سائق التاكسي وكلب مرغرت.
لم يكن ثمة ما يؤشّر أنّ هذا النهار سيكون مميّزاً عن غيره من الأيام . كل شيءٍ كان يسير كالمعتاد ، حتى اللحظة التي أراد فيها ذلك الزبون و كلبه ، أن يستقلا السيارة ، كباقي خلق الله ، ليقصدا المكان الذي يريدان الوصول اليه .
لم تكن ملامح صاحب الكلب قد تبدّت بعد لنظر السائق . إنها إمرأة ثلاثينية ، يصطحبها كلب ضخم ، يقظ جداً . شديد النظرات و اللفتات الى كل جانب .
كادت المرأة أن تلتصق بالكلب و هي تمسك طوقه ، بيدها اليمنى . لم يكن جلياً من الذي يتحكم حقيقةً في قيادة الآخر . كانت المرأة تتقدم بثقة ، متابعة كلبها نحو السيارة ، و لكن كان ثمة ما هو غير عادي في شأنها . فالعين التي تعتاد على مشية الناس و حركتهم ، لا تنفك تلحظ بشيءٍ من السرعة أي تغيير في حركاتهم أو نظراتهم . لكن ، لم يتسنى لأمين ، على ما يبدو ، الوقت الكافي ، ليلحظ ثبات عينيها ، إذ أن جلّ إهتمامه كان مُنصّباً على مسألة الكلب ، و كيفية الخروج من المأزق .
" اللهُّمّ أكفني شرَّ هذا اليوم ! سوف لن أدعه يدنس سيارتي بلعابه النجس ، تحت أيّ ظرف . لن أتركه يحوّل مقاعد سيارتي الخلفية الى مكان للإثم . سوف أطلب منها بكل بساطة أن تختار بين الصعود الى السيارة بدون الكلب و بين أن تنتظر سيارة أجرة أخرى . و لتذهب النقود المدنسة تلك بلعاب الكلاب الى الجحيم عوضاً عن أن أذهب أنا ! ".
حدّث أمين نفسه وحسم أمره .
في اللحظة التي أوقف السيارة فيها،كان كلب مرغرت يتأهب متقدماً ناحية باب السيارة ، مؤذناً لصاحبته ، راكبة ساعة النحس هذا النهار ، بأمان المكان .
كأن حضارتين كانتا على موعد عند موقف التاكسي . حضارة كلما بلغ الفرد فيها ، اقتنى عائلة و صف بنون و بنين ، و أخرى كلما أزداد الفرد فيها فرادةً ، كلما اقتنى كلاباً أكثر .
عندما همّت مرغرت بالصعود الى متن السيارة ، قال أمين ما قررّه في قرارة نفسه منذ قليل :
- يا سيدتي ! ثمة مشكلة مع الكلب ، أقلّك أنت الى حيثما تشاءين و لكن بدون الكلب.
- لكننا يا سيدي ، أنا و الكلب بمثابة شخص واحد . فهو بمنزلة العين مني ، و هو كلب مدرب بعناية خاصة و مختص بالمكفوفين ، كما تلاحظ ، كما أنها ليست المرة الأولى التي أستقل فيها سيارة تاكسي و لم يسبق أن اعترض أحد على وجود الكلب .
لم يكن لوقع كلمات مرغرت تلك أن تغير شيئاً في قراره ، الذي ازمع عليه مصمماً ، أن لا يلوّث هذا الكلب بنجاسته أثير مقاعد سيارته الخلفية . غير أنه بعد أن أدرك ، أنها عمياء ، بدأت مكونات الريبة و الحيرة تتسلل الى عقله ، لكن قوّة خارجية واتته من داخل عقله ، دفعته ينساق للمضي في موقفه
" الحيرةُ تكون أحياناً ، أشدُّ بعد من القتل . كذلك قد تكون بعض الأحكام مربكةً الى حدٍّ مثير ."
كان يحاور نفسه ، لكنه قال :
- يا سيدتي ! أكرّر اعتذاري و لكني لا أستطيع السماح بذلك . فإن أردت الصعود بدون الكلب فتفضلي ، أو فلتأخذي تاكسياً آخراً !
حينها تبدّلت ملامح المرأة ، و انسحب اللون الأحمر الذي كان يتمدد على وجنتيها ، ليحل محله لون الجلد الصافي المائل الى الأصفر . و قالت بصوت مرتفع :
- إنك لا تستطيع أن تفعل هذا ! هذه وقاحة و مخالفة ضد القانون و العقلانية . أُقسم أنني سأقاضيك الى آخر يوم من عمري !
بدا أن الموقف أصاب مقتلاً في نفس مرغرت .
بعض الركاب الذين كانوا على رصيف الموقف ، ينتظرون بدورهم سيارات التاكسي التالية ، تقدموا بإتجاه مرغرت لإستيضاح الموقف . المرأة الخمسينية السمينة ، التي يرافقها زوجها ، كانت تولي إنتباه زائداً لمرغرت و الكلب الذي يسير بها كشرطي أو حارس مدرّب بمهارة فائقة . فيما كان زوجها منشغلاً بحقيبة كان يجرها ، لا ينفك يشد رباطها الى الأعلى ، و من ثمّ يجلسها على جنبها و هكذا .. زوجته هذه كانت أول المتطوعين في الدفاع عن حق مرغرت ، و التي نعتت السائق بالصلف و بكلمات أخرى :
- إن كنت بهذه العقلية فماذا تفعل هنا بيننا ؟ ارجع الى بلادك !
بعد إصرار أمين على موقفه ، و إزدياد اللغط و اللغو ، صفعت المرأة السمينة باب التأكسي مع اللعنة
غادر أمين المكان . كان الشهود من حولها أكثر المشجعين لها على المضي قُدماً في رفع الدعوى . التي ستكون خبراً أول في محطات و صحف المدينة في اليوم التالي . لتتحول الى قضية رأي عام ، و إلى مايشبه الحمّى ضد بعض القيم و بعض الأحكام ، التي تختص بها ثقافة بعينها ، عندما يكون أبناء هذه الثقافة يعيشون في مجتمع يخالف تقاليدهم ، و تداعت الأقلام و علت الأصوات ، مطالبة بمحاكمة السائق و تغريمه .. و ساعد كون مرغرت عمياء في تقلّص نسبة المتفهمين أو المتضامين مع موقف السائق ، إن لم نقل أنهم عدموا ، حتى بين أقرب المقربين إليه ، أو بين أبناء جالية المهاجرين أترابه ، الذين غرقوا في صمت مطبق .
نظرات جيرانه المرتابة إليه ، كانت إيذاناً صارخاً ، بأن قطيعة كبرى حصلت في المكان .
.. و أضحى وجود الرجل و حياته برمتهما مهددين في هذه البلاد . لحظات قليلة كانت كفيلة بتحويل عقارب حياته كلها دفعةً واحدة . و تيقنّ أنّ ساعات الشؤم قد تكون مخبأةً تحت أية قشة .
أمّا خلف بحار هذه البلاد البعيدة ، فقد لاح طيف وطنه اللاذع ، كسوط شعور مرير . ملاذ اخير لكنه مستحيل .
" في كل مرة كنت أبني ، أُراكم الأشياء و التفاصيل و المداميك ، عساني أردم هوّة هذه الغربة و هذا الإنسلاخ و هذا الإقتلاع مرةً واحدة و إلى الأبد ، و لكن عبثاً أحاول . سرعان ما كانت الأحداث تؤكد عكس ذلك ، و تشير الى هشاشة ما نبني و ركاكة ما نظن أننا بنيناه ".
مضى يعّنف نفسه بلا هوادة .
" أعليّ أن أندم ! و بما ينفع الندم ؟ . و لماذا تراهم لا يتفهمون أمورنا هؤلاء المتعجرفون ؟ "
كانت جميع محاولات المصالحة و التخفيف من الأحكام و عنف الردود ، قد بآءت بالفشل ، و إن كانت مرغرت قد أبدت بعض الليونة ، بعد تعدّد التدخلات الجانبية ، غير أن المسألة كانت قد خرجت أيضاً من يدها لتصبح قضية مجتمع و سلامة و إنسجام هذا المجتمع هي المطروحة على المحك .
من بعض ما قيل في القضية ، " .. فليرحل الى حيث يمارس عاداته اللانسانية ! " فلتنزع منه الجنسية و الإقامة .."
لأمين عائلة مؤلفة من زوجة و أربعة أبناء . ولُدوا جميعاً في هذه البلاد . في البيت خيّم وجوم و غطّت سحابة رمادية سوداء سماء المنزل . و فاحت رائحة حقائب ، كانت مهملة و مقصاة في أماكن منسية .
و بدا جحيم هذا العالم أشدُّ ضرواةً و أكثرُ فتكاً بعدُ بمئات الدّرجات من ذاك الجحيم الموعود في آخر العالم .
- قال المحامي يمكن إستئناف الحكم إذا ما كان قاسياً جداً ! .. و المال يعوّضه رب العباد ، أمّا هذه المهنة فلتذهب الى الجحيم ، و دعنا نغادر هذه المدينة إلى أيّ مكان آخر ! فإن الله كريم شديد الرأفة ، وسيع الظلال !
قالت زوجته موآسية ، فيما كان هو يحدق من خلال النافذة الى بيت جاره ، الذي استدعى عمالاً يقيمون سياجاً خشبياً قاتماً يحجب عن ناظريه بيت جاره أمين ، الذي غدا غريباً منذ لحظة لقاءه المحتوم بصاحبة الكلب الشهير ..
بعدها بأيام .. قضت المحكمة بأن يخدم في دارٍ للمكفوفين شهراً كاملاً دون مقابل ، و بمنعه من مزاولة هذه المهنة نهائياً ، إذا ما أخلّ بشروطها الأخلاقية الأساسية مرةً ثانية .
- سأخدم المكفوفين ، و لكن لن أُقل الكلاب في يارتي أبداً !
قال لزوجته