسان من المسلمين، وما تركوا إلا أهل الذمة من اليهود والنصارى، وقتلوا في خراسان، وسمرقند، وبخارى، وغيرها من تلك الأمصار خلقاً عظيماً، بل ربما حصدوا جيشاً بكامله، وضعواْ لهم كميناً وعددهم يقارب السبعين ألفاً؛ فحصدوهم في مكان واحد، وكانواْ يدخلون البلد يُخرجون النساء على حِدَة، والأطفال على حِدة، والرجال على حِدَة، ثم بعد ذلك يقتلونهم واحداً بعد الآخر، ولما قدمواْ بغداد فعلوا فيها الأفاعيل مما يندي له الجبين، فلما زحفوا إلى الشام، أصاب الناس رعبٌ شديدٌ منهم حتى إنهم كانوا في بغداد يدخل الرجل منهم في سرداب، ويكون فيه زهاء مائة نفس، فيقتلهم واحداً بعد الآخر لا يمد إنسان منهم يده إليه! بل وربما جاء فارس منهم ووجد عشرات المسلمين وليس معه سيف ولا سلاح، فقال لهم: مكانكم حتى يذهب، ويأتي بالسيف، ولم يتحرك أحد منهم من مكانه! بل وربما وضع رأس رجل على حجر وليس معه شئ يقتله به، ثم ينطلق ويأتي بسكين وهذا الرجل لم يحرك رأسه من الحجر لشدة الخوف والهلع الذي أصاب الناس.

     

    فلما زحف على أرض الشام، وقبل أن يصلها؛ فرّ منها الفقراء، وتهيأ التجار للفرار إلى أرض مصر، فكاتب شيخ الإسلام السلاطين في مصر، وحثهم على الجهاد، وحرّض أهل الشام، وحثهم على البقاء، وصَفَّ الصفوف، وعبأ الجيش أمام هؤلاء التتر، والناس أصابهم رعب شديد منهم، ولمّا رأى شيخ الإسلام حال الناس، وثقتهم بالله عز وجلّ؛ أقسم لهم أيماناً أنهم سينتصرون في هذه المعركة، فكان الرجل يقول له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، والله إنكم  منصورون، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون. وكان ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله أنهم انتصروا في هذه المعركة، فكان ذلك سبباً لانكسار التتر، فَهُزِمُوا بعدها في وقائع، ودخل طوائف الإسلام

     

    ، فصاروا يجاهدون في سبيل الله عز وجلّ، وذهب شيخ الإسلام إلى كبيرهم، وأغلظ له القول، وتهدده، وتوعده، وزجره، ورماه بالكفر، وأنه على دين جده من الوثنين والكفار، ونهاه عن أموال المسلمين، وعن دمائهم، وتكلم له بكلام غريب، حتى إن الوفد من الفقهاء والقضاة الذين ذهبوا مع شيخ الإسلام كانوا يُشمِّرون ثيابهم لا يصيبهم دم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما كانواْ يشكون أن رأسه سيطير أمامهم؛ لأن هؤلاء التتر كان فيهم من البطش، والكبرياء، والصلف شئ لا يقادر قدره، فلما انصرفوا من عنده؛ قالوا لشيخ الإسلام: ماذا صنعت؟ كدت تذهب بنفوسنا معك، ثم قالوا والله لا نصحبك بعد اليوم، فذهبوا من طريق آخر، وذهب من طريق، فتعرض لهم بعض قطاع الطرق؛ فسرقوا كل ما معهم من متاع، وقد لبسوا أحسن الثياب، فسُرِقت، وسُرِقت دوابهم، حتى جُرِّدُواْ من ملابسهم، ورجعوا إلى البلد بهذه الحال.

    وأما شيخ الإسلام ابن تيمية، فتبعه الأمراء من التتر، وكثير من الجنود، وما دخل البلد إلا ومعه موكب حافل من القادة والجند، يطلبون منه الدعاء، ويتبركون بدعائه رحمه الله، فانظر كيف صنع اليقين لشيخ الإسلام رحمه الله.

    الرابع عشر: مما يورث اليقين: أن صاحبه لا يعرف اليأس مهما طال ليل الظالمين ومهما امتد الظلام: فإن بعد الليل انفلاق الفجر ولا محالة، فالليل مهما طالت ساعاته ومهما اشتدت ظلمته فإنه يزول وينفلق عن بياض الصبح، فأهل اليقين لا يعرفون اليأس، وبالتالي فمهما وقع على الأمة من مصائب، وبلايا، ومحن ونكبات، وتسلط الأعداء؛ فإن أهل اليقين تختلف مواقفهم عن غيرهم من الناس، فمنَ ضَعُف يقينهم؛ يرضون بالأمر الواقع، ويدعون إلى التسليم، والاعتراف بالأمر الواقع بزعمهم، والانخدال للعدو، والاستسلام له.

    وأما أهل اليقين: فيصبرون، ويثبتون، ويفعلون ما في وسعهم، وطاقتهم، والله عز وجلّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، ثم بعد ذلك إذ أقدرهم الله عز وجلّ، ومكنهم من رقاب عدوهم؛ استعملوا معه ألوان العزائم التي أمرهم الله عز وجلّ بها، وشرعها لهم، فلسان حال الواحد منهم، وقد أخذ العدو بلده يقول:

    يا درُ مجدُك لن يضيع فأّمّا        خيـرا ولا تَستَرسِلي بُكــــاء   
    فالحاقدون سَيُغْلَبُون وإن همُ       حشدوا جُيوشَ البغي والإفناء
    أم ألَّبوا قوماً على قوم ولم          يَدَعُوا سبيـل المين والإلهاء
    فلتصبري الثبر الجميل فـ         إنه تاج اليقين وحلية العظماء

    فيصبرون، ويثبتون على مبادئهم، ولا يعرفون شيئاً اسمه الأمر الواقع، أو التسليم بالأمر الواقع، وهؤلاء هم الذين يغير الله على أيديهم وإن طال الزمان.

    الخامس عشر: مما يورثه اليقين: أن أعمال أهله الصالحة تكون راجحة في الموازين عند الله تبارك وتعالى: ولهذا جاء عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال:' ولمثقال ذرة بر من صاحب تقوى، ويقين؛ أفضل، وأرجح، وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين'.
    فصاحب اليقين إذا صلى ركعتين لله عز وجلّ؛ فهي تساوى الكثير مما يركعه غيره ممن قّلَّ يقينه، وإذا تصدق صاحب اليقين بريال واحد؛ فإنه يساوي الآلاف، أو يزيد عليها، من التي يتصدق بها ذلك الإنسان المهزوز، الذي قل يقينه واحتسابه. 

    والمقصود: أن اليقين يورث صاحبه أموراً جليلة عظيمة، ويؤثر في سلوكه فوائد جمة: فهو يزيد العبد المسلم قربة من الله عز وجلّ، وحبًّا، ورضاً بما قدره وقضاه، وهو لُبُّ الدين، ومقصده الأعظم، ويزيد صاحبه استكانة وخضوعاً لربه وخالقه جل جلاله، كما أنه يكسبه رفعة، وعزة، ويبعده عن مواطن الذل والضعة، وهو أيضا:ً باليقين يتبع النور، والحق المبين، ويسلك طريق السلامة المحققة، فلا يحيد عنها بضعف يقينه؛ رغبة أو رهبة، كما أنه يحمل صاحبه دائماً على الإخلاص والصدق، وتحري ذلك في كل أعماله، كما أنه أيضاً: يضبط العلاقة بين العبد وبين الرب، ويجعل العبد يلتزم الإخلاص، والصدق، والمراقبة، وفعل ما يليق، وترك ما لا يليق في تعامله مع ربه؛ لأنه يعلم أن ذلك يوصله إلى دار الأمان، ولا سبيل إلى الوصول إلا بسلوك هذه الطريق.. هذا ما يتعلق بالأمور التي يورثها اليقين.

    عاشراً: الأمور التي تنافي اليقين: وأعظم ذلك أن يكون القلب متطلعاً إلى غير الله عز وجلّ، متعلقاً به، ملتفتًا إليه، ولهذا قال بعض السلف:' حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه السكون إلى غير الله عز وجلّ، وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شئ مما يكرهه الله جل جلاله' [روضة المحبين ص439].

    وهكذا الشكوك، والريب، والأمور التي تجلب ذلك: بسماع الشبه، وسماع كلام المخذلين، والمثبطين الذين يثبطون عزائم المؤمنين، ويوهنونهم، ويحثونهم على القعود عن التزام صراط الله عز وجلّ المستقيم، فهؤلاء الذين قَلَّ يقينهم إذا استمع العبد منهم؛ فربما سببوا له شيئاً من ضعف اليقين، حين ذلك يورثه قلقاً، وانزعاجاً، واضطراباً، وهذا يخالف اليقين؛ لأن اليقين طمأنينة، وثبات واستقرار، كما قال ابن القيم رحمه الله:' الشك مبدأ الريب كما أن العلم مبدأ اليقين'[بدائع الفوائد 4/913].

    الحادي عشر: أخبار السلف رضى الله عنهم في هذا الباب: وهي كثيرة، وقد ذكرت طائفة منها عند الكلام على بعض جزئيات هذا الموضوع، وأذكر شيئاً يسيراً ومن ذلك:

      ما قاله عامر بن عبد القيس رحمه الله مبيناً الدرجة التي وصل إليها في هذا الباب يقول:' لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً'. عنى بلغ في اليقين غايته يقول: لو رأيت الجنة والنار ما ازددت يقيناً. 
      ويقول الآخر:' رأيت الجنة والنار حقيقة'. فقيل له: كيف رأيتها حقيقة؟ قال:' رأيتها بعينى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لها بعينه آثر عندي من رؤيتي لها بعيني؛ فإن بصري قد يطغى ويزيع بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم' . فهذا يعتبر ما أخبر عنه الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، آكد في نفسه، وأعظم ثقة من الأشياء التي شاهدها بأم عينه.
      ومما يذكر في هذا الباب من أخبارهم: أن عالماً من العلماء المتقدمين ألف كتاباً في التفسير، فلم يجد سعة، ومالاً من أجل أن يستنسخ الكتاب، كانت هذه الكتب تستنسخ عند الورّاقين، ولربما كلفهم ذلك مبالغ إذا كان الكتاب كبيراً لا يستطيعون دفعها، فركب هذا العالم سفينة، وسار على النهر ليذهب إلى رجل من أهل الغنى والثراء؛ ليعرض عليه هذا الكتاب من أجل أن يتبرع لنسخه، فبينما هو بالسفينة إذ مرّ برجل يمشى على قدميه يريد الركوب، فطلب من صاحب السفينة أن يحمل هذا الرجل ويحسن إليه، فتوقفت فحملوا بها هذا الرجل فسأل الرجل العالم: من أنت؟ فأخبره باسمه، فقال: أنت العالم المفسر؟ قال: نعم، قال: وأين تريد؟ قال: أريد أن أذهب إلى فلان علّه أن يتبرع بنسخ هذا الكتاب، فقال هذا الرجل للعالم: وكيف فسرت قوله تعالى:}إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[5]{ [سورة الفاتحة] ؟ فأخبره عمَّا قال وتفطن لمقصده! ثم قال لصاحب السفينة: ارجع بي إلى حيث حملتني، ورجع إلى بيته، وبقى فيه.

    فلم يمتد نظره إلى المخلوق، فيتعلق قلبه به، ولو في هذا الأمر الذي يعم نفعه، وهو نسخ هذا الكتاب، وبعد مدة ليست بالبعيدة، وإذا برجل يطرق الباب، ومعه رسول فعرّفه بنفسه، وقال: إنه مرسل من قبل فلان الرجل الذي كان يريد أن يذهب إليه، وقال: إنه قد بلغه أنك قد كتبت كتاباً في التفسير، فهو يريد أن يطلع عليه، فبعث إليه بجزءٍ من أجزاء هذا الكتاب، فلما نظر إليه أمر أن يوزن له بالذهب، فَوُزِن فبعث به إلى هذا العالم.  فانظر كيف يؤثر اليقين، وكيف كانت حالهم معه!

     وهذا الإمام البخاري لما ابتُلى، وأوذي إيذاءً كثيراً -في القصة المعروفة- ماذا كان يُردد، ويقول؟ كان يردد ليلاً ونهاراً يقول:}إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]{ [سورة آل عمران].[نزهة الفضلاء 1019]. فلم يذهب إلى أحد المخلوقين، فيشكو له فلاناً، أو فلاناً، ويطلب النصرة منه، وإنما كان يردد هذه الآية، وكان إذا قيل له: يقولون عنك كذا، وكذا؛ لا يزيد أن يقرأ آية من القرآن:}الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{  [سورة آل عمران]. يقولون: إنهم يكيدون لك كذا وكذا، فيقرأ:}...وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ...[43]{ [سورة فاطر]. في جميع جواباته على ما ينقل إليه من أقوال، وأفعال خصومه.

    *  اجتمع حذيفة المرعشي، وسليمان الخوّاص، ويوسف بن أسباط، وهم من الزهاد، فتذاكروا الفقر والغنى، وسليمان الخواص ساكت، فقال بعضهم: الغني من كان له بين يكنه . ما هو معنى الغني؟ ما ميزان الغني عندهم؟ الغني من كان له بين يكنه، وثوب يستره، وسداد عيش يكّفه عن فضول الدنيا، وقال الآخر: الغني من لم يحتج إلى الناس وسليمان ساكت، فقيل له: ما تقول أنت أبا أيوب؟ فبكى ثم قال: رأيت جوامع الغنى في التوكل، ورأيت جوامع الشر من القنوط، والغنيّ حق الغنى من أسكن الله قلبه من غناه يقيناً، ومن معرفته توكلاً، ومن عطاياه وقسمه رضاً، فذاك الغني حق الغنى، وإن أمسى طاوياً، وأصبح معوزاً، فبكى القوم جميعاً من كلامه. 

    * وهذه المرأة الصحابية من بنى عبد الدار من الأنصار رضى الله عنهم لما أُخبرت باستشهاد زوجها، وأخيها، وأبيها، ولم يبق لديها أحد، قالت: ماذا صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هو بخير، فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل . يعني: أنها سهلة يسيرة، فقدت زوجها، وأباها، وأخاها، وتقول ذلك في حرارة المصيبة. 

    *  وأيضاً: من عجائب أخبارهم ما جاء عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشة، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله عز وجلّ من الجزاء والعوض.

    * وهذه الخنساء، ومعروف خبرها: لما مات أخوها صخر، فكانت تبكى وترثيه، وتقول: ومن بكى حولاً كاملاً فقد اعتذر. وكانت تقول:

    ولولا كثرة الباكين حولي  على إخوانهم لقتلت نفسي

    وقالت فيه شعرها المشهور المعروف، فلما دخلت في الإسلام، وقُتل أبناؤها الأربعة في وقعة واحدة، ماذا قالت؟ قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم.  فانظر كيف قلب اليقين حالها، فغيرها هذا التغيير!!

    * وكذلك أم حارثة التي قُتل ابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: [ وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ] رواه البخاري . فسكتت، وما بكت، وما جزعت، وما تحرك لها ساكن. فما الذي يجعل الإنسان يفعل هذه الأمور، ويصبر هذا الصبر الذي كان عليه السلف الصالح رضى الله عنهم؟ هو قوة اليقين بالله . 

    ونحن حينما نطرح هذه الأشياء لا نطرح الأشياء الغريبة جدًّا التي تنبو عن السمع، فلا يصدقها أحد ممن قلَّ يقينه، فهذه أمور لا أُحدثكم بها، وكما قيل: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلى كان لبعضهم فتنة، وإنما أُحدث بأمور معقولة عند أهل اليقين، ونحن نشاهد في عصرنا هذا من أخبار أقوام قد كمل يقينهم، نشاهد عندهم أشياء عجيبة، وبعضهم يكون من العوام، ونشاهد أشياء عند بعض أهل العلم تدل على قلة اليقين، وقلة التوكل على الله عز وجلّ، والخوف على الأجل والرزق، وما أشبه ذلك، فإن لم نستطع أن نصل إلى المراتب العليا في هذا الباب؛ فلا أقل من أن هذه الموضوعات تحرك لنا شيئاً في النفوس.

    موضوع الإخلاص، واليقين، والتوكل- وما سيأتي من الكلام عن الرضا، والصبر، وأشباه ذلك- أن نحرك القلوب وأن نعمل على رفعها.  في كثير من الأحيان يتوهم الإنسان أنه قد بلغ الغاية والكمال، والناس لربما توهموا فيه خيراً كثيراً، وظنوا أنه من عباد الله المتقين الصالحين، ولربما كان لديه ضعف في الأعمال القلبية، فيحتاج الإنسان إلى أن يعرف حقيقة حاله قبل أن يُقبل على الله عز وجلّ، ثم بعد ذلك يندم ولا ينفعه الندم، هذا ما يتعلق  بموضوع اليقين.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

    من سلسلة:'أعمال القلوب' للشيخ/ خالد بن عثمان السبت

     

     
    كلمات مفتاحية  :
    فقه قلوب

    تعليقات الزوار ()