يعود بعد غيبة طالت عمرا. صبية كبر سنهم وشباب تدلت لحاهم، وكهول تقوست ظهورهم.
إنه مشهد مألوف في رحى الأيام الدائرة بلا توقف. تطوي بدورانها عمر الدهر، فعمر الإنسان. ليست الوجوه هي نفسها التي ألفها. هو الآخر سقم جسمه وابيض شعر رأسه، وتجعدت أسارير وجهه. عملت فيه رحى الأيام ما عملت فيهم تغيرت كثيرا من الأشياء فيه.
نبرات صوته وحدها لا زالت كعهدي به قوية و ثقته بنفسه لا تزال أيضا. كيف لا ؟ وهو الذي حارب الاستعمار وكافح فلوله من أجل الوطن. لقاءي به كان بعد عشرين سنة مضت. في أحياء المدينة العتيقة تربينا بكلماته ونصائحه وحكمه.
إنه السي امحمد صاحب ( اسطانكو) السجائر كما كان يحلو للبعض أن يسميه. أتذكر همساته وشطحات كلامه. فأظل أنصت إليه حين وقوفي قرب باب دكانه، أرقب حركة المارين أيام عاشوراء. كان يردد على سمعي مرارا :
أراها ضائعة وهم وراءها يلهثون.
فأسأله مازحا : (شكون هي هاد الغزالة) فيقول لي:
وكأنه يصحح صيغة سؤالي قل : ما هي السي يوسف ؟ إنها الدنيا ، أراهم يعطونها أكثر مما تستحق، فرغم قذارتها فالكل يحاول أن يظفر بها .
في حفل التنكر هذا كل شيء مباح. عض وافتراس. أظل أنصت إليه وأنا أتكئ على باب دكانه. تمتلئ الدكاكين هذه الأيام بلعب عاشوراء، تكون حركة الناس فيها ليست كباقي الأيام (التباخير) الراقصة في فضاء الحي و(التعاريج) المصففة أمام أبواب الحوانيت. تؤثث المكان.
كنا ندرك من خلال كل ذلك أن هذه الأيام، أيام عاشوراء. كانت الإيقاعات المنبعثة من بين الأزقة والدروب توحي بأن هذه أيام ليست كغيرها. كنت أفضل سماع الدف دون نقره. وأن أحملق في اللعب دون أن المسها. يرفع السي امحمد من صوته حتى أسمعه. بصمات نقر الإيقاع لا زالت مندسة بين شقوق جدران الحي الرطبة. كان كلما وقف صباح كل يوم بباب دكانه وهو يهم بفتحه أحييه ، فيمسك بيدي ويظل كذلك وهو يذكرني بما فات من أيامه وبمغامراته ، حلوها ومرها . فيحكي عن أحواله وأحوال عائلته.
أنصت إليه باهتمام زائد وأرد عليه المرة تلوى الأخرى بإيماءة من رأسي. يحدثني فأرجع بذاكرتي ، بعمري عشرين سنة ولت .
أتذكر أن دكانه هذا كان مكانا للقائي به . جالسته تلميذا فطالبا ثم موظفا . كنت أخطئ كم من مرة ، حين أحاول مفاتحته في موضوع ما، فيحرك سبابته واضعا إياها على فمه . فكنت أفهم من خلال حركته هذه أنه يجب علي الآن أن أسكت . اعتدت على ذلك، إنه موعد نشرة الأخبار المسائية . كنت أرى فيه شهامة وعزة النفس . تبخر كل شيء بمرور الأيام والأعوام . الكثيرون هنا في حفل التنكر هذا من أيام عاشوراء ، غيروا هوياتهم ، وضعوا على وجوههم أقنعة مستعارة ، تشبه وجوه الخنازير والكلاب والقطط . يسترخون بأبدانهم وبطونهم المتدلية على سراويلهم الضيقة . اجتمعوا يغنون ويرقصون . أما شبيه السي امحمد فقد انزوى وحيدا ، يفرقع أصابع يديه في زاوية تحت الدرج .. يضعون فيها نفاياتهم وما فاض عن حاجاتهم . اختار المكان أو فرضوه عليه لا يهم ذلك . المهم أن يكون حاضرا بينهم في حفل التنكر هذا.
كانت مهمة شبيه السي امحمد أن يحضر كل ما يحتاجونه للحفل ، من أكل وشراب وكم كان يحب أن يحرص على نقل الأشياء ، ثم إحضارها بأمانة . ورغم ذلك ها هم الآن يهملونه . تركوه مع نفاياتهم يحرس ما زاد عن حاجاتهم . جلس متأملا .. يشاهد رقصاتهم وقبلات العاشقين وسخافات التائهين ، في ممر الزمن المزدحم بالتناقضات. بدأ وهو مندس في زاويته يردد ما جادت به قريحته . في وحدته وخلوته كان يؤنس نفسه . يردد فقرات من قصيدته التي انتهى من كتابتها أخيرا . والقصة التي لا زال يبحث لها عن عنوان. بدأت تخرج الكلمات من فمه. تصف حفل التنكر هذا، كانت كلمات بلا صوت. اعتمد في إلقائها على تحريك شفتيه أو ربما تهيأ له ذلك. قد يكون صوته بَحَّ من كثرة كلام هذا اليوم. ففي هذه المناسبة لابد له أن يتكلم. أن يقول ويفعل كل شيء. لكي يسمع غيره. أحس بأن كل شيء يتحرك أمامه، دون صوت. بدأ يصيح بأعلى صوته. الجميع غارق في رقص ماجن. يرى ضحكات لكنه لا يسمع أصواتها، يشاهد رقصات لكنه لا يدرك إيقاعها. تحرك من الزاوية تحت الدرج. اندفع نحو ساحة الرقص. بدأ يرقص ويغني. يتحرك من مكان لآخر يلامس بمؤخرته مؤخرات الراقصات، أخلوا له المكان، تركوه وحده..
ينظرون إليه، يبتسمون له، يضحكون ويصفقون. لكنه لا يسمع شيئا. وقف وقد توسطهم، يتأملهم. يمسح المكان بعينيه. الكل يحدجه بنظراته. هو يرى حركاتهم ولا يسمع أصواتها. يستمر تصفيقهم لكنه لا يسمع شيئا. تيقن أنه أصبح أصم.
كيف...؟ متى...؟ لماذا...؟
أسئلة طرحها عليهم، على الجميع. بحركات و بدون صوت.
محمد بروحو/ المغرب