مذكرات مخبر ...للكاتب ناصر الماغوط
قصة تحكي واقع احدى الدول العربية مع عصابات المخابرات وللأسف....
كلماتي هذه مغمسة بالحزن والدم، لأنها تعبر بصدق عن حالة من الإحباط واليأس يعيشها إنسان عاشق. نعم أنا عاشق. كنت ولا أزال أعشق الحكومة والسلطة، أحبها وأغار عليها وأحرص عليها كما يحرص الرجل الشرقي على زوجته وبناته وكما يحرص الراعي على خرفانه وعنزاته. لذلك جندت نفسي منذ أكثر من ثلاثين عاماً في أحد أجهزتها الأمنية وقضيت كل هذه الفترة أسترق السمع إلى أعدائها من الحاقدين والموتورين وأحلل معاني أقوالهم وأكتب التقارير عنهم في آخر الليل وأرفعها إلى فرع المعلومات الذي كانت له ثقة عمياء بتقاريري التي كانت توصف هناك بأنها لا يقف عليها طبيب لشدة ما كانت تقطر سماً. وهذا الحب والهيام للحكومة كلفني ثمنا غاليا: سمعتي التي أثرت على علاقاتي، وبالتالي على حياتي الاجتماعية التي ضحيت فيها لأجل الحكومة التي أعشقها، الحكومة العربية القومية التي وعدتني بإقامة وطن عربي واحد من المحيط إلى الخليج، شعب واحد دين واحد لغة واحدة ثقافة واحدة تاريخ واحد جغرافيا واحدة وحزب واحد، والناس كلهم من المحيط إلى الخليج صف واحد خلف الحكومة. وانطلاقاً من عشقي وهيامي كنت مستعدا لأن أكتب التقارير الأمنية ولو بأمي التي خلفتني أو أبي الذي رباني. لم أوفر أحداً يتفوه بكلمة بحقها حتى كنت أسارع لفقعه تقريراً "أجيب له أجله" فيه. وكدليل على إخلاصي للحكومة أذكر أنني ذات مرة رفعت تقريرا بحماتي التي عرفت بعد أن تزوجت ابنتها أنها من عائلة ديمقراطية مشبوهة. وعلى أثر إحدى التعديلات الوزارية قلت لهم إن هذه الوزارة سوف تشيل الزير من البير لأن كل أعضائها من الدكاترة، فضحكت حماتي ضحكة ساخرة وقالت بلغة تعليمية متعالية: الله يستر من الأعظم، كلهم نفس الشيء يا بني. فشممت من كلامها حقداً على الدولة، ولم أتمالك نفسي عن تسطير تقرير بحقها. لا أنفي أنني ترددت في البداية قبل أن أقدم التقرير للعريف الذي كنت على علاقة مباشرة معه، لكنني دست على مشاعري العاطفية ودفعت بالتقرير انطلاقاً من إيماني بأن كل الناس سواسية أمام المخبرين. وخلال يومين فقط داهمت دورية أمنية المدرسة التي كانت تعمل فيها حماتي كمعلمة وشحطوها من أمام تلاميذها الذين كانت تربيهم وتعلمهم واقتادوها إٍلى مكان مجهول للتحقيق معها وبقيت هناك ستة أشهر بين سين وجيم ثم سرحت من عملها وأطلق سراحها بعد أن كتبت تعهداً تعلن فيه أنها لن تعيد مثل هذه الأقوال بحق الدولة التي تفتح المدارس والمؤسسات الاستهلاكية وتشق الطرق وتبني محطات توليد الكهرباء، ومحطات ضخ المياه، وتعطي الرخص لفتح الدكاكين وإقامة الأعراس. ولم أكن متأكداً ما إذا كانت قد عرفت أنني أنا من كتب التقرير بحقها، لذلك عند خروجها ذهبت لأهنئها بالسلامة. لكن ما إن رآني عمي أدخل من بوابة المنزل حتى نهض من بين ضيوفه واندفع نحوي وأنا أظن أنه يهرع لملاقاتي بالأحضان لكني فوجئت حين بصق في وجهي على مرأى من الجميع "تفو عليك يا كلب. انقلع من هون ولك. لا بتعرفنا ولا منعرفك". ومنذ ذلك اليوم لم أر زوجتي إلا في المحكمة الشرعية لتثبيت المخالعة.
للأسف تغيرت الأحوال كثيراً اليوم. تقاريري صارت مثل قلتها ومصيرها الإهمال والتصنيف. فقد رفعت الكثير من التقارير مؤخراً بحق الكثير من الأشخاص الذين صادفتهم والذين كانوا ينتقدون سياسة الدولة علناً ويسخرون منها أمامي رغم أن معظمهم يعرف بأنني مخبر ومع ذلك كانوا يهزؤون مني ومن تقاريري التي كنت أطلقها رشاً ودراكاً بحقهم دون أن تحرك دورية أمن. بينما كنت في الماضي، أكتب التقرير وألفق التهمة التي أريدها فتلقى صدى في الحال دون أن أُسأل في يوم عن مصدر معلوماتي. وكمثال على أهميتي في الماضي أسوق هذه الحكاية: كنت مستأجراً لغرفة في خربة الضبع، وهي منطقة سكنية فقيرة جداً من مناطق السكن العشوائي التي تزنر مدينتنا، وأعترف أنني لم أكن مواظباً على دفع الأجرة كل آخر شهر كما هو متفق عليه وأعذب صاحب المنزل، فما كان منه إلا أن طالبني بإخلاء الغرفة بحجة أنه يريد أن يزوج ابنه فيها. تهربت منه على مدى أشهر لكنه مع الوقت ازداد إلحاحاً ووصلت بيننا الأمور إلى حدوث مشادات عنيفة وهددني بأنه سوف يرمي أغراضي في الشارع إن لم "أضبها" وأرحل. فما كان مني إلا أن رفعت فيه تقريراً ادعيت فيه بأنه قد تهجم علي وقال عني بأنني مخبر حقير وشتم الحكومة التي جعلت من أمثالي "الخـ.. ت" خلق وعالم. وأضفت إنني أشك أنه قد يكون منتمياً لتنظيم سري معاد للدولة وادعيت بأن اسمه هو حزب الجهاد الثوري (في الحقيقة لم يكن من وجود لهذا التنظيم) وبينت أن غاية ذلك التنظيم إسقاط الحكومة عن طريق أعمال تخريبية إرهابية وتفجير سيارات مفخفخة (هكذا ورد بالنص). وفي اليوم التالي لرفع ذلك التقرير داهمت منزله أربع سيارات مدججة بعناصر المخابرات وكانوا بكامل ذخيرتهم واستعدادهم للمواجهة المسلحة وألقوا القبض عليه من بين أصدقائه الذين كانوا عنده وقتها يشربون الشاي والمتة والقهوة ورموه في صندوق السيارة. وقد علمت فيما بعد أنه قد اعترف بانتمائه للتنظيم المذكور وحكمت عليه محكمة ميدانية بالاعتقال عشرة أعوام.
لاحظوا كم كانت كلمة المخبر من أمثالي ثمينة ولها تأثير على الدولة والمجتمع بينما هي اليوم للأسف في عصر الإصلاح والانفتاح والعولمة "متل الضراط على البلاط". لعن الله الإصلاح والعولمة. مؤخراً سمعت أن كاتباً قد كتب مقالة في الكمبوتر نشرها في الإترنيت (هكذا ورد في النص) يقول فيها إن كل هذا الإصلاح كذب في كذب، لأن العجائز الكبار في الدولة هم عبارة عن شلة حرامية ولا مصلحة لهم في الإصلاح وبالتالي فهم يضعون العصي في العجلات، ففار دمي منه وسألت عن اسمه ورفعت فيه تقريراً على السماع "من قفا الدست" لكن يا حسرة، ها قد مضى أكثر من ستة أشهر على ذلك التقرير وما زال ذلك الكاتب المأفون يكتب ضد الدولة ويحرض أعداءها من الديمقراطيين والعملاء عليها وهي لا تحرك ساكناً لإخراسه.
وانطلاقاً من غيرتي على الحكومة التي أعشقها كما ذكرت، طرقت الباب على رئيس الفرع وقلت له: يا سيدي أنا أكتب التقارير منذ أكثر من ثلاثين عاماً وانظر إلى حالي، الثورة التي أعطيتها عمري تعطيني قفاها. أحلفك بحبك للحزب وإخلاصك للدولة أن تفعل شيئاً. فنظر إلى نظرة تشع احتقاراً وقال لي: هذا مو شغلك. إنت شقفة مخبر كل ما عليك أن تكتب التقرير الذي تسمعه وتأخذ أجرتك وتنقلع، ونحن الباقي علينا. أما إذا كنت تريد أن تعلمني عملي فتعال واجلس في مكاني. فارتبكت من نظراته ووليت هارباً وعرفت أنه قد مضى الزمان الذي كان فيه الناس يخافون من خيالهم وكنا، نحن المخبرين، نسرح ونمرح في تقاريرنا ونروع الناس من أشياء تافهة مثل "فلان قال كذا، وفلان حكى النكتة الفلانية، وفلان مشى مع فلان، وفلان خرج من بيت فلان، وفلان لم يصفق، وفلان لم يهتف وفلان لم يدبك في الاحتفال الفلاني". أدركت متأخراً أنني كنت مغسول الدماغ، فقد كتبت كثيراً من التقارير بهدف فضح الفاسدين، من مثل ذلك التقرير الذي رفعته بأمين الوحدة الحزبية في مدرستنا وذكرت فيه أن رفيقنا قد سرق الاشتراكات التي دفعها له الطلاب، واشترى فيها دراجة راح يتبختر فيها حول مدرسة البنات، لكن ذلك التقرير لم يثر اهتمام أحد بل على العكس وكأنه شكل له قوة دفع نحو الأعلى، إذ أذكر أنه على أثرها صار أمين وحدة نقابية في معمل مدينتنا ثم صار رئيس النقابة ورفع تقريراً بدوره برئيس المعمل الذي كان نظيفاً طيّره على أثره وتم تعيين زميلي المخبر مكانه الذي صار فيما بعد وزيراً، وأخيراً اشترى كامل أسهم شركة تعنى بتأجير ناقلات نفط. رفعت الكثير من التقارير بحق البعض ممن كانوا معروفين على أنهم حرامية ولصوص ومرتشون، لكن كان لتقاريري مفعول عكسي، فبدلاً من أن يُسجنوا كانوا يحلقون في سماء المناصب وكأنهم يمتطون صاروخاً فضائياً.
لقد آن الأوان لي كي أتقاعد من مهنة كتابة التقارير. وفعلاً توقفت. وكنت أتوقع أن يتصلوا بي من الفرع ليسألوا عني ويقولوا لي يا رفيق لقد اشتقنا لتقاريرك. لكن أحداً لم يتصل.
أرى اليوم نفسي منبوذاً كالعنزة الجربانة. أجلس في المقهى وحيداً. وإذا جلست إلى طاولة مجاورة لطاولة شباب منغمسين بنقاش ما، سرعان ما يجفلون مني وينتقلون بعيداً عن طاولتي وهم يقولون لبعضهم: العمى من وين طلع لنا هذا؟ ولأطمئنهم، كنت أنظر إليهم وأقول لهم وعيناي مغرورقتان بالدموع: لا تخافوا يا شباب .. لقد تغير الوضع.