بتـــــاريخ : 10/14/2008 6:13:23 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1688 0


    بين الجد والحفيد...ثمة بوح

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سمية البوغافرية | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :

     

    بين الجد والحفيد...ثمة بوح
     

     

     

     

     

    من بعيد يرنو الصراخ متقطعا وجلا... تتدافع الأقدام من كل اتجاه... تتجمع في الباب...تتسارع الأيادي وتشرع في العمل... تمسح بعضها على رأسه وعلى جسده وتروح عليه وأخرى تفك اللجام وتنزل الحمل فالبردعة...وبرفق شديد يساق إلى غرفته الفائضة بكل ما تشتهي نفسه...فينهمك الحمار الجد على طعامه وشرابه وتهجره عفاريته التي تزوره في هذا الوقت من كل يوم..تهدأ النفوس وتطمئن القلوب فتمضي إلى الحفيد المنزوي في الركن يئن ويلهث ونفسه يتقطع...تعتقه من الشحنة التي تقصم ظهره لتثقله بأخرى كان جده يتحملها من قبل فيركب سيده فوق ظهره ويمضى به خارجا ورجلاه تمسحان الأرض ولا يكف على وخزه وركله كلما بادر الحمار الحفيد بالتوقف...

     

     

     

    داخل غرفته، ينكب الحمار الجد بشراهة على طعامه الفائض عليه من النافذة فيرتوي ثم يتمدد في زاويته.. يغيب في نوبة من الضحك كأنه حقن بمسكر عجيب.. يتزلزل ويتمرغ ويدور حول نفسه مبعثرا طعامه الكثير كثرة عفاريته التي يستحضرها كل مساء وينام.. في وقت متأخر من الليل، أيقظه نهيق سيده...قام إلى النافذة بخطوات سكير عبث الخمر بجوارحه... لمح حفيده يجر قوائمه الملتوية الملطخة بالوحل ورأسه يحاذي ركبتيه وسيده فوق ظهره يترنح برجليه ويخز بكعب حذائه بطنه المتدلي، الذي يكاد يلامس الأرض.. فعاد الجد إلى زاويته يتلوى بالضحك...رشقه الحفيد بنظرات تذيب الحجر ثم دلف إلى الداخل وتهالك في الركن المقابل منزعجا مغتاظا من ضحك جده المتسلسل كأن آلة الضحك قد شغلت بداخله وأبت أن تتوقف.. فسأله بصوت مبتور عما يضحكه فباغته الجد:

     

    ـ أنت (ثم غاب في ضحك هستيري)

     

    بعينين منطفئتين تحجر فيهما الدمع، فرش الحفيد جسده المبلول المرتعش بالبرد وقوائمه الملطخة بالوحل التي انفلتت منه واستعصى عليه استجماعها وضمها إليه فأجابه لاهثا:

     

    ـ أمثل هذا الحال يثير فيك الضحك؟ كم تغيظني أيها الجد العديم الإحساس !من أين لك بهذه القسوة كأنك منهم ولست منا؟؟؟..

     

    استرسل الجد يضحك كأن كلام حفيده نوادر فأضاف الحفيد مغتاظا:
    ـ ارحمني ودعني أرتاح.. أريد أن أنام فأنا منهار..

     

    بصوت مثقل بنبرات الضحك قال الجد:

     

    ـ أتنام وأنت جائع؟

     

    ـ لا أقوى على فتح فكي ولا أقدر على ابتلاع اللقمة... أريد أن أنام؟

     

    ـ قد استنفذت كل طاقتك لإرضاء سيدك؟ والآن لا ترجو إلا النوم.. لقد تحقق المراد

     

    ـ ماذا جرى لك الليلة؟؟ عن أي مراد تتحدث؟؟

     

    ـ مراد الأسياد..سياستهم باتت معروفة ومكشوفة...يستنفذون كل طاقاتنا حتى لا ننشغل إلا بضرورة البقاء فينعمون ونموت أحياء..

     

    ـ دعني أنام حتى أقوى غدا على خدمتهم علني أنجو من نار سوطهم؟... فالعبء بعد مرضك صار عبئين

     

    ثم انفجر باكيا...

     

     

     

    استعاد الجد هدوءه ورزانته واستقام في جلسته ثم دنا من حفيده وصب في أذنيه

     

    ـ الرحمة معدومة والأرض ملغومة...والسماء لا تمطر حقوقا ولا تهب سلاما... وهذه حياتك، عليك وحدك أن تحدد كيف تمضيها..

     

    ـ ماذا؟؟؟

     

    ـ اسلك طريق الرضا على النفس ولا تأبه بما ستلاقي فترتاح.

     

    ـ آه، جدي لو تحكم الأرض كم منا سينعم برغد العيش والهناء تحت ظلك

     

    ـ النعيم لا يتحقق بالأماني يا حفيدي.

     

    ـ وأين المفر وكل شيء مسطر ومقدر؟

     

    ـ لا شيء نهائي.. كن فطنا متيقظا واسع (من السعي)... واعلم أن المغفل لا مكان له على الأرض إلا للدوس والامتطاء

     

    ـ آه، جدي كلامك يشعل نارا في كياني..

     

    ـ لقد مضيت شبابي مثلك، أجهد نفسي لإرضاء سيدي.. ولم أكن أخشى شيئا مثل نهيقه وزمجرة سوطه...وكان سيدي يتباهى بقوتي ونشاطي ويفتخر بسلالتي ولا يتوانى في إعارتي للآخرين. فلم أكن أدخر جهدا فيما أكلف به. ومع ذلك لم أنج يوما من العقاب كأني خلقت لأعاقب... تلك سياستهم.. يعتقدون أننا لو أنعمنا بطيب العيش سوف نثور عليهم ونسحب البساط من تحت أقدامهم..

     

    ـ ما أقسى على النفس حين يقابل الخير بالشر..

     

    ـ هذه الأوشام التي تراها على جسدي هي التي أيقظتني من غفلتي.. كنت أمضي الليل أبكي وأنا أرطبها وأفكر طيلة الوقت في حل ينقذني من أنانية وقسوة أهل الأرض حتى اهتديت إلى الحل.

     

    ـ حل؟ أي حل تقصد جدي؟

     

    ـ حل أكسبني حقوقا وكرامة واحتراما قل ما حظي بها بني جنسك؟

     

    ـ أجل، هذا ما لاحظته والكل يحسدك على هذا النعيم. لا يتجرأ أحد على إيقاظك من النوم أو إرهاقك بعد غروب الشمس.. أكشف لي جدي كيف اهتديت إلى هذا النعيم ؟

     

    طرق الجد مقدمة رأسه بقائمته اليمنى وقال فخورا بنفسه:

     

    ـ هنا تبلورت الفكرة.

     

    ـ أنا أيضا أفكر وأخطط طيلة الليل لكن بمجرد ما أرى السوط حتى ينقبض قلبي فتتبدد كل مخططاتي

     

    ـ هنا مكمن الضعف والخطأ. أنت في الحق ينبغي أن تكون حديدا، حجرا... واعلم أنك كلما اجتهدت وأبديت الطاعة أجهدت أكثر ولن يعتقك من جبروت أهل الأرض غير الموت.

     

    ـ صدقت.. وأعلم أن أبوي قد فارقا الحياة قهرا.

     

    ـ إذن لا تكترث بما ستلاقي في سبيل نيل كرامتك..

     

    أرخى الحفيد أذنيه وغاب في تفكير عميق فأضاف الجد:

     

    ـ أحذرك أن تنقص من المهام المناطة بك أو تركن إلى الكسل.. فالعمل سر وجودنا ويكسبنا قوة وتميزا...

     

    ـ حيرني أمرك جدي، وشتت تفكيري فلم أعد أعرف ماذا أصنع؟؟

     

    ـ لن أدعهم يقتلوك كما قتلوا والديك

     

    ـ أفصح جدي لم أفهم شيئا غير أنك تحب لي الخير وتريد أن تنقذني

     

    ـ يوم انفجر بطن أمك أمام عيني جروها وأهدوها للكلاب، وكنت وراءها أشعر بأن بطني سينفجر ولم أكن أرى بيني وبين مصير أبويك شبرا واحدا فهجت وركبتني كل العفاريت وصببت جم غضبي على الكل.. بعثرت كل شيء.. سددت ضربة لسيدي أقعدته الفراش أسابيع.. لم أهدأ حتى أغلقوا علي الباب وأتخموني بالعلف والتبن فرضخت للراحة وأنا راض على نفسي. وانتقاما لأمك صار ذاك الوقت من كل نهار وقتا لثورتي وهيجاني..

     

    ـ هيا أكمل جدي... من علمك هذا؟؟

     

    ـ الحياة، يا حفيدي الوحيد، مستودع للتجارب والدروس. كنت إذا أجهدت نفسي فحملت قنطارا شحنوا ظهري بقنطار آخر وركب سيدي فوقهما، فيمضي يغني على غفلتي ويرقص على نغمات آهاتي.. وإذا تأوهت أو بادرت بالوقوف رفع سوطه.

     

    ـ ولكن كيف لي أن أتصرف مثلك وأنا أحس أني بين المطرقة والسندان هذا يجلد والآخر يحملني ما فوق طاقتي وبالكاد أتنفس..

     

    ـ لا تخشى شيئا ولا تنقص من قيمتك بسبب الخوف... هذا المرض اللعين المتمكن من كل كائن حي.. فلما تعلن ثورتك لا شك أنك ستخيف كل من حولك وسيحتاطون منك ويبحثون لك عن الدواء.. ولكن احذر أن يستقيم أمرك بالعنف وإلا كان دواءك حتى الموت...

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()