لاشك أن الغرور توأم الكبر، وهو مرض عضال يصيب القلب، ويترك على السلوك علامات وآثار، وإن لم ينتبه إليه المسلم ، مبكراً، فإنه يوشك أن يقضي عليه، ويجلب له بغض الناس في العاجلة وعذاب الله في الآخرة .
وقـد نهى سبحانه عن مدح النفس وتزكيتها والثناء عليها، فقال تعالى: "فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ" [النجم: 32]، كما نهى سبحانه عن المن بالصدقة فقال: "لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى" [البقرة: 264]، والمن يحصل نتيجة استعظام الصدقة، واستعظام العمل هو العُجب.
وحذرنا ربنا عز وجل من الغرور والعجب، فقال لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ" [المدثر: 6]. قال الحسن البصري: (لا تمنن بعملك على ربـك تسـتـكثره)، فإنه مهما كُثرَ العمل ففضل الله أعظم، وحقه أكبر.
وقد عد صلى الله عليه وسلم ثلاثاً مهلكات، فقال: (ثلاث مهلكات) ثم ذكرهن فقال: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه). و الإعجاب بالنفس شر كبير، قال ابن المبارك: (لا أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب). وقال ابن مسعود ـ رضـي الله عـنـه ـ: (الهلاك في شيئين: العجب والقنوط).
والغرور والعجب أنواع كثيرة منها على سبيل المثال:-
1- غرور الشكل والهيئة: فقد يرزق الله عبداً شكلاً حسنا وهيئة طيبة ، فيبدو إذا مشى بين الناس مغرورا بهيئته، (بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) وفي رواية: (قد أعجبته جمته وبرداه).
2- غرور العلم والحفظ: وهناك من رزقه الله علماً، أو أكرمه بحفظ كتابه الكريم، فيكون العلم والقرآن باب فتنة له، وما لم يكن مسلما حقا، مخلصاً في قوله وعلمه، فإن يكون عرضة لأن يلعب الشيطان برأسه، ليبدد عليه ما جمع من علم، وما حفظ من قرآن.
3- غرور المعاصي: فقد يكون العبد مسرفاً على نفسه في المعاصي والذنوب، لا يخجل من ربه، و لا يستحي من خالقه، ويمهله الله ليعود أو يرجع، لكن الشيطان يرفض إلا أن يُعَصْيَه على ربه، فتراه مغتراً بذنوبه، متجرئاً على ربه، ويظل مغرورا بذنوبه حتى يفيق إلى رشده وإيمانه أو أن يباغته الموت، ليكتب له نهاية سيئة.
4- وهناك صنف رابع من الغرور ألا وهو غرور الطاعة والتوبة، وهو- كما قال غير واحد من العلماء – من أخطر أنواع الغرور، ذلك أن العبد إذا فتح الله له بابا للطاعة، فإنه يظن أنه – بعمله– فقط قد استحق الدرجات العليا، وقد أصبح من أهل الجنة، أو انه قد أَمِنَ مكر الله عز وجل.
لعل من المفيد ونحن نتحدث عن التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أن نشير إلى أن هناك ثلاثة قوانين للتوبة والرجوع إلى الله وهي:
1- أن العاصي- مهما بلغت معاصيه- يجب عليه ألا ييأس أو يقنط من رحمة الله.
2- أن الطائع – مهما بلغت طاعاته- يجب عليه ألا يغتر بتوبته، وألا يأمن مكر الله.
3- هناك فارق بين خطيئة السر الغير متعدية وبين خطيئة العلم المتعدية للغير في الضرر والإفساد .
أولا : على العاصي ألا يقنط من رحمة الله:
فالقنوط أخو الكفر، قال تعالى: "وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" [يوسف: 8]، وقال: "قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ" [الحجر: 56]، وقال: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر: 53].
وإن من تلبيس إبليس أن يضخم الذنوب أمام الراغب في التوبة ليصرفه عنها، رغم أن إبليس - لعنه الله- هو الذي كان بالأمس القريب يصغر المعصية في عينه ويهون الذنب، ويقول له: هون على نفسك، وماذا يكون ذنبك هذا بجوار ذنوب فلان وفلان؟ إنه ذنب حقير لا إثم عليه، والله غفور رحيم، العبرة بما في قلبك!!.
واليوم.. عندما رأى في عينيه رغبة في العودة إلى الله، وميلا إلى الندم على ما فات، ومعاتبة لنفسه على ما أسرف في حياته، ولوما لها على ما قصر في حق ربه وخالقه، اليوم.. يلبس زي المثبطين والمقنطين ويقول له: تتوب!! بعد ماذا؟!! وهل تقبل توبتك بعدما فعلت كذا وكذا؟! هل نسيت يوم عصيت الله بكذا ؟! هل؟ هل؟ حتى يصرفه عن توبته إن استطاع.
ففي فقه الشيطان: أن صرف الناس عن التوبة وتقنيطهم من رحمة الله عز وجل أولى من جرهم إلى ارتكاب المعاصي؛ لأن مرتكب المعصية (العاصي) قد يتوب بين عشية وضحاها، أما القانط من رحمة ربه (الآيس) فإنه عن الرجوع إلى الله أبعد، ولعل هذا مما يجعل العالم الذي يعبد الله على علم وفقه أشد وأعصى على الشيطان من ألف عابد.
فلتحترس أخي التائب (الجديد) العائد إلى الله بعد طول أفول من كيد الشيطان وتسويفه ومكره وتزيينه، حتى لا تقع في حبائله؛ فحصن توبتك بالإخلاص، ومتن رجوعك بالإيمان، ثق بربك يثق بك، ولا تُعِر الشيطان سمعك ولا توله قلبك، هو عدوك فعادِه، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [فاطر: 5-6].
وانتبه من غرور التوبة، وبصفة خاصة في الأيام والشهور الأولى من توبتك؛ لأنك حينئذ تكون أشبه بمريض خرج للتو من غرفة العمليات بعدما أجريت له جراحة استئصال، وأهل العلم والخبرة يقولون: إن هذه الفترة هي أقرب الفترات للتلوث بميكروب المعاصي، ومن ثم فأنت بحاجة إلى نطاسي بارع وبرنامج علاجي ناجع، وصبر جميل عن العودة إلى المعاصي بزيادة جرعة الإيمان والحذر من الشيطان.
ثانيا : بين خطيئة السر وخطيئة العلن ..
فمن صحة التوبة والرجوع إلى الله معنى يتلخص في أن من أذنب ذنوب السر تكفيه توبة السر، ولكن من أذنب ذنوب العلن وجاهر بها وتفاخر بين الناس وأضر بها وأفسد فعليه أن يصلح فيما أفسده .
وحتى تتضح هذه النقطة فإنني أعمد إلى ضرب الأمثلة ليتضح الأمر:
فالكاتب أو المؤلف أو المفكر أو العالم الذي أفسد فيما كتب وجاهر بمعاصيه في كتبه ومؤلفاته مثلا واتبعه البعض في ذلك وقد لوث فهمهم وعقيدتهم إذا ما أراد أن يتوب وأن يرجع إلى الله؛ فإن عليه أن يعلن توبته، ويصحح مواقفه، ويجاهر بالتوبة كما كان يجاهر بالمعصية؛ فإن في ذلك تكفيرا له عن ذنوبه، وربما ردَّ بإعلان توبته أولئك الذين تبنوا فكرته، وانتهجوا نهجه، قال صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"، وقال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"، فليعلن توبته، ولنا في هديه صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل.
وقد سجل لنا التاريخ أسماء علماء ومفكرين كبار نتفاخر بهم اليوم، كانوا بالأمس القريب أعداء الإسلام، فلما مَنَّ الله عليهم بتوبته، وفتح لهم أبواب رحمته وهداهم إلى الحق، سارعوا بإعادة طباعة كتبهم التي كانوا يحادون الله فيها، وصححوا أمرهم، ونقدوا أنفسهم، وعدلوا مسارهم، ورجعوا إلى الحق والصواب، ولم يمنعهم كبرهم أن يعلنوها لله خالصة: "كنا في الضلالة فمد الله لنا أطواق الهداية"، نعم تحولوا بفكرهم من ضيق العلمانية والماركسية والشيوعية واللينينية إلى سعة الإسلام، وأعلنوها بلا خجل: عدنا إلى الله.
وكم تركت التوبة الصادقة الشرعية الثابتة لبعض من اشتغل بالفنون ممن أسرفوا على أنفسهم كثيرا، وافتتن الناس بهم في حياة الناس من أثر! وكم أحيت توبتهم في قلوب الناس من أمل! فـ"لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار".
ثالثا : على الطائع – مهما بلغت طاعاته- ألا يغتر بها:
وإن مما ابتلي به الراغبون في التوبة والعائدون إلى الله في أزماننا مرضا اسمه "غرور التوبة"، وهو من تلبيس إبليس للمسلم؛ فما أن يهتدي المسلم إلى طريق الله عز وجل، وما أن تعرف أقدامه الطريق إلى بيت الله، فيصلي الخمس في الجماعة (الأولى)، ويحرص على أداء نوافل الصلاة، ونوافل الصيام (الاثنين والخميس من كل أسبوع، أيام 13، 14، 15 من كل شهر عربي)، ويحرص على السنن الظاهرة... إلخ، حتى يتسلل الغرور (غرور التوبة والطاعة) إلى قلبه.
فالتائب- العائد إلى الله- في أول عهده بالتوبة وفرحته بها يكون أقرب ما يكون من حافة الخطر؛ حيث يتربص له الشيطان ليفسد عليه توبته، فيزينها له، ويجملها في قلبه ويجعله يغتر بها.. نعم فإن غرور التوبة يشبه غرور التمادي في المعاصي؛ فكلاهما غرور، وكلاهما يقف خلفه الشيطان.
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" [النور: 21]، " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا" [فاطر: 6]، بيد أن غرور التوبة أخطر؛ لأنه غرور قد لا يلحظه من الناس إلا نافذو البصيرة من أهل الإيمان من المربين الذين يعرفون الفارق الدقيق بين التوبة الصادقة والتوبة الزائفة.
فليحذر العائدون إلى الله من تلبيس إبليس بتقنيطهم من رحمة الله، وليعلموا أن "الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، و"إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها"، و{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ} [النساء: 48]، و"للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم بضالته فِي فلاة من الأرض عليها طعامه وشرابه".
ولينتبه أولئك العائدون إلى الله من الوقوع في حبائل الشيطان بالاغترار بتوبتهم، بالاطمئنان إلى الآخرة والأمن من مكر الله عز وجل، وليتعظ من مقولة الصديق أبي بكر: "والله لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله"؛ لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، ولا يستحِ أولئك الذي كانوا يجاهرون الله بالمعصية أن يعلنوا توبتهم لله بلا مواربة، فـ"الرجوع إلى الحق فضيلة".
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم