نضال ـ 1 ـ
مضيت إليها ولساني يسبح باسمها... شقت الطعنة قلبها وابتلعت لبه ولم يلفظ لسانها أنينا أو شكوى... لم يسمع لها غير قذيفة صرختها يوم صعقت بنبأ فاجعتها... نخر الحرمان عظمها ولا يجري على لسانها غير كلمات الحمد والشكر... ما أن تنكأ جرحها الغائر الذي لا سبيل له إلى الالتئام وليس للنسيان عليه سلطان إلا وأغلقت فاك بضحكة ساخرة من تفاهة الحياة تقول: قدر الله وما شاء فعل... كم ظننا أنها ستقع مع أول عثرة تعترض طريقها.. ستعدمها أول نسمة باردة تلفح وجهها الغض.. سيجرفها التيار وسيبتلعها الزمن المنهار... قطة مغمضة العينين ستتوه في دروب الحياة وستذوب في الوحل... أم نضال صفعت كل التخمينات وأجهضت كل التوقعات...فقط بريق نجمها يسطع في سماء الصمود والنضال... لا يهدأ لها بال ولا يطيب لها حال إلا إذا ضمنت لقمة نهارها تسكت به صياح كتاكيتها...
دنوت من مكانها أعد، في راحة يدي، دريهماتي المتبقية من شراء الخضروات... فرحت... هي كافية لشراء قطع الحلوى لأفراد أسرتي وكافية لفرش وجه أم نضال بالفرحة... ما أن تتلقف يدها الدريهمات حتى تبرق فرحة النجاة في عينيها البراقتين وتنساب الكلمات من فيها حلوة عطرة مثل حلوياتها...حلويات تعدها أم نضال بيدها وتنسمها بنكهتها الخاصة ما أن تذوقها حتى تدمن عليها...
بلغت المكان فلم أجد أم نضال... وجدت ابنها نضالا في معطفه الشتوي الأحمر مقرفصا على الرصيف خلف الصندوق البلاستيكي الذي تفرشه أمه بالحلويات كل صباح... مستطيلات الحلوى مرصوصة في الطبق بفنية وروعة تجذب البصر... لتنبهر العين والنفس أكثر حينما نعلم أن أياد ثلاثة تعاقبت على إعدادها... الأم تعلكها وتعدها في شكل مستطيل كبير لتتلقفها يدا نضال يضبط المقاس بقالب ثم يقطعها مستطيلات صغيرة ليمررها لأخته الصبية المرأة.. بنت ست سنوات، تنهض بشؤون البيت ( الغرفة ) وترعى أختها الرضيعة طيلة غياب أمها. فتمررها في مسحوق السكر المنسم" بالفانيلا" وأخرى في مسحوق الشوكلاط ثم تغلفها بمادة بلاستيكية شفافة وتصففها بعناية في طبق العرض لتترك القطع الأخرى طبيعية بدون مساحيق... فقط حبات الكاوكاو ( الفستق) ملتصقة ببعضها كأنها بنيان مرصوص يجمعه العسل كما يجمع الأسرة الدفء والإيمان الراسخ بضرورة النضال والتعاون لدفع السفينة إلى بر الأمان...
البرد يجمد الدم في الشرايين، شوكة أنفه حمراء تبدو وكأن الصقيع جردها من جلدتها والصغير نضال، ابن العشرة ربيعا ، افترش الأرض على الرصيف الممتد على الشارع مسندا ظهره إلى السور الخلفي للمدرسة... خصلات شعره تفرش حافة الطبق... يده منشغلة بالتسجيل والتقييد في كراسته الصغيرة... كدت أسأله عن حال أمه وأختيه الصغيرتين... لساني لم يطاوعني... خشيت أن أربكه وأقطع تركيزه الذي صبه صبا على ورقه وقلمه... تلصصت بهدوء إلى كراسته... ارتسم ظلي على دفتره ولم يبادر برفع رأسه... عمليات حسابية دقيقة مسطرة على الورقة... انتظرته ريثما انتهى وعيناي تحاصرانه تجوبان قسمات وجهه المدور بنهم... نسخة طبق الأصل من والده... برعم يكبر ويتفتح أباه شكلا ومضمونا... تنهد، قبل دفتره ودسه تحت معطفه كأنه يخشى عليه من البرد... تمطط كما المستيقظ من النوم ثم رفع رأسه وابتسم لي وهو يزيح خصلات شعره على عينيه... يبعدها فتعود ثانية... مررت يدي على رأسه وقبلته ونظرات انبهاري تحاصره... همهم خجولا يكسر مسار عيني:
ـ هل من خدمة يا خالة؟؟
ـ حبيب خالة تذهلني طيبتك وجمالك فأتيت لأقبلك
انفرجت شفتاه على بسمة عريضة وارتسمت على خديه حفرتين أضفت سحرا على وجهه الأبيض المخضب باللون الوردي فأضفت:
ـ أعزك مثل أولادي... وأفتخر بك...أنت طفل مهذب ومجد وأراك دائما ساعد أمك وهذا يكفي ليبعث الفرحة في قلب أمك ويملأ عليها فراغ والدك ويحببك إلى كل من يعرفك
تذبذبت الابتسامة على وجهه... تأرجحت بين الرضا والحسرة ثم زم شفتيه الرقيقتين وهز كتفيه يقلب صفحة طفت على ذاكرته فجأة، وقال:
ـ راودتني مرارا فكرة العمل كي أساعد أمي لكنها ترفض دائما وتصر على أن أحقق حلم والدي رحمه الله
ـ رحمة الله عليه... كان رجلا تهاب منه الأسود... لعنة الله على الذئاب التي طاردته في تلك الليلة الليلاء... أحرقوا قلوبنا وسودوا أيامكم... لعنة الله عليهم... لعنة الله عليهم
التفت حوله خائفا وهمهم بصوت خافت:
ـ أمي تنصحني بألا أسبهم في الشارع أو ألعنهم جهرا... هم قناص شرسون
هززت رأسي أوافقه وأنا أردد في قرارة نفسي وصورة والده مرتسمة أمامي:
ـ اللعنة تلحقهم في حياتهم ومماتهم كما يلحقون الأبرياء... اللعنة على كل معتد أثيم... اللعنة على كل غدار جبار...عليهم اللعنة إلى يوم الدين... عليهم اللعنة
قاطع شريط لعناتي بصوت ملائكي أخمد جمرات قلبي:
ـ حينما أكبر لن أترك أمي تبيع الحلويات وتسهر الليالي على إعدادها ولن تبكي في الظلام... أعرف هي تبكي من شدة التعب والـــــــــ
اغرورقت عيناه فقاطعته قائلة:
ـ أترغب أن تحرميننا من حلويات الست ( السيدة) أم نضال يا نضال ؟؟
ـ كلا، يا خالة ، يومه سيكون عندنا بيت كبييييير ونقدمها لك في طبق مع كأس شاي وبدون مقابل
ـ آه، نسيت سأكون عجوزا ولن أقوى على أكل هذه الحلويات...
ـ أمي ستعد لك حلويات أخرى هشة ورطبة مثل التي تصنعها لجدتي...
فجأة، تلعثم لسانه وارتبك ... يرميني ببعض الكلمات وعيناه تضطربان في الشارع وهو يفرك يديه كأن قشعريرة برد تسللت فجأة إلى جسده... سألته ويدي تلتقط بعض قطع الحلوى:
ـ أتشعر بالبرد يا نضال؟؟... خذ هذا الشال من عنق خالتك وتدثر به ولا تخف على خالتك العجوز فالبيت قريب وسأتدفأ بمدفأتي الصغيرة حينما أصل
رماني بكلمات متذبذبة وعيناه منغرستان في آخر الشارع ودبيب الأطفال الذين يمضون إلى مدارسهم يزيد من حدة توتره...
ـ كلا، خالتي لا أشعر بالبرد
ـ ألم تتمم إنجاز تمارينك بعد ؟؟...
ـ بلى خالتي، قد أنهيتها كلها وحفظت النشيد عن ظهر قلب
وما كاد ينهي العبارة حتى انبسطت أسارير وجهه وانتفض قائما يقول والبسمة تملأ فاه الخاتمي:
ـ إنها قادمة...
ـ من؟
أشار لي بعينيه إلى نهاية الشارع ووجهه يشع بالفرحة...
أقبلت تلتهم خطواتها الرصيف متلفعة كعادتها في عباءتها السوداء تتأبط حقيبة مدرسية... قبلت ابنها نضال ومكنته محفظته مع قطعة الحلوى... التحق برفاقه وهو يلتفت إلى أمه التي مضت في طريقهم مثقلة بصندوقها نحو واجهة المدرسة وهو ينشد بعذوبة النشيد الذي طبعته أمه على صدره قبل أن تدونه يده على دفتره المدرسي:
آه آه آه آه….
منتصبَ القامةِ أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….