جمع القرآن و ترتيبه:
كلمة جمع تأتي بمعنيين:
المعنى الأول: بمعنى حفظه و منه يقال جُمَّاع القرآن أي حُفَّاظه، و هذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] ذلك أنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجهد نفسه ويردد وراء جبريل حين كان ينزل عليه بالوحي خشية أن لا يحفظ ما اُنزِلَ عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية تطميناً للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيتاً لفؤاده حيث أوضحت الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بتحفيظه إياه وعدم نسيانه وتفهيمه معناه. المعنى الثاني، جمع القرآن بمعنى كتابته كله في صحيفة واحدة بين دفتي كتاب.
:1- جمع القرآن بمعنى حِفظِه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مولعاً بالوحي، يترقَّب نزوله بشوق، فما من آية تنزل إلا و يدعو ثلة من أصحابه، اختارهم لكتابة الوحي، فيأمرهم بكتابة ما نزل. وكان كلما نزلت آية حُفِظَت في الصدور ووعتها القلوب. وقد اتخذ النبي عليه الصلاة والسلام كتَّاباً للوحي منهم: الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي بن كعب و خالد بن الوليد وغيرهم رضي الله عنهم. وهكذا كان القرآن يُكتَب آية فآية ومَقْطَعَاً فمقطعاً. ولم يكن ترتيبه حسب ترتيب النزول بل كان سيدنا جبريل يقول للمصطفى عليه الصلاة والسلام إنَّ الله يأمرك أن تضع هذه الآية على رأس كذا آية من سورة كذا، فيأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كُتَّاب الوحي بوضع هذه الآية في ذلك المكان. وعندما نزلت آخر آية -على الرأي الذي رجَّحه كثير من علماء الحديث- وهي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ضع هذه الآية على رأس مئتين وواحد وثمانين آية من سورة البقرة بين آيتي الربا والدَّين. وهكذا تكامل نزول القرآن كله، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتسع ليالٍ. وكان صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده من كتاب الله، وقد عرضه كله مرتين عليه في نفس السنة التي توفي فيها صلى الله تعالى عليه و سلم.
إذاً القرآن كان يُكتَب من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يخطّونه على جريد النخل وصفائح الحجارة ورقاع الجلد ... وهذا يدل على مدى المشقة التي كانوا يتحملوها في الكتابة حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إلا بهذه الوسائل. ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي صلى الله عيه وسلم مجتمعة في مصحف عام، ولم يجمع الرسول صلى الله عليه و سلم القرآن بين دفتي كتاب في حياته لأن إمكان نزول الوحي كان مستمراً كما أنَّ إمكان نسخ بعض الآيات كان مستمراً. وقُبِضَ النبي عليه الصلاة و السلام والقرآن محفوظ في الصدور ومكتوب على نحو ما سبق، بالأحرف السبعة التي أُنزِلَ عليها، وهذا ما يسمى بالجمع الأول (حفظاً وكتابةً).
إنَّ ترتيب الآيات و السور في القرآن الكريم توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن جبريل عليه السلام عن رب العزة سبحانه وتعالى وهذا بإجماع العلماء، فقد كان جبريل عليه السلام يتنزل بالآيات ويرشد إلى موضعها من السورة أو الآيات التي نزلت قبل، فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي بكتابتها في موضعها. أخرج الحاكم في المستدرك بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنه قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" (أي كنا نرتب الآيات و السور وفق إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم).