لم يعرف المسلمون في تاريخهم قضية اسمها « قضية المرأة » لا من ناحية عملها ولا من ناحية مشاركتها السياسية ولا من أي ناحية ، سواء أكان ذلك في شدة مجد الأمة الإسلامية ، أم في أزمنة ضعفها ؛ وعندما نقل الغرب أمراضه ومعاناته على البشر جميعاً - بمن فيهم المسلمين- ، ظهر ما يسمى بـ « قضية المرأة » ، حيث لا قضية ، ونُودي بتحريرها - وهي أصلا محررة - في معظم مجتمعات المسلمين ، وأرادوا أن ينقلوا المفاهيم الغربية الحديثة - التي كانت رد فعلٍ لعصور الظلام التي عاشتها أوروبا - إلينا ، ويحاكمونا على أساسها ، وأرادوا فرض المفهوم العلماني الغربي للتحرير .
هناك إجماع بين علماء الأصول والتفسير والفقه والحديث على أن خطاب التكليف يستوي فيه الرجال والنساء ، بل قالوا بأن النصوص الشرعية التي يوجه فيها الخطاب للرجال هي في ذات الوقت موجهة للنساء ايضاً ، في كل الأحكام والتكاليف والعظات ، ما لم يأتِ ما يقيد الخطاب مما يتعلق بالخصائص التكوينية للرجال أو للنساء ، ومما لم يصرح به الخطاب بأنه خاص بالرجال دون النساء أو العكس .
ولعل أم سلمة ( رضي الله عنها ) تعد مثالاً واضحاً لهذا الفهم ، فعن عبد الله بن رافع قال : كانت أم سلمة تحدث أنها سمعت النبي ( صلي الله عليه وسلم )يقول على المنبر وهي تمتشط : « أيها الناس » فقالت للجارية : استأخري عني . قالت : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء ، فقالت : إني من الناس (1) .
وبالنسبة للقانون المصري - مثالاً لقانون إحدى الدول الإسلامية - تعتبر الحقوق السياسية فيه هي تلك الحقوق التي يقرها القانون ، ويعترف بها للشخص على أساس الانتماء الوطني . ويربط المشرع غالبًا بين التمتع بهذه الحقوق ، وشرط الجنسية . بمعنى أن هذه الحقوق لا تقرر إلا للوطني دون الأجنبي . ومثال ذلك نص المادة الأولى من قانون مباشرة الحقوق السياسية في مصر رقم 73 لسنة 1957 والتي تنص على : « أن كل مصري وكل مصرية بلغ ثماني عشرة سنة ميلادية يباشر بنفسه الحقوق السياسية » كما تنص المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب رقم 38 لسنة 1972 المعدة بالقانون رقم 109 لسنة 1976 والمادة السادسة من قانون مجلس الشورى رقم 120 لسنة 1980 والمادة 75 من قانون الحكم المحلي 43 لسنة 1979 على « أن يشترط للترشيخ أو للتعين في هذه المجالس أن يكون الشخص متمتعًا بالجنسية المصرية » كما ينص الدستور الحالي في مادته الخامسة والسبعين على « أنه يشترط فيمن ينتخب رئيسًا للجمهورية أن يكون جنسية والديه مصرية » .
ويمكن إجمال مظاهر الحقوق السياسية للمجتمع المسلم عامة فيما يلي :
1) اختيار الحاكم والرضا به وهو ما كان يعبر عنه في التراث الفقهي « بالبيعة » .
2) المشاركة العامة في القضايا التي تخص عامة الأمة ، وهو مبدأ الشورى الذي حث عليه الإسلام .
3) تولي المناصب السياسية في الحكومة أو مؤسسات الدولة .
4) نصح الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر .
فلم يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة في كل هذه الحقوق المذكورة وبيان ذلك ما يلي :
أولا : اختيار الحاكم والرضا به وهو ما كان يعبر عنه في التراث الفقهي « بالبيعة » :
ذكر الله البيعة عامة دون تخصيص الرجال والنساء في أكثر من موضع فقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) [الفتح :10] ، كما ذكر الله أمر النساء في البيعة فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [الممتحنة :12] ، فأثبت القرآن الكريم حق المرأة في مبايعة الحكم كالرجال تماماً، واعتبار صوتها بصوت الرجل دون تمييز بينهما .
ثانيًا : المشاركة العامة في القضايا التي تخص عامة الأمة ، وهو مبدأ الشورى :
وقد حث الإسلام على مبدأ الشورى بين الحاكم والرعية ، ولم يفرق بين الرجل والمرأة في ذلك ، وقد أرشد إليها ربنا في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، فقال تعالى في ذكر محاسن المسلمين : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) [الشورى :38] ، وقال تعالى في أمره لنبيه ( صلي الله عليه وسلم ) والذي يمثل ولي أمر المسلمين وقتها : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ ) [آل عمران :159] .
واستشار النبي ( صلي الله عليه وسلم ) زوجته أم سلمة رضي الله عنه في موقف عصيب ، في صلح الحديبية بعدما كتب معاهدة الصلح مع المشركين ، وبعدها أمر المسلمين بأن يقوموا ينحروا هديهم ويحلقوا ؛ فإنهم لا يذهبوا إلى مكة في هذا العام ، فلم يقم منهم أحد ، فيروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فيقول : « فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " . قال : فوالله ما قام منهم رجل . حتى قال ( صلي الله عليه وسلم ) ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد دخل ( صلي الله عليه وسلم ) على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس . قالت له أم سلمة رضي الله عنها : يا نبي الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعوا حالقك فيحلقك ، فخرج النبي ( صلي الله عليه وسلم ) فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضًا » (2)
وفي عصرنا الحديث لم يعترض علماء الإسلام على ترشيح المرأة في المجالس النيابية ، وتمثيل فئة عريضة من الشعب والمشاركة في سن القوانين التنظيمية ، ولقد أصدرت دار الإفتاء المصرية الفتوى رقم 852 لسنة 1997 عن حكم جواز أن تكون المرأة عضوًا بمجلس النواب أو الشعب خلصت فيها بأنه : لا مانع شرعًا من أن تكون المرأة عضوًا بالمجالس النيابية والشعبية إذا رضى الناس أن تكون نائبة عنهم تمثلهم فى تلك المجالس وتكون مواصفات هذه المجالس تتفق وطبيعتها التي ميزها الله بها وأن تكون فيها ملتزمة بحدود الله وشرعه كما بين الله وأمر فى شريعة الإسلام .
ثالثا : تولي المناصب المهمة في الحكومة ومؤسسات الدولة :
جاءت آثار في تولي المرأة السلطة التنفيذية ، أو الشرطة ، أو ما تسمى في التراث الفقهي الإسلامي « الحسبة » ، وكان ذلك في القرن الأول ، وعلى خلفية هذه الآثار أجاز بعض علماء المسلمين تولي المرأة هذا المنصب القيادي الحساس في الدولة الإسلامية ، حيث جاء في الموسوعة الفقهية ما نصه : « وأجاز توليتها آخرون لما ثبت من أن سمراء بنت شهيك (3) الأسدية كانت تمر في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتنهى الناس عن ذلك بسوط معها » (4)
وخبر سمراء رواه أبو بلج يحيى بن أبي سليم قال : « رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي ( صلي الله عليه وسلم ) عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر » (5) .
كما يجوز للمرأة أن تتولى القضاء على قول بعض أهل العلم من علماء المسلمين المعتبرين ، فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه : يجوز أن تلي النساء القضاء فيما يجوز أن تقبل شهادتهن فيه وحدهن أو مع الرجال ؛ لأن في الشهادة معنى الولاية ، وقد ذكر ابن حجر ذلك فقال : « والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور وأجازه الطبري ، وهي رواية عن مالك ، وعن أبي حنيفة تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء » (6) .
فما مر يبين وضع تولي المرأة مناصب مهمة في الحكومة في الواقع الفعلي للمسلمين ، وفي التراث الفقهي لهم ، أما في عصرنا هذا فتشارك المرأة الرجل - في أغلب الدول الإسلامية والعربية - في جميع وظائف الدولة والحياة السياسية والعلمية ، فالمرأة سفيرة ووزيرة وأستاذة جامعية وقاضية منذ سنوات عديدة ، وهي تتساوى مع الرجل من ناحية الأجر والمسمى الوظيفي لكل تلك الوظائف .
رابعا : نصح الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر :
بدأ نصح النساء لولي الأمر وقول الحق عنده مبكراً ، في القرن الأول في تلك القرون الخيرة ؛ ففي خلافة عمر رضي الله عنه يروي لنا قتادة ذلك فيقول : « خرج عمر من المسجد ومعه الجارود العبدي ، فإذا بامرأة برزت على ظهر ، فسلم عليها عمر فردت عليه السلام ، وقالت : هيهات يا عمر ، عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ ترعى الضأن بعصاك ، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين ، فاتق الله في الرعية ، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ، ومن خاف الموت خشى عليه الفوت » (7) .
وعن أبي نوفل قال: . . . دخل الحجاج ابن يوسف الثقفي بعد مقتل عبد الله بن الزبير على أسماء بنت أبي بكر فقال : « كيف رأيتني صنعت بعدو الله ، قالت رأيتك أفسدت عليه دنياه ، وأفسد عليك آخرتك ؛ أما إن رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) حدثنا أن في ثقيف كذابًا ومبيرًا ، فأما الكذاب فرأيناه و أما المبير فلا أخالك إلا إياه . قال : فقام عنها ولم يراجعها » . (8)
هذه نماذج قليلة والتاريخ الإسلامي ممتلئ بالكثير من الصور كهذه ، أما الآن فالمرأة يتاح لها هذا الحق كالرجل من خلال القنوات المشروعة ، كالصحافة ، أو عضوية مجلس الشعب ، أو غيره من القنوات المشروعة لنصح الحكومة وإنكار الأخطاء في تصرفاتها وإقرار الصواب فيها .
ولعلنا في تلك العناصر الأربعة نكون قد أوضحنا في إيجاز غير مخل حقوق المرأة السياسية وأن متساوية مع الرجل فيها ، والله ولي التوفيق .
---------------------------
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ( ج4 ص 1795 ) .
(2) رواه أحمد في مسنده ( ج4 ص 330 ) والبخاري في صحيحه ( ج2 ص 978 ) .
(3) والصواب " سمراء بنت نهيك "
(4) الموسوعة الفقهية الكويتية ( ج17 ص 241 ) حرف الحاء حسبة .
(5) رواه الطبراني في المعجم الكبير ( ج24 ص 211 ) وذكر أن رجاله كلهم ثقات وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ( ج4 ص 1863 ) والهيثمي في مجمع الزوائد ( ج9 ص 264 ) .
(6) فتح الباري لابن حجر العسقلاني ( ج8 ص 128 ) .
(7) الاستيعاب لابن عبد البر ( ج4 ص 1831 ) والإصابة لابن حجر ( ج7 ص 620 ) .
(8) أخرجه مسلم في صحيحه ( ج4 ص 1971 ) .