حقيبة
أجتهد سالم بن طريف للخروج كل عام من عباءة العمل، يطير في إجازته إلى عالم آخر يغاير معاشه، كانت اهتماماته بسيطة، يحلم بأسراب من الغيوم وهي تطفئ جفاف عينيه وبشرته ومخيلته، يحلم بفتيات لا يتوجس أن يقرئهن عطشه فيبادلنه بسقاية عذبة سلسبيل، يحلم بخيارات ملابسه أو قصة شعره الغريبة أو زوبعته محتجا ومناهضا لأفكار طرأت على عقله فلا يخاف ويصرخ بها فتجيبه الوديان والعيون والموسيقى، فيرقص للحياة ويبتسم قبل أن يفتح عينيه كل صباح، يحلم بأغنية تسجل الوجود والفعل وتنفى الظلام . . .
كان ينظم رحلته جيدا، يبدأ هجرته السنوية بأن يتوجه للمطار مباشرة بعد نهاية يوم عمله الأخير ويطير، يكون قد جهز جواز سفره والتأشيرة وعملة تلك البلد وملابسه، يوقف سيارته في مكان آمن أعتاده بعيدا عن الشارع، ثم يقفز لسيارة أجره تتقيأه الأخيرة في بوابة المطار، تربض تذكرة سفره في جيبه لأيام قبل سفره، وعندما تشرق شمس اليوم الأول لإجازته يكون في عالم حلمه لمدة عام سابق، عالم مختلف ينشر فيه حياته كلحاف على الملأ دون أن يخجل أو يخاف.
غير أن خللا واجهه في إعداده للتمتع بإجازته السنوية الأخيرة، لقد تعطلت سيارته قبل بداية إجازته بيوم واحد، كان قد صرف نقوده لتغيرها لعملة ذلك الوطن الحلم، جهز أوراقه، حشر قميصا وبنطالا واحد وكمية من ملابسه الداخلية التحتية، كذلك أربعة صناديق من الواقي الذكري الجيد الصنع، كان قد تعرف في سفره الأخير على مكان رخيص يبيع نوعية ممتازة من الملابس ، سوف يشترى ما يحتاجه من هناك.
دلف سالم بن طريف لمبنى عمله الضخم مبكرا، دس حقيبة سفره أسفل طاولة الاستقبال الضخمة، ألبسها جريدة وبعض الصحف كي لا ينتبه إليها أحد ما، لا يستطيع أن يدخلها لمكان عمله، سوف يستهزئ به الموظفين الآخرين، في غضون دقائق سيعلم المبنى بسفره، لأنهم فارغون فأن حكاية كهذه ستكون كفيلة لإعطائهم سببا لحديث ما، سيفرغون إحباطاتهم وبؤسهم على حقيبة سفره، لذا قرر أن يحشرها أسفل طاولة الاستقبال الضخمة ريثما تركض ساعات العمل المملة دون السماح للأفواه الجائعة أن تلوكه طيلة النهار أوعندما يرجع من سفره وحتى بعد سنوات طويلة، أحتفظ في ظرف متوسط الحجم بأوراقه الثبوتية والمبالغ المالية وتذكرة السفر، ترك بالحقيبة فقط بنطالا وقميصا وملابس داخلية وواقيات ذكرية.
فات على سالم بن طريف التنسيق مع رجل الاستقبال، لم يخبره بأمر الحقيبة، أنهمك في عمله دون أن يتذكر التنسيق مع رجل الاستقبال وإحاطته بأمر الحقيبة، وبعد موت ساعات قليلة أخرى من نهار العمل، سوف يطير، صاح فجأة جهاز الإنذار في المبنى، لم يكن تدريبا أو خللا فنيا، كان الجميع يركض للخروج من بوابات الطوارئ على جانبي المبنى، أغلق المصعد الكهربائي، منع الموظفين من نزول السلم الرئيسي، لا بد من وجود أمر مزعج، تدافع الموظفين المذعورين على سلالم الطوارئ، هناك من داسته الأقدام، هناك من كان يصرخ مستغيثا، علا الغبار في ممر الخروج من المبنى، تجمهر الناس من الخارج بعيد لمتابعة الأمر، كانت قوات من الأمن والشرطة والجيش تبعد الناس عن المبنى، طارت سيارات أرباب العمل مولية الأدبار، كوباء فرغت المباني المجاورة للمبنى من موظفيها، ازدحمت الشوارع القريبة، انتشر خبر تفخيخ المبنى الذي يعمل فيه سالم بن طريف لوسائل الاتصالات، ربحت الأخيرة بضع ملايين من مستهلكيها، بثت قنوات عالمية خبرا مباشرا ولقاء مع مسئول أمني كبير بالدولة، كان يهدد بأن المؤسسة الأمنية ستضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه ويتجرأ على زعزعة استقرار البلد الآمن.
لأول مرة ككابوس طنت هجمات 11 سبتمبر على أمريكا في رأس سالم بن طريف، أصبح الهواء مكهربا، غير أنه كان مدركا لذلك، تعامل منذ ذلك الوقت بذكاء مع الموضوع، لم يبدي رأيا، تمترس خلف قناعات السكوت، أوجد طريقا وسط الألغام وكان يخرج سالما .
تابع بالتلفاز من مقهى على بعد ثلاثة شوارع الحدث الغريب، لماذا وكيف ومن؟، أسئلة كثيرة حامت، بعد ساعة بثت قناة عالمية بأن الحقيبة المفخخة كانت عبارة عن حقيبة تحتوي على ملابس داخلية تحتية وواقيات ذكرية، صرح مسئول آخر بأن مرتكب جريمة الإخلال بالأمن وتضليل المواطنين وناشر الرعب سيستخرج من باطن الأرض، سوف يعاقب، كانت التعليقات والضحكات تعم المكان، بينما واصل المسئول شرح طرق محاربة الإرهاب والتدابير الوقائية معللا ما جرى، تلفت سالم بن طريف في الموجودين بالمقهى من العمال الآسيويين وبعض الرواد المتابعين للحدث، أنسل بهدوء وهو يبحث عن سيارة أجرة . .