من المتفق عليه أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام منع أصحابه من كتابة غير القرآن في أول عهد النبوة خلال ثلاث سنوات أو تزيد قليلاً، و قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لأصحابه: " لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني فليمحه ". ولكن الأمر اختلف فيما بعد حيث سمح لهم بعد ذلك بالكتابة. لكن تُرى ما الحكمة في ذلك؟.
السبب أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خشي في أول الأمر أن يلتبس على الناس أسلوب القرآن بأسلوب الحديث فيختلط عليهم هذا بذاك فيكتبون حديثاً وهم يظنونه قرآناً أو يكتبون آية و هم يظنونها حديثاً وهذا احتمال وارد جداً، لأن الصحابة لم يتعرفوا بعد على القرآن تعرفاً تاماً ولم يتذوقوه تذوقاً يجعلهم يفرِّقون بينه و بين غيره من أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام.
فلما نزل قسط كبير من القرآن، وتعرفوا إلى أصوله و خصائصه، أذِنَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبوا الحديث. ولقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ بعضاً من الصحابة نهى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وقال إنَّ رسول الله بشر وهو ينطق بالغضب والرضى فلا تكتب إلا القرآن، فذهب وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له: " أُكتُب، فوالله لا يخرج منه -وأشار إلى فمه- إلا الحق ". كما ورد أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " لم يكن أحد من الصحابة أكثر مني حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من شأن عبد الله ابن عمر فإنه كان يكتب ولم أكن أكتب ". إذاً قِسطٌ يسير من حياة النبي عليه الصلاة والسلام بعد البعثة، الحديث لم يكن يُكتَب فيه والقسط الأكبر كان يُكتب على قطع متفرقة من الصحف والأوراق ونحو ذلك ولم يُدَوَّن - أي لم يُجمع بين دفتي كتاب - لا في حياته ولا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام إلا في ما بعد أواخر عصر التابعين - كما سوف نرى - على يد أبي بكر ابن حزم رضي الله عنه ومن ثم باقي العلماء من بعده بأمر من عمر بن عبد العزيز ثم باقي العلماء من بعده كالإمام مالك وأحمد و غيرهم.
فائدة: الفرق بين الكتابة و التدوين:
الكتابة هي أن يكتب الإنسان ما يريد كتابته في أوراق متفرقة دون ضمٍ بين دفتَيّ كتاب، وهذا ما يسمى بالكتابة المطلقة. أما التدوين فهو جمع ما يراد كتابته مرتباً بين غلافين في كتاب واحد.
من هنا كان خلط المستشرقين بين الكتابة والتدوين، لجهلهم باللغة العربية - إن حسنَّا الظن بهم- فقالوا إنَّ الحديث لم يُكتَب إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض عصر الصحابة والحقيقة أنَّ الحديث كُتِبَ ولكنه لم يُدَوَّن أي لم يُجمَع بين دفتي كتاب. ولقد كان عند سيدنا علي رضي الله عنه صحيفة تسمى " الصحيفة الصادقة " ولكنها ليست صحيفة واحدة فقد كان مكتوب فيها مجموعة أحاديث متفرقة، وكثيرون آخرون من الصحابة كانوا يكتبون أيضاً