كان مقتضى الكلام عن أركان الصلاة أن أذكر الوقوف بعرفة بعد الإحرام ، ثم أذكر طواف الإفاضة الذي يكون يوم النحر وما بعده ، ثم أذكر الحلق أو التقصير . وهذا معناه ألا أهتم بترتيب أعمال الحج حسبما رتبها الشرع الشريف ، وحسب مسيرة الحاج لأدائها ، وذلك نوع فيه تكلف ، وفيه ربكة للقارىء الذي يهمه أن يقرأ في رسالة الحج ما يطلب منه من أعمال الحج والعمرة خطوة خطوة مرتبة في الرسالة حسب ترتيبها في العمل والأداء ، جامعة بين ، الأركان والواجبات والسنن والممنوعات ليكون ذلك أيسر وأوفق وأجمع للفكر وأبعد عن التشتت والفصل بين ، حركة العلم وحركة العمل ، ولذلك اخترت دخول مكة بعد الإحرام ، لأنها المقصودة للجميع حينئذ حيث تبدأ المناسك العملية بعد الانتهاء من نسك الإحرام ومتطلباته .
مكة لها في القرآن أربعة أسماء : مكة ، وبكة ، وأم القرى ، والبلد الأمين ..
قال تعالى
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة
وقال تعالى
إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين
وقال تعالى
ولتنذر أم القرى ومن حولها
وقال تعالى
وهذا البلد الأمين
وتقع مكة ببطن واد محاط بسور جبلي ، طولها من الشمال إلى الجنوب ثلاثة كيلو مترات ، وعرضها من الشرق إلى الغرب نصف ذلك .
ومداخلها أربعة : في الشمال الشرقي الطريق إلى منى ، وفي الجنوب الطريق إلى اليمن ، وفي الشمال الغربي الطريق إلى وادي فاطمة ، وفي الغرب الطريق إلى جدة .
وجبالها تكون سلسلتين ، إحداهما شمالية وتتكون من خمسة جبال والثانية جنوبية ، وتتكون من خمسة أيضا
إذا أراد المحرم دخول مكة شرع له ثمانية أمور
ومنها يخرج إلى عرفات ؛ لأن فوات هذه السنة يترتب عليه تفويت سنن كثيرة ، منها هذه السنة ومنها طواف القدوم ، ومنها تعجيل السعي ، ومنها كثرة الصلاة بالمسجد الحرام ، ومنها حضور خطبة يوم السابع بمكة ، ومنها المبيت بمنى ليلة عرفات ، وحضور الصلوات بها ، وغير ذلك ، فيراعى ذلك ما أمكن ليستطيع الحاج الاستفادة بجميع السنن التي فعلها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعض الفقهاء يرى بعضها واجبا وليس سنة ، وله دخول مكة ليلا أو نهارا .
يستحب أن يغتسل المحرم ، رجلا كان أو امرأة ، ولو حائضا أو نفساء عند غير المالكية ، أما المالكية ، فلا يرون استحباب الغسل للمرأة الحائض أو النفساء . ويكون الغسل بنية دخول مكة ، والأفضل أن يكون الاغتسال ذي طوى في أسفل مكة في صوب مسجد عائشة ويسمى في وقتنا بالزاهر).. وهذا إن كان طريقه عليه ، وإلا فليغتسل في أي مكان ، وبعضهم قال : يستحب المبيت بذي طوى قبل دخول مكة .
يستحب دخول مكة من الثنية العليا التي تشرف على الحجون وتسمى ثنية (كداء) بفتح الكاف والمد ، وإذا خرج راجعا إلى بلده خرج من ثنية (كدا) بضم الكاف والقصر والتنوين ، وهي بأسفل مكة بقرب جبل قعيقان ، وقال بعضهم : يستحب الخروج إلى عرفات من هذه الثنية أيضا - ثنية كدا - .
(هذا) والمذهب الصحيح الذي عليه المحققون أن الدخول من الثنية العليا مستحب لكل داخل سواء كانت جهة طريقه أم لم تكن ، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منها ولم تكن في طريقه .
ينبغي لداخل مكة أن يراعي كثرة الناس وزحمتهم ، وأن الزحمة ضرورة يحتمها الموقف فعليه أن يرحم الصغير والمسن والمرأة من مزاحمته وإيذائه ، ويلاحظ بقلبه جلال البقعة التي هو فيها والتي هو متوجه إليها ، ويعذر من راحمه ، وليتذكر أن الرحمة لم تنزع إلا من شقي ، ولو كان من الحجاج ، ويدخل خاشع القلب خاضع النفس ذليلا لربه ، لأنه في حرمه ، ومتوجه إلى بيته ، ويدعو بما شاء ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند دخوله : اللهم : البلد بلدك ، والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك ، وأوم طاعتك ، متبعا لأمرك ، راضيا بقدرك ، مبلغا لأمرك ، أسألك مسألة المضطر إليك ، المشفق من عذابك ، أن تتقبلني ، وتتجاوز عني برحمتك ، وأن تدخلني جنتك
يستحب لداخل مكة أن يبدأ بالمسجد الحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به ، ولم يشتغل عنه بشيء حتى دخله فبدأ بالبيت فطاف به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة ، وبعد الطواف يعمل المطلوب من تأجير مسكن وغيره ، والمرأة الفاتنة تنتظر إلى الليل إن تيسر .
يستحب أن يدخل إلى الكعبة من باب بني شيبة ، ويسمى (باب السلام) ويكون متواضعا خاشعا ملبيا مقدما رجله اليمنى قائلا : أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم باسم الله والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك .
إن الداخل إلى البيت الحرام إما أن يكون مفردا يريد الحج فقط ابتداء ، وإما أن يكون قارنا : يريد الحج والعمرة متصلين ، بإحرام واحد ، وإما أن يكون متمتعا : يؤدي العمرة أولا ، ثم يتحلل ، ثم يؤدي الحج .
فإن كان مفردا أو قارنا فعليه أن يطوف بالبيت بنية طواف القدوم وهو سنة أو واجب كما سيأتي ، وإن كان متمتعا فمعناه أنه محرم بالعمرة وحدها ، فعليه أن يطوف بنية (طواف العمرة) ويسعى بعد الطواف بنية (سعي العمرة) ولو طاف المعتمر بنية طواف القدوم وقع عن طواف العمرة ،
يستحب لمن دخل المسجد الحرام إذا وقع بصره على الكعبة أن يرفع يديه ويقول : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة ، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا ويضيف إليه : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام ويدعو بما أحب من مهمات الدنيا والآخرة .
وإذا دخل المسجد ينبغي ألا يشتغل بصلاة تحية المسجد ولا غيرها ، بل يقصد الحجر الأسود ، ويبدأ بطواف القدوم ، وهو تحية المسجد الحرام ، والطواف مستحب لكل داخل محرما كان أو غير محرم ، إلا إذا دخل وقد خاف فوت الصلاة المكتوبة ، أو فوت سنة راتبة ، أو فوت صلاة الجماعة في المكتوبة ولو كان وقتها واسعا ، ولو دخل فوجد زحاما شديدا ، أو خاف مزاحمة النساء في وقت مخصص لهن ، أو منع من الطواف لعارض ، فإنه يبدأ بصلاة تحية المسجد .
(هذا) ومن لم يدخل مكة قبل الوقوف بعرفة فليس عليه طواف القدوم ، بل الطواف الذي يفعله هو طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفة ، فلو نوى به القدوم وقع عن طواف الإفاضة إذا كان في وقته