صدقة التطوع مستحبة في جميع الأوقات، لقول الله تعال : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وأمر الله سبحانه بالصدقة في آيات كثيرة.
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطعم جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ، سقاه الله عز وجل يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كسا مؤمناً عارياً، كساه الله من خُضْر الجنة". رواه أبو داود والترمذي.
وقد تصبح الصدقة حراماً: كأن يعلم أن آخذها يصرفها في معصية.
وقد تجب الصدقة: كأن وجد مضطراً، ومعه ما يطعمه فاضلاً عن حاجته.
2- الإسرار بها ودفعها في رمضان:
صدقة السر أفضل من صدقة العلانية أو الجهر، فالأفضل الإسرار بصدقة التطوع بخلاف الزكاة، لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ} [البقرة: 271]، ولما في الصحيحين عن أبي هريرة في خبر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
ودفعها في رمضان أفضل من دفعها في غيره، لما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان" ولأن الفقراء فيه يضعفون ويعجزون عن الكسب بسبب الصوم، ولأن الحسنات تضاعف فيه.
وتتأكد في الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة وأيام العيد، وكذا في الأماكن الشريفة كمكة والمدينة، وفي الجهاد والحج، وعند الأمور المهمة كالكسوف والمرض والسفر.
وتتأكد الصدقة بالماء إن كان الاحتياج إليه أكثر من الطعام، لخبر أبي داود: "أي الصدقة أفضل؟ قال: الماء"، فإن كانت الحاجة إلى الطعام فهو أفضل.
ويستحسن الإكثار من الصدقة في أوقات الحاجات، لقوله تعالى: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة". ويسن التصدق عقب كل معصية، وتسن التسمية عند التصدق، لأن الصدقة عبادة.
إن كانة الفطر: ذهب الحنفية إلى أن زكايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقاً من نفسه بحسن التوكل، والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فهو حسن، وإلا فلا يجوز بل يكره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: "أي الصدقة أفضل؟ قال: سرّ إلى فقير أو جَهْد من مُقلّ". رواه أحمد والطبراني.
الأولى أن يتصدق المرء من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام، وإن تصدق بما ينقص من مؤنة من يمونه أثم، لقوله صلى الله عليه وسلم في الأولى: "خير الصدقة: ما كان عن ظهر غنى، وابداً بمن تعول". متفق عليه. أي عن غنى النفس وصبرها على الفقر، ولقوله عليه السلام في حالة الإثم : "كفى بالمرء إثماً أن يضيع مَنْ يقوت(1)". رواه أبو داود والنسائي.
5- استحباب التصدق بما فضل عن الحاجة:
يستحب أن يتصدق بما فضل عما يلزمه من النفقات، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره". رواه مسلم.
6- التصدق بما تيسر:
يستحب أن يتصدق بما تيسر، ولا يستقله، ولا يمتنع من الصدقة به لقلته وحقارته، فإن قليل الخير كثير عند الله تعالى، وما قبله الله تعالى وبارك فيه، فليس هو بقليل، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}، وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة: "يا نساء المسلمات لا تحقرِنَّ جارة لجارتها ولو فِرْسن شاة" والفرسن من البعير والشاة كالحافر من غيرهما.
يستحب أن يخص بصدقته الصلحاء، وأهل الخير والمرؤءات والحاجات.
أ- الأقارب: الأفضل أن يخص بالصدقة الأقارب، ثم الجيران، فهم أولى من الأجانب، لقوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] ولقوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم". متفق عليه، ولقوله عليه السلام: "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة". رواه الترمذي وابن ماجه. وعن عائشة قالت: "إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى أقربهما منك باباً". رواه البخاري. وهكذا الحكم في الزكوات والكفارات والنذور والوصايا والأوقاف وسائر جهات البر، يستحب فيها تقديم الأقارب إذا كانوا مستحقين. ويستحب أن يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة ليتألف قلبه ويرده إلى المحبة والألفة.
ب- صاحب الحاجة الشديدة: تستحب الصدقة على من اشتدت حاجته لقوله الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16].
جـ- الغني والهاشمي والكافر والفاسق: تحل الصدقة لغني ولو من ذوي القربى، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين عن أبي هريرة صدقة رجل على سارق وزانية وغني،
(1) القوت : ما يقوم به بدن الإنسان من طعام.
وفيه: "أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر، وينفق مما آتاه الله تعالى". لكن يستحب للغني التنزه عنها، ويكره له التعرض لأخذها.
وأما الصدقة على الهاشمي: فقد عرفنا في الزكاة جوازها في رأي أكثرية العلماء، فهي تحل للهاشميين دونه صلى الله عليه وسلم تشريفاً له.
وتحل الصدقة أيضاً على فاسق، وكافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي، ذمي أو حربي، لقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] ومعلوم أن الأسير حربي. ولقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة فيمن سقى الكلب العطشان: "في كل كبد رطبة أجر" وأما حديث: "لا يأكل طعامك إلا تقي" فأريد به الأولى.
د- الصدقة على الميت: ينفع الميت صدقة عليه من أكل أو شرب أو كسوة أو درهم أو دينار، وينفعه أيضاً دعاء له بنحو: "اللهم اغفر له" "اللهم ارحمه" بالإجماع، ولا يتصدق عليه بالأعمال البدنية كأن تهب له ثواب صلاة أو صوم، وأما قراءة القرآن كالفاتحة، فقال مالك والشافعي: لا ينتفع بها، ورأي الأكثرين: أنه ينتفع.
9- صدقة المديون ومن عليه نفقة:
يستحب ألا يتصدق من عليه دين، أو من تلزمه نفقة لنفسه أو عياله، حتى يؤدي ما عليه. والأصح عند الشافعية تحريم الصدقة من مدين لا يجد لدينه وفاء، أو من ملزم بنفقة بما يحتاج إليه لنفقته أو نفقة من عليه نفقته في يومه وليلته، لأنه حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع، فيقدم الدين لأن أداءه واجب، فيتقدم على المسنون، فإن رجا له وفاء من جهة أخرى ظاهرة، فلا بأس بالتصدق به، إلا إن حصل بذلك تأخير، وكان الواجب وفاء الدين على الفور بمطالبة أو غيرها.
الأفضل أن ينوي بالصدقة النافلة جميع المؤمنين والمؤمنات، لأنها تصل إليهم، ولا ينقص من أجره شيء.
11- التصدق من المال الحرام:
قال الحنفية: إذا تصدق بالمال الحرام القطعي، أو بنى من الحرام بعينه مسجداً ونحوه وما يرجو به التقرب، مع رجاء الثواب الناشئ عن استحلاله، كفر، لأن استحلال المعصية كفر، والحرام لا ثواب فيه. ولا يكفر إذا أخذ ظلماً من إنسان مائة ومن آخر مائة، وخلطهما، ثم تصدق به، لأنه ليس بحرام بعينه قطعاً لاستهلاكه بالخلط، ولأنه ملكه بالخلط، ثم يضمنه. والخلاصة: أن شرط الكفر شيئان: قطعية الدليل، وكونه حراماً لعينه مثل لحم الميتة، أما مال الغير فهو حرام لغيره، لا لعينه، فلا يكون أخذه عند الحنفية حراماً محضاً، وإن كان لا يباح الانتفاع به قبل أداء البدل.
12- ما يحرم وما يكره وما يستحب في الصدقة:
يحرم السؤال على الغني بمال أو كسب، ويحرم عليه إظهار الفاقة وإن لم يسأل، وعلى هذا المعنى الأخير حملوا خبر الذي مات من أهل الصدقة، وترك دينارين، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيَّتان من نار".
والمن بالصدقة يحبطها، أي يمنع ثوابها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264].
ويكره تعمد الصدقة بالرديء، لقوله الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267]، ويستحب تعمد أجود ماله وأحبه إليه، لقوله سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
وتكره الصدقة بما فيه شبهة، ويستحب أن يختار أجل ماله وأبعده عن الحرام والشبهة.
ويستحب أن تكون الصدقة مقرونة بطيب نفس وبشر، لما فيه من تكثير الأجر وجبر القلب. وتسن التسمية عند الرفع إلى المتصدق عليه، لأنها عبادة، قال العلماء: ولا يطمع المتصدق في الدعاء من المتصدق عليه، لئلا ينقص أجر الصدقة، فإن دعا له استحب أن يرد عليه مثلها لتسلم له صدقته.
ويكره لمن تصدق بصدقة أو دفع لغيره زكاة أو كفارة أو عن نذر وغيرها من وجوه الطاعات: أن يأخذ صدقته أو يتملك ممن أعطاه ببيع أو معاوضة أو هبة، أو غيره، ولا يكره تملكه منه بالإرث، ولا يكره أيضاً أن يتملكه عن غيره إذا انتقل إليه.
ويلاحظ أن من دفع إلى وكيله أو ولده أو غلامه أو غيرهم شيئاً يعطيه لسائل أو غيره صدقة تطوع، لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه، فإن لم يدفعه إلى من عينه، استحب له ألا يعود فيه، بل يتصدق به على غيره، فإن استرده وتصرف فيه، جاز، لأنه باق على ملكه.
ويكره للإنسان أن يسأل بوجه الله غير الجنة، وأن يمنع من سأل بالله، وتشفع به، لخبر "لا يسأل بوجه الله إلا اذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه" رواه النسائي. أي جازيتموه