بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:22:49 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1165 0


    دِمــنــة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سامي حمزة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة دِمــنــة سامي حمزة

    أنا ناظرٌ أرافق القطارات المسافرة، لمحطةٍ أو محطتين، تقصر المسافة إن قلَّ عدد الركاب، وتطول إذ يكثر المسافرون، وإن أنهيت مراقبة البطاقات وتأكدت أن الكل قد دفع، أنتقل إلى مقصورة القيادة، أتبادل والسائق الحديث ونشرب الشاي، إلى أن يصل القطار محطة، فأنزلها بانتظار القادم بالاتجاه المعاكس.‏

    كان الوقت بعد العصر قبيل الغروب، في نهايات خريفٍ ناست شمسه. ابتعد التواء القطار عن مرأى العين، ومازال وقت وصول الثاني بعيداً. مشيت بمحاذاة السكة، وقفت، عدت، تطلعت على مدِّ البصر. لا شيء يتحرك!. صمت مطبق، ونسمة هجينة هبت. رفعت لها طرف سترتي، وأشعلت لفافةً واتكأت على حافة عربةٍ مهجورة، والشمس ذابلة يهمد وينوس نورها ويستمر أفولها.‏

    الوحدة موحشة، في بيت، في سجنٍ، في بريّةٍ، فوق جبلٍ، وعلى شاطئٍ؛ وفي صحراء.. سواء. وربما هي كذلك في أعالي البحار وفي الفضاء!.‏

    ضجرت.. وشعرت بحاجتي لأية حركة، لكن لا شيء البتة. عبثت بشظية بازلت مفلطحة مما يُفرش تحت العوارض.. تذكرت أموراً سيئة. امتعضت لتطواف خيالات مرعبة، حادثة رأيتها في صغري ظلت في ذاكرتي كالنقش على الحجر، يوم وقف جدي دون حقه، وطيف الباغي غارزاً خنجره في صدره، من غير أن يرف له جفن، وراح مزهواً يختال بغلوائه، وهو من صعَّرَ خده وكاد يجعله مداساً لمتجبر فتاك، سلبه فحل بقراته، فساق إليه بقرة تملقاً ضارعاً إليه أن يقبلها والعربة المحملة علفاً، لتؤنس غربة الثور وتؤمن شبعه وتضمن فحولته!. وكي يطمس السخرية ويفلش ما ارتسم على وجوه الناس مما اعتمل في النفوس، فرقع سوطه وأمهلهم سويعات ليعوضوه بثورين وأربع بقرات وثمان عربات محملة علفاً!!. كنت أنظر إلى السماء وأتساءل لِمَ لا ينشق القمر؟ وأستغرب كيف أن الشمس مازالت تشرق وتغيب، كأن شيئاً لم يحدث!. وأتابع أيام الأسبوع مدهوشاً أنها لم تنقص أو تزيد!. أو يأتي أحدها قبل غيره أو بعده!. والجبل لم يتصدع من هذا الهول!. ولم أكن أفهم معنى الخنوع وقد جعلته العجائز مَزِيَّة سمّيْنها الصبر!. وكنت أترقب الغضب وحنق الرجال، وأهتز حماسةً ورغبة في أن ينفقع أحدهم فيكون سبب انفجارمَنْ حوله من الحانقين المنتفخة عروق رقابهم، وتوجست جلجلة الجلل لحظة إثر لحظة. استعجلتها ورمت وقوعها، إلا أن ذلك تأخر، فاغتظت وأوشكت أن أنفلق وأنشطر وأتشظى احتجاجاً، لكن ذلك لم يحدث، ومازلت بين دهشة السؤال وحيرة الوقوع على الجواب، أكيل اللوم لغيري، وهأنذا أعلق فتور غضبي على مشجب الزمان، وأسحب نفساً عميقاً من لفافتي كشهقة الحسرة، ثم أرميها بعيداً بدفع من سبَّابتي. أراقبها وهي تشكل قوساً من نهاية امتداد ذراعي، متعاظماً في نقطة عَلَتِ الأفق، وانحدرت منحنية على بُعْدِ أمتار، هست في بقايا عشب أوقف الخريف نسغ حياته. أدهشتني هذه الصورة الحسية وهي تشكل خيالاً عبر بؤبؤ الذاكرة لتلك الهواجس التي راودتني قبل لحظاتٍ على تخوم طفولتي ذات القروح المتقيحة. تباً للوحدة ما أفظعها وهي تنبش الروح وتنكأ دماملها!. لمحت حيواناً خمنته كلباً، استأنست بمراقبة هذا الكائن الحي، ولم أُفجع بكونه كلباً، للحق استأنست ليس به؛ بل لأنه شغلني عن قتامة ما توارد في أفق الذاكرة. نظرت في ساعة معصمي فكان كلُّ ما انقضى لا يتجاوز الدقائق العشرَ. تابعت ذاك المخلوق وهو يخبُّ ناحيتي كأنه حصان، قصرت المسافة فصرت أشك أن يكون كلباً!. خطوات قطعها ناحيتي فاستبنت شيئاً يعض عليه، ثم تأكد لي أنه ليس كلباً، ولما وقف رفع رأسه وشنَّفَ أذنيه فتحقق لي أنه ابن آوى يحمل دجاجةً. أكمل استدارة تحرَّى خلالها المكان. انكمشت غريزياً محاولاً ألا يراني، ويظهر أنَّ بذتي وكسارة البازلت والعربة المتقادمة، كانت بألوان متقاربة في تدرجها، مما جعله لا ينتبه لوجودي. أسقط الدجاجة وتطلع إليها، أدنى خطمة منها، التقطها ثم أسقطها ومازال ابن آوى يُشَنِّفُ وينظر إلى فريسته، مسترجعاً غزوه مزبلة القرية مرتع الدجاج البلدي، فيقنص ثم ينقذف نحو أول القطيع فيهجم لتعلو صيحات فزع ورعبٍ ففرار مبعثر، وابن آوى الظافر يفر نحو مكان آمن -رَكْضٌ ثم تلفتٌ فركضٌ فتلفتٌ فاطمئنانٌ، ثم مَشيٌ أقرب إلى العنجهةِ تزيده مرونةً بهجة الظفر، ويكسر ليونته خوفٌ غرسته في الأعماق غريزةٌ ازدهرت بالتجارب المتتالية. تطلَّع مستديراً ثم ابتعد عنها مشمشماً الأرضَ من حولها، واقتربَ وعضَّ على جيدها، ودغدغ عرفها، ثم أقعى وتمطى وأطلق "زغردة" ونفض رأسهُ وخبط الأرض ثلاثاً، ورفع مؤخرته نحو القرية وقوّس ذيلَهُ؛ ثم حملها ورماها، ونبش التراب وطيَّرَهُ خلفه زوبعة كساترِ دخانٍ في مناورة تمويهٍ؛ أو معركةٍ، وَجَدَّ في النبش والتراب يتراطب متراكماً خلفه، ثم أقعى في الحفرةِ، فما عاد يظهرُ منه سوى أعلى جبينه وأذنيه، ثم خرج ودار حولها مرتين، نظر إليها وتلفت حوله، ثم أتاها فضرب صدرها وواراها الحفرة، وهال عليها التراب بتؤدةٍ، ثم أسرع حتى انتهى، عندها وقف لاهثاً، فرفع قائمةً فوق الردم فبال وتغوط وهرول باتجاه القرية، وعلى بعدِ نحو عشرين متراً، استدارَ، فانكمشتُ، ولما تابع حثيثاً تنفستُ، وحين اختفى قمتُ بحذرٍ ناحيةَ المكان، وما غفلتُ عن مراقبة المدى. قلتُ: أَلْعَبُها مع ابن آوى ، فأزحت الغائط على مهل، ونبشت التراب الرطب، أخرجتها فبان جزُّ رقبتها بقدرِ موضع أنيابه الحادة، ثم أعدت التراب وفوقه الغائط كما تركه، وأخفيت ما ظهر من مواطئ قدميّ، وعدت إلى العربةِ قرب المحطة شبه المهجورة، ألقيتها أمامي جثةً مازالت أوصالها تختزن بعض حرارة حياةٍ كانت فيها -هوت مخترقةً جمجمتي صورة ابنة الباغي ومِزَفَّتها كنعشٍ يخرج من هودج، يوم جعلها والدها رشوة لذاك الأشنع منه بغياً. ارتعشت الزغاريد على شفاه النسوة، ثم تمددت فانجزرت واستحالت عويلاً، قالوا: لأنها ما استطاعت أن ترفض انتحرت. وقالوا إنها قالت: تلك ميتة وهذه أهون.!.- لمحتُهُ عائداً لا يحمل شيئاً، وبدا لي أنه غير آبهٍ إذ عنده ما يعزي به نفسَهُ، وكلما اقترب زاد يقيني أنني سأضحك من ابن آوى كما لم يحدث له من قبل. ولما وصل، شمَّ غائطه، وأعاد الشمَّ فتأكد، ثم بدأ يمارس طقساً خاصاً يصعب تخيله. أزاح النجاسة بحركة صاحب كار، وبدأ يزيح التراب كمن يزيح الجليد عن معتقة يُبردها. كانت حركاته مغناجةً نشوانةً، ولما أزاح كميةً من التراب، صار نبشُهُ متوتراً، وازداد تشنجه، توقف مرتجفاً، عاود كالملدوغ، ارتمى في الحفرة، تلوى. دار كالمصعوق وانتفض، وارتفع قافزاً في الفراغ وارتمى، انتفضت قائمتاه وسكنت حركتُهُ، ثم.. تقدمتُ حذراً، فرأيتُ دماً قد سال من لسانه إذ عضه حنقاً فانقطع... تراه أبى أن يُسْلَبَ فانتحر!!!.

    كلمات مفتاحية  :
    قصة دِمــنــة سامي حمزة

    تعليقات الزوار ()