الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أيها الإخوة.. لدي سؤال:
لماذا غاب الندم؟
لماذا غاب هذا الإحساس المهم- الذي هو من شروط التوبة الصحيحة- عن كثير منا؟ لماذا؟
إنها مشكلة كثير من الإخوة ، وإن لم يحسنوا أن ينطقوا بها.. لكن أسئلتهم في الغالب تشير إلى غياب هذا الحس الهام..
يقول أحدهم: "أتوب وأعود. فما الحل؟ "
ويقول آخر: "أصر على الصغائر. فما الحل؟ "
وتقول أخرى: "أفكر في خلع الحجاب. فما الحل؟"
ويقول آخر:" يراودني الإحساس للتقهقر. فما الحل؟"
إن المشكلة الحقيقية لكل هذه الحالات: غياب الندم على ما فات من معاصٍ وتقصير..
إنه البرود.
والمطلوب إذن تسخين القلوب ، والمطلوب إذن دموع ساخنة تذيب هذا الجليد من غياب الندم..
أيها الإخوة.. ذكرتُ في كتاب (كيف أتوب؟) أن الندم يحصل بمطالعة الجناية، وهذا يكون بــ:
1- تعظيم الحق جل جلاله ومعرفة مقامه، ومعرفة ذاته وصفاته وتعبّده بها.
2- و معرفة النفس وإنزالها منزلتها، ومعرفة أن سبب كل شر يقع فيه ابن آدم من نفسه.
3- و تصديق الوعيد.
تعظيم الله - معرفة النفس - تصديق الوعيد
تعالوا هنا، نتعرض لأول وأهم هذه الثلاثة؛
( 1 ) تعظيم الحق جل جلاله
فإذا أردت أن تعرف عظم الذنب، فانظر إلى عظمة من أذنبت في حقه.
أكبر آفة وقع فيها أهل عصرنا ،وأكبر معصية ارتكبتها قلوب أمتنا: أن زالت هيبة الله من القلوب.
هذه هي المأساة..
إننا صرنا نخاف من البشر أكثر من خوفنا من الله، ونستحي من البشر أعظم من حيائنا من الله، ونرجو البشرأعظم من رجائنا في وجه الله، لذا لما هان الله علينا هُنّا عليه والجزاء من جنس العمل.
أيها الإخوة..
إن تعظيم الحق ألا يرى في قلبك سواه. ومن كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته،لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه، فينبغي أن يعظم الله في قلبك..
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
"واستجلاب تعظيم الرب.. أن تعرف الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يتعرف إلى العباد في قرآنه،وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.. بصفات ألوهيته تارة.. وبصفات ربوبيته تارة أخرى..
فمعرفة صفات الإلهية توجب للعبد المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح والسرور به..هذا مما يوجبه النظر في صفات الألوهية.
و مَثـل الصفات التي توجب عبادته جل جلاله؛ صفات الأمر والنهي، صفات العهد والوصية، صفات إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع، هذه تنبعث منها قوة الامتثال والتنفيذ، والتبليغ لها والتواصي بها، والتصديق بالخبر والامتثال بالطلب، والاجتناب للنهي..
و الصفات التي تجلب التعبد أن يسر العبد بخدمته، وينافس في قربه، ويتردد إليه بطاعته، ويلهج لسانه بذكره، ويفر من الخلق إليه، ويصير الله وحده هو همه دون سواه.
أما شهود صفات الربوبية.. فإنها توجب التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والانكسار له، وكمال ذلك [وهو الشاهد الذي أرجو أن يُتَوَصَّل إليه] :
أن تشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته..
أن تشهد حمده في ملكه.. وعزه في عفوه.. وحكمته في قضائه وقدره.. ونعمته في بلائه.. تشهد عطاءه في منعه، بره وإحسانه ورحمته في قيوميته.. أن تشهد عدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته.. أن تشهد ستره وتجاوزه، وحكمته ونعمته في أمره ونهيه.. أن تشهد عزه في رضاه..وغضبه وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله.. وغناه في إعراضه..
أن تعرف الله. فإذا عرفته عظم في قلبك".
ثم يعلق ابن القيم فيقول: "من أعظم الظلم والجهل: أن تطلب التوقير والتعظيم لك من الناس.. وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره!"
وعلينا أن ننتبه إلى هذه الفائدة الغالية:
فإنك توقر المخلوق ،وتجله أن يراك في حال، ثم لا توقر الله ،فلا تبالي أن يراك سبحانه وتعالى عليها.. أيحب أحدكم أن يراه الناس وهو يزني؟ إذن فكيف ترضى أن يراك الله على هذه الحالة؟ ألا تستحي منه؟
وصدق الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [ النساء: 108، 109]
والله علمنا؛ قال سبحانه لنا لينبهنا إلى تلك القضية أتم تنبيه. لفت نظرنا إلى شيء نستشعره ، شيء موجود عندنا وجوداً ماديا، لأننا ننسى استشعار نظر الله ومراقبته.. فقال جل جلاله:
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [ فصلت : 22-24] .
لما كانت نفس الناس ضعيفة ،واستشعارهم معية الله صعباً، ذكرهم الله بأن معهم شهوداً : سمعكم ، وأبصاركم ، وأيديكم ، وأرجلكم ، وبطونكم ، وفروجكم ..
نعم ستشهد عليك . . فإذا أردت أن تعصي الله، فاذكر أن الله معك يسمعك ويراك: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ المجادلة : 7] .
فإن لم تستشعر تلك القضية (وعجز قلبك عن استحضار سمع الله وبصره ، فتخشاه ، فتخافه ؛ تخشى بطشه ، تخاف انتقامه ، تستحي أن يراك على العيب.عليك رقيب . . وهو الذي يسترك . . فوقك قاهر . . وعليك قادر . . ومنك قريب، يستطيع أن ينتقم ويأخذ حقه ،ولكنه الحليم . . والحيي الستير . . جل جلاله . . وعجز قلبك عن استحضار تلك المعية . . فلم تستطع أن تختفي من الله . . ولا أن تستتر منه . .) فتذكر أن معك عيناً ستشهد عليك . . وأذناً ستشهد عليك . . ويداً ستشهد عليك . . ورجلاً ستشهد عليك . . فإنك إن استطعت أن تتستر وتختبئ . . فتختبئ من أعضائك، وتتوارى منها ، فافعل .. فإن لم تقدر فاترك المعصية خوفاً من ذي الجلال جل جلاله . .
يا من يعاني مأساة الذنوب اختبئ من الله فلا يراك عليها . .
فإن نسيت نظر الله وغلبتك شهوتك ، فأعمت عين بصيرتك . . فاختبئ من يدك التي تعصي . .
إذا تحركت عينك للنظر ،فتذكر أنها ستشهد عليك يوم القيامة . .
وإذا تحركت رجلك لتعصي، فاعلم أنها وكل جوارحك عليك شهود يوم تلقى الله عز وجل . .
يا من يؤذي الناس بلسانه ، تذكر أن الله سميع ؛ يسمعك وسيحاسبك . . فإن نسيت الله ، فتذكر شهادة الجوارح عليك ، تذكر شهادة لسانك وأذنيك ..
هنا إذا كملت عظمة الله في القلب منعته من المعصية.
إنك تريد أن يوقرك الناس ،وأنت لا توقر الله . كيف ذلك؟ .. قال تعالى : {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [ نوح : 13] أي : لا تعاملونه معاملة من توقرونه. والتوقير: هو التعظيم ، ومنه قوله تعالى : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } [ الفتح : الآية 9] .
قال الحسن في تفسير قوله تعالى : {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [ نوح :13] :"أي مالكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرونه".
قال مجاهد : "لا تبالون عظمة ربكم" .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :" لا ترون لله طاعة".
قال عبد الله بن عباس : "أي لا تعرفون عظمة الله" .
هذه المعاني ترجع كلها إلى معنى واحد؛ أنه لو عظموا الله وعرفوه . . أطاعوه وشكروه . . ولم يعصوه .
فطاعته سبحانه . . واجتناب معاصيه . . والحياء منه . . بحسب وقاره في القلب . .
فما هي علامات توقير الله؟
من علامات توقير الله سبحانه وتعالى :
(1) ألا تذكر اسمه مع المحقرات :
قال بعض السلف :" ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أن يذكره عند ما يستحي من ذكره" . . فانظر إلى مدى توقير السلف لربهم . . كانوا يستنزهون أن يوضع اسم الله بجوار ما يستقبح ذكره . . فيقرن اسمه به . . كأن يقول الرجل :" قبح الله الكلب والخنزير" . . فيوقرون الله أن يوضع اسمه مع هذه الحيوانات .
(2) ألا تنسب الشر إليه :
إن من عقيدتنا أن الخير والشر من الله ، لكننا لا ننسب الشر إلى الله تأدباً. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لبيك وسعديك، الخير كله في يديك . . والشر ليس إليك" [مسلم].
وقال إبراهيم عليه السلام : { هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء : 79، 80] فلم يقل : وإذا أمرضني .. وإنما نسب الشر إلى نفسه تأدباً مع الله .
وقال مؤمنو الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [ الجن : 10]. فعند الرشد ذكروا ربهم . . وعند الشر بنوا الفعل للمجهول .
لكن أهل عصرنا على العكس . . تجد الرجل منهم يقول :" يا كاسر كل سليم يارب"!
أعوذ بالله! من إذاً الذي يجبر المكسور؟ وكيف ينسب الشر إلى الله؟
وتجد من يقول: "الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه"!
سبحان الله! لماذا تذكر الله بالمكروه؟
إننا لا نناقش هنا حرمة هذه الكلمة من حلها، ولكننا نناقش السبب الذي من أجله نسبت الشر إلى الله . . وكيف أن السلف كانوا يجلونه ويبجلونه لدرجة أنهم لا يذكرون بجوار اسم الجلالة أي لفظ يرون أنه لا يناسب عظمته عز وجل . . هذا وإن كان الخير والشر منه سبحانه جل وعلا .
(3) من وقاره : ألا تعدل به شيئاً من خلقه لا في اللفظ ولا في الفعل :
فلا تقل : "ما شاء الله وشئت" ، وهذا لأنه عندما قالها رجل لرسول الله، قال صلى الله عليه وسلم : "أجعلتني لله ندا؟" [البخاري في "الأدب المفرد"، وابن ماجة، وصححه الألباني في "السلسلة"]
(4) من توقيره جل وعلا ألا تشرك معه شيئاً في الحب والتعظيم والإجلال :
قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165] . سماهم مشركين ،كما في الطاعة ؛ فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله !
لا . وإنما طاعة الله مطلقة في كل شيء . وطاعة المخلوق مقيدة بالمعروف، فالأب والأم والزوج والزوجة ومديرك في العمل . . العرف والتقاليد والمجتمع . . طاعة كل هؤلاء مقيدة بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
" إنما الطاعة في المعروف " [البخاري]، و" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " [أحمد وقوى إسناده ابن حجر]. فلا تجعل طاعتك لشيء كطاعة الله مهما كلفك ذلك .
(5) من توقيره جل وعلا ألا تجعل له الفضلة :
إن آفة أهل عصرنا – حتى الملتزمين منهم – أنهم يعطون الله الفضلة :
إذا بقي لدى الواحد منهم وقت ليقوم الليل فيه قام ،وإلا تركه ؛ يجعل لله الفضلة . .
إذا بقي عنده وقت للأذكار قالها، وإلا غفل عنها . . وهكذا . .
وقد قال تعالى : {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267] .
هذا ليس من توقير الله ، بل من توقير الله أن تقتطع له من أعز الأوقات وقتاً ، ومن أعز الأموال مالاً،
فينبغي ألا تجعل لله الفضلة في الوقت ، ولا في الجهد ، ولا في الصحة ، ولا في المال ،ولا في الكلام والذكر . . فما الذي يشغلك ؟
أهي الدنيا؟ والله ما خلقـْت لها : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [ الذاريات :56] ..
وقد يندهش بعض الناس حين نقول :" ينبغي أن تكثر من الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتنفل..". فيقول : "أين الوقت الذي يسع كل هذا؟"
سبحان الله.. وهل خلقت لغير هذا؟ ثم إن البركة من الله . .
اللهم بارك لنا في أوقاتنا
والإعانة والتوفيق من الله . إنك إذا ظننت أنك تقوم بحولك وقوتك، فأنت فاشل مخدوع . . أما إذا اعتقدت أنك تستعين بالقوي المتين ، فإنه يعنيك ويقيمك ويبارك لك . .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .
(6) من التوقير : ألا تقدم حق المخلوق على حق الله :
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [ الحجرات : 1] . أي لا تقدموا أمراً بين يدي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا حباً بين يدي حب الله ورسوله ..
لا تجعل أمام الله أحداً، بل الأول هو الله . .
قرأت استطلاعاً للرأي -على طلبة إحدى الجامعات - عن المثل الأعلى والقدوة وأهم المحبوبات، فوجدوا أن الترتيب كما يلي :
1) الفنانين .
2) لاعبي الكرة .
3) المشاهير من الإعلاميين .
4) الله ورسوله .
فإذا كان الله في التفضيل هو الرابع ترتيباً، فأين يكون التوقير؟ أين يكون الحب والإجلال؟
أين يقع الأمر بأن تجعل الله ورسوله قبل كل شيء . . في الطاعة . . الحب . . الخوف . . الرجاء . . التوكل عليه . . و الإنابة إليه . . ؟
(7) من توقيره جل وعلا : أن تختار حده وجنبه وناحيته عن ناحية الناس وجنبهم :
قال تعالى : {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115]
وقال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : الآية 63].
ومعنى : {يحادد} أي : أن يكون الله ورسوله في حد ، والمخلوق في حد آخر .
فكن مع الله يكن معك، بل كن في الحد والناحية التي فيها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن كنت وحدك .
(8) من توقير الله : بذل البدن والقلب والروح في خدمته تعالى :
كان سلفنا رضوان الله عليهم ينتصبون في الخدمة ، فلا يرعون السمع إلا لكلام الله، ولا يسلمون القلب إلا لأوامر الله ، فإذا كانوا في الصلاة فلا تسل عن الخشوع والخضوع ، وإذا كانوا في الصيام فلا تقل عن الإخلاص والورع ،وكذلك في الذكر والصدقة..
أما حالنا فيندى له الجبين خجلاً ؛ فإذا كلمك أحد الناس ، انتبهت إليه بكل جوارحك ، وإذا وقفت بين يدي الله وقفت بجسدك فقط . فعقلك وقلبك في شغل عنه . وتأمل ذلك في صلاتك و صيامك .. وغيرها من العبادات .
(9) من توقير الله : ألا تقدم مراد نفسك على مراد ربك :
مالم توقر الله سقطت من عين الله ؛ فلا يجعل الله لك في قلوب الناس وقاراً ولا هيبة ،بل يُسقط وقارك وهيبتك من قلوبهم . . وإن وقروك مخافة شرك ، فذاك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم .
(10) من وقاره جل وعلا : الحياء من أن يطلع على قلبك ،فيرى منك ما يكره :
فإذا اطلع الله على ما في قلبك ، لا يجد إلا الغرور والعجب ، وحب الدنيا وحب المعاصي، واستثقال الطاعات .. أفلا تستحي من الله؟ . . أخرج هذا من قلبك حتى لا يراه الله فيه .
المصيبة أن يستحي العبد من الناس، ولا يستحي من الله .قال تعالى : { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الأحزاب :37] ،وقال عز من قائل : {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } [النساء : 108]
تجد أحدهم يرى من يوقره ، فيلقي السيجارة من يده ، وينسى أن الله يراه ، يرى من يوقره فيتوارى وهوعلى الذنب ، ويواجه الله بالمعصية بلا حياء . .
(11) من وقاره : أن تستحي منه في الخلوة أعظم مما تستحي من أكابر الناس .
(12) ومن وقاره : أن يكون همك الأول طلب رضا الله .
أخي في الله
إنني أريد منك الآن أن تأتي بورق وقلم ، وتبدأ بكتابة همومك الشاغلة .، وتضعها مرتبة حسب الأولويات ، وأنا أقصد الهم الذي يشغل بالك ، وتجري وتتحرك في نطاق هذا الهم .
أريدك أن تصدق مع الله ، لأنه من السهل أن تكتب أنك تحمل هم الإسلام ، ولا يحضر لك هذا على بال أصلاً .
أريدك أن تنفرد بنفسك ، أن تتقي الله عزوجل ، وتنظر فعلاً ماالذي يهمك . . ؟
هل ستجد ما يهمك هو هم الإسلام . . هم العقيدة . . هم الدين .. أو أننا سنفاجأ بأن الهموم قد تشعبت ؛ هم الوظيفة . . هم الزواج . . طلب الرزق . . التعليم . . إلخ .
لاشك أن هم الإسلام سيأتي ، ولكن ربما في المرتبة الرابعة .. الخامسة.. وربما بعد ذلك .هذا إذا كنا صادقين .
وكل هذا نتيجة لعدم توقير الله في قلبك حق الوقار. وحق التعظيم المطلوب أن يكون طلب رضا الله هو الهم الأول والأوسط والأخير ، بمعنى أن يكون الهم كله في كل مناحي الحياة هو طلب رضا الملك جل جلاله . ومن جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله همه .
فهذا أول ما يصح به مطالعتك لجنايتك بتعظيم الحق وتوقيره . فإذا عرفت الله حق معرفته بأسمائه وصفاته، وعرفت الله حق معرفته بتوحيد ألوهيته وتوحيد ربوبيته .. فإنه حين ذاك يعظم الله في قلبك ، ويقع وقاره في قلبك ؛ فإذا وقرت الله بقلبك ، عظمت عندك مخالفته ، لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من دونه . . قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنعام : 91]
وقال جل وعلا : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67]
وقال سبحانه وتعالى : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 74]
بعد أن تحداهم ربنا جل جلاله في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج: 73]
نعم إنك حين تقدر الله حق قدره ، تعرف أنه أنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، وشرع الشرائع، وخلق الجنة والنار .. أمر أوامر ونهى عن نواهٍ ، وألزم عباده أشياء ، حاكم بالعدل ، قائم بالقسط .. جل جلاله .
حين تقدر الله حق قدره . . تعرف أنه ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا والله خلقها ،وعليه رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها، فبه سبحانه وتعالى وبإعانته وبإحيائه لها تعيش ؛ أي دابة صغرت أم كبرت على ظهر الأرض أو في السماء . . سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت ، جل جلاله، قيوم السموات والأرض ، به يقوم كل شيء، ولا يحتاج إلى شيء،فهو العزيز، وهو الغني . .
حين تعرف الله ،وتقدره حق قدره ، تعلم أنه عز و جل يمسك السموات والأرض أن تزولا ؛ فبه بقاؤهما، وبه دورانهما ، وبه حياة ما فيهما ،والمراد إليه جل جلاله ، فهو الأول والآخر.. : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن : 26، 27] .
إذا كملت عظمة الحق في قلبك ، فإنك تستحي وتخاف أن تعصيه وهو يراك .
فمطالعة الجناية- بكمال عظمة الله في قلبك - أن تعرف عظمة من عصيت ، فتعظم المعصية . .
فمن كملت عظمة الحق تعالى في قلبه ، عظمت عنده مخالفته .
ونضرب لذلك مثالاً :
عن أنس بن مالك قال : { مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر . فقال لها : " اتقي الله واصبري" فقالت :" إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي" ، ولم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فقيل لها :"إنه النبي صلى الله عليه وسلم" ،فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم ،فلم تجد عنده بوابين . . فقالت : "لم أعرفك" . . فقال : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" } [البخاري]
الشاهد : أنها لم تكن تعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فجهلت عليه . قالت :"إليك عني إنك لم تصب بمصيبتي".فلما قيل لها :" إنه النبي صلى الله عليه وسلم" ، علمت أنها أخطأت . فالذي يجهل عظمة الله – ولله المثل الأعلى – يجهل عليه.
فإذا عرفت الله ،عظمت المخالفة عندك . لذلك فإن المؤمن ينظر إلى ذنبه كأنه في أصل جبل يخشى أن يهوي فوق رأسه . .
فاللهم عافنا من الذنوب والمعاصي .. رحماك ربنا، فإنك من تق السيئات فقد رحمته .. فاللهم اجعلنا من المرحومين ..
هذه الأولى . . تعظم الجناية ،ويذوب البرود، ويأتي الندم بمعرفتك الله .
ثانيا يذوب البرود، ويستجلب الندم
بمعرفة النفس ؛ باستقباح ما كنت عليه .
الثانية هي معرفة النفس . هكذا دائما تقترن معرفة الله بمعرفة النفس ليخرُج منهما نوعان جليلان من العبودية :{ محبة الله والإزدراء على النفس} .
يقول ابن القيم :
"لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه . . فوقف بها عند حدها . . ولم تجاوزه إلى ما ليس له . . ولم يتعد طوره . . ولم يقل هذا لي . . وإنما يوقن أنه لله ،وبالله ،ومن الله ".
كثير من الإخوة تجده يتهم نفسه. يقول لنفسه : "عاص ،مذنب ،مقصر،قلبي أشد من الحجر.." ، لكنه في الحقيقة معجب بنفسه ، لا يسعى لإصلاحها . فهذه معرفة لا تفيد .
إنما الذي يعرف نفسه يقف بنفسه عند قدرها ، ولا يتجاوزه إلى ماليس له ، لا يتعدى طوره . .
هذا هو الذي عرف نفسه ، فيتيقن أنه لله،ومن الله، وبالله . . فالله هو المان به ابتداء وإدامة :
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }. [ الطور : 35 ]
{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } [الكهف : 51] .
{ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان : 1 ، 2] .
إنك لم تكن شيئاً . . من نطفة أوجدك بدون استحقاق منك، بل محض كرم وجود منه سبحانه وتعالى .
انتبه
إذا علم العبد هذا وتيقنه - فعلم أن الله هو المان إبتداءً وإدامة بلا استحقاق من العبد ، وبلا سبب منه - حينذاك تذله نعم الله عليه ، وعندئذ يرى أن الفضل كله لله ، وأنه منّ عليه دون أن يستحق أي نعمة ، فيذل لله . وكلما زاده الله نعمة ، ازداد بها ذلاً ، حتى يصير أذل الناس لله . وهذه أعلى درجة من درجات العبودية . . فتذله نعم الله عليه ، وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها ولا منها خيراً البتة . . فلا يرى خيراً أبداً ،وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله، وبالله، ومن الله .
وهذه نتيجة علمين شريفين : {علمه بربه وعلمه بنفسه} ..
علمه بربه . . وبره وغناه . . وجوده وإحسانه ورحمته . . وأن الخير كله في يده ، وهو في ملكه يؤتي منه من يشاء ما يشاء ، ويمنع منه من يشاء ما يشاء . .
ثم علمه بنفسه ، ووقوفه على حدها ، وقدرها ، ونقصها ،وظلمها . .
فالعبد دائم التذكر لهذين الأمرين . . لا ينسب لنفسه فضلاً أبدا . . إذا قرأ القرآن فمن الله . . إذا صام النهار فمحض فضل من الله . يعني فضل توفيق وإعانة وقبول . . إذا قام الليل فبتوفيق الله ،وانظر لعل هناك من هو أعقل منك ،ولم يهده الله، فلم يهتد . .
فاحمد الله . قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف : 17]
يقول ابن القيم :
"فإذا صار هذان العلمان . . ألا وهما : معرفة نفسك ومعرفة ربك صبغة لها لا صبغة على لسانها (فكثير منا يقول بلسانه : "والله أنا مقصر . . مذنب . . عاص . . ادع الله أن يهديني . . أنا أريد أن أتعلم . . أريد أن أقوم الليل" . . هذه صبغة اللسان . . أما صبغة القلب فعلمه بنفسه وعلمه بربه . .) فإذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صبغة على لسانها . . علمت حينذاك أن الحمد كله لله . . والأمر كله لله . . والخير كله لله . . وأنه هو المستحق للحمد والثناء دونها – أي دون نفسه – وأن نفسه هي أولى بالذم والعيب واللوم . . ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله . . فإيصال العبد إلى الله بتحقيق هاتين المعرفتين علماً وعملاً ، وانقطاع العبد عن الله بفوات هذين العلمين علماً وعملاً . وهذا معنى قولهم :
"من عرف نفسه عرف ربه . . فمن عرف نفسه بالجهل عرف الله بالعلم . . ومن عرف نفسه بالظلم عرف الله بالعدل . . ومن عرف نفسه بالعيب عرف ربه بالعز والجمال والكمال. . ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالغنى . . ومن عرف نفسه بالمسكنة عرف ربه بالقوة والملك . . ومن عرف نفسه بالعدم عرف ربه بالجبروت" .
وهكذا تعرف نفسك وتعرف ربك ، فإذا عرف العبد نفسه، وعرف ربه ،كان الله أحب شيء إليه . . وأخوف شيء عنده . . وأرجاه له . . وهذه هي حقيقة العبودية".
يقول ابن الجوزي :
" والله لقد بكيت الليلة مما جنيته على نفسي بيد نفسي ".
نعوذ بالله من أنفسنا . .
واهاً لك يا نفس . النفس وما أدراك ما النفس؛ أمارة بالسوء ، ظلومة جهولة . . الإنسان هذه نفسه ؛ إذا مسه الشر جزوعاً . . وإذا مسه الخير منوعاً .
الإنسان . .
} وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا { [الإسراء : 11] } الْإِنْسَانُ قَتُورًا { [الإسراء : 100]
} وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا{ [الكهف : 54]
هذه نفسك..جهول.. قتور..حين ترى نفسك هكذا -لا تعينك على عمل صالح أبداً- تميل إلى البطالة والكسل ، تميل مع الهوى وطول الأمل ، ترجو الدنيا وتنسى الآخرة . .
هذه نفوسنا والله . . إذا عملنا بعد أن جاهدنا تستأثر نفوسنا بأعمالنا ،فنعملها رياء وسمعة . .
نعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا . .
فإذا عرفت نفسك أنها الحاملة على كل ذنب ، وأنها الدافعة إلى كل معصية ، وأنها المعينة على كل مخزية ، وأنها القائد إلى كل بلية ، وأنها المانع من كل خير وعطية ، استعذت بالله من شرها ،وعرفت أن الخير بيد الله يؤتيه من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ..
نفسك إذا عرفتها ، وعرفت الله ، عظمت المخالفة عندك . .
نفسك.. انفرد بها لتوبخها .
يقول ابن القيم :
"واأسفاه من حياة على غرور . . وموت على غفلة . . ومنقلب إلى حسرة . . ووقوف يوم الحساب بلا حجة . . واأسفاه . . واحسرتاه . ."
ثالثا يذوب البرود، ويستجلب الندم
بتصديق الوعيد
أخي التائب ..
إن كنت تريد الخلاص من مشكلة البرود،فمثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم – اللهم قنا عذاب جهنم – وأنت تبكي أبداً . .
أبوابها مغلقة ، سقوفها مطبقة ، وهي سوداء مظلمة ، لا رفيق تستأنس به ، لا صديق تشكو إليه ، لا نوم يريح ،لا نفس ، ولا موت يقضي على العذاب . .
قال كعب : "والله إن أهل النار يأكلون أيديهم إلى المناكب من الندامة" .
قال الله تعالى : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان : 27] يعني من الندامة على تفريطهم وما يشعرون بذلك .
يا مطروداً عن الباب . .
يا مضروباً بسوط الحجاب . .
لو وفيت بعهودنا . .
ما رميناك بصدودنا ..
لو كاتبتنا بدموع الأسف
لعفونا لك عن كل ما سلف . .
انظر إلى وعيد ربك . . توعد الله أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة واطمأن بها ،وغفل عن آياته ، ولم يرج لقاءه .
فقال الله جل جلاله : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يونس : 7 ، 8] .
وفى اليقين بالوعيد يقول ابن القيم :
" ومدار السعادة وقطب رحاها على التصديق بالوعيد . . فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد خَرِب خراباً لا يرجى معه فلاح البتة "
اليقين إذا عمر به القلب وامتلأ به ، استنار القلب؛ فيرى ويبصر وبذلك يعيش . .
إن أشد ما يعانيه أهل عصرنا عمى القلب - إي والله - . إن أحدنا إذا ضعف بصره شيئا ، حزن حزنا شديدا ، وهرع لمن يصنع له نظارة تكمل ما افتقد من بصره ، وأكثرنا -إلا من رحم الله- قد عمي قلبه ، وهو لا يعلم ، فلا يعمل على أن يعيد بصره قلبه . .
اللهم ارزقنا بصيرة في قلوبنا يا رب .
المقصود أيها الإخوة . . إن معنى التصديق بالوعيد حصول اليقين؛أن يصير هناك يقين في القلب . . فإذا خلا القلب من التصديق بالوعيد . . خرب خرابا لا يرجى معه فلاح البتة .
إن الآيات والنذر تنفع من صدق بالوعيد، وخاف عذاب الآخرة .. هؤلاء هم المصدقون بالإنذارالمنتفعون بالآيات دون من عداهم.
قال تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ } [هود :103] .
قال تعالى :{ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات :45].
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق :45].
فأخبر سبحانه أن أهل النجاة في الدنيا والآخرة هم المصدقون بالوعيد الخائفون ، كما أنهم الممكنون في الأرض .
قالى تعالى : { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ابراهيم :14].
فإن الله تهدد وتوعد {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا { [النساء :123].
فهذه الثلاثة
(تعظيم الله - معرفة النفس - تصديق الوعيد )
تذيب جليد البرود.. وتثمر الندم على ما فات.. وتثبت التائب على توبته بإذن الله
اللهم تب علينا توبة نصوحا
وصلى الله على نبينا محمد وآله
والحمد لله رب العالمين
http://www.yaqob.com/site/docs/articles_view.php?a_id=116&cat_id=10